جدي حسن عطاالله الجبور -رحمه الله-
صفحة من سيرتي الذاتية كتبتها بعد وفاة جدي بيوم تقريبًا، حيث توفي جدي الاثنين مساءً، وكتبتها في الثلاثاء مساءً 17\2\2015م.
د.سهام علي السرور
نعم كانت ليلة بائسة تلك التي زرت فيها جدي في المستشفى، ليلة لا تمت للسعادة بصلة، بل حتى لا صلة بينها وبين الحياة سوى الموت، فالموت ذاته صلتنا الأخيرة بالحياة، والنقطة التي تنهي صفحة حياتنا في كتاب البشرية.
بعد عودتنا من المستشفى، بقي جدي ومعه عدد من الرجال، ولكنني عدتُ ولم يعد قلبي وعقلي، وجدتني مترامية الأطراف والأفكار بين كتبي وأوراقي، بين وسادتي وشباك نافذتنا الذي بدا جزء منه من خلف الستائر، ليلة باردة كانت بحجم برودة قدم جدي حين وضعت يدي عليها وهو في المستشفى، تلك القدم هي ذاتها التي جاءت به إلى بيتنا كل عيد ليعايدنا ويعطي كل واحد منا دينار عيدية، تلك الدينار التي لم تفقد قيمتها المعنوية ولا حتى الاقتصادية مع مرور الزمن، تلك الدينار التي كان فيها من البركة ما يكفي لنشتري بها الحلوى والبسكويت لكل من يرافق شقوات طفولتنا، تلك الدينار التي فعلت لنا من السعادة ما لم تفعله ميزانيات دول، وشخصيات صنعت لنفسها رداءً من المحسوبية المذهّبة تلبسه فوق جلد من الطحالب التي لا تعيش إلا على سحق الآخر بعد أخذ حقوقه بذريعة القانون وتحت رقابة الدستور.
عندما رأيت جدي في المستشفى شعرت بأنها ساعاته الأخيرة، نظرت في وجه أمي وإذ به يمتلئ تجاعيد، نظرت إلى أخي إلى أختي كلهم خرجوا من غرفة الرعاية الحثيثة والدمع يملأ عيونهم، ولكنني بقيت واقفة أنظر إلى جدي وأنا أتذكر كل جميل، فجدي لم يقدّم لنا إلا الجميل، نظرت إلى وجه خالتي فرأيت الصبر في ملامحها، وكلمات أبي جاءت من الهاتف متثاقلة يسأل عن جدي عن أمي عن كل شيء، حاول أن يظهر القوة في هذا الموقف، ولكنه نسي أنني اعرف نبرات الحزن من صوته، عدنا إلى البيت فمات جدي بعد عودتنا بساعات قليلة.
يا عقلي ... يا قلبي.... نعم مات جدي.... ليقتنع كل منكما أن جدي قد مات، فكم مرة يجب أن أعيد هذه الجملة لتعلما أن جدي قد مات، إن كان هذا القول لا يروق لكما فلتستبدلا كلمة الموت بالحياة، فالموت لا يلغي وجود إنسان في كياننا بحجم جدي، والحياة لا تثبت وجود إنسان في كياننا أبدًا.
على سبيل المثال يا عقلي، فكل من لم يُعزّنا بوفاة جدي من الأقارب فهو ميّت، وكل من تجاهل بيت عزاء جدي من المعارف ميّت، وكل من تكاثر علينا العزاء من الأصدقاء ميّت، وكل من تظاهر بعدم علمه بوفاة جدي هو ميّت، وكل من ضحك على جراحنا ميّت، وكل من سخر بأحزاننا ميّت.... والقائمة تطول كثيرًا، ولكن جدي حيٌّ في قلبي لا يموت.
جدي شعب بأكمله، بل قُل تاريخ من الحرب دفاعًا عن الأقصى، وسجل من الصبر بعد وفاة ولديه، ونقطة من التحول بعد وفاة خالتي عيده، فمنذ وفاتها بدأت بجدي ساعات الموت البطيء.
جدي الغالي سأخاطبك كما يتخاطب الأحياء، فأنت حيٌّ في نفسي ما حييت أنا، لهذا لن أخاطبك يومًا على أنك ذهبت، فللمستشفيات حرية تعبئة سجلات الموتى بمن تريد، وللأحوال المدنية صلاحية قطع شهادة وفاة لمن ترغب أيضًا، ولكنني لن أقطع لك شهادة وفاة في نفسي ما حييت، أعدك بذلك جدي الحبيب.
أعيروني ألف عين
امنحوني ألف قلب
واقطعوا لعقلي شهادة
تثبت أنه فاقد الصلاحية
فأنا في مجتمع عربي
لا يُقدَّر فيه كل ثمين
سوى البترول والذهب
وأنا لا أقبل دور الضحية
لهذا سأقبل دور السجين
ولكن اتركوني أقول ما أريد
أبوح بكلمات من جليد
يحق لي أن أصيح ولو كالمجانين
أن أبكي فبكاء الأبطال عظيم
في واقع من السعادة عقيم
كل جميل يذهب
كل هم لهم يُنجب
لست أنا أنا
ولم يعد أحد يسمعنا
بعد خسارات عامين
جاء موت جدي
فاتشحت بالسواد طفولتي
حتى رقصاتي بها تبكيني
أين ذهبت الأحلام والأمنيات؟
وحتى تلك الدينار
التي كانت كألف ألف دينار
لم يعد منها تذكار
سوى أنها من جدي
وجدي.... يُحكى أنه مات
صفحة من سيرتي الذاتية كتبتها بعد وفاة جدي بيوم تقريبًا، حيث توفي جدي الاثنين مساءً، وكتبتها في الثلاثاء مساءً 17\2\2015م.
د.سهام علي السرور
الكاردينيا:الزميلة الدكتورة / سهام ..نشارككم الأحزان.. تغمد الفقيد برحمته الواسعة .. إنا لله وإنا اليه راجعون..
970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع