أ.د. محمد الدعمي
” لست أبالغ في الإعلان عن أني أتحسس رغبات شعبية واسعة لم تعد تتشبث بـ”الربيع”، بل تتمنى عودة “الشتاء” باردا ومتجمدا لرجعة اشكال القوى المغادرة التي سبق أن قدمت لفئات واسعة من شعوبها قدرا أدنى من الاستقرار والهدوء، الشرطان المسبقان لوجود اجتماعي وسياسي مستقر، على أقل تقدير!”
ـــــــــــــــــــــ
إبتنى النفوذ الغربي تعرضه “لإصلاح” العالم العربي على عدد من المثل، وقوامها المباديء والقيم الجديدة الطارئة على مجتمعاتنا. وإذا كانت هذه المثل قد امتطيت من قبل العديد من القوى المحلية ووسائل الإعلام ذرائعا لتحقيق نوع من التغيير “الجذري” الذي أصطلح عليه “الربيع العربي”، اعتباطا وتعسفا، فإن النتائج النهائية لما حدث في السنوات الأخيرة عبر هذا العالم، غير المتيقن من مستقبله ومما يريد بالضبط، تشير الى حقيقة مريرة بالنسبة لنا، عربا، وبالنسبة للـ”آخر” الغربي الذي يراقب مسرحا لأحداث لا يمكن أن تضم الى التواريخ التقليدية، أنماطا مقبولة أو متكررة.
إن أية مراجعة، مهما كانت عرضية أو سريعة، لأحوال دول العالم العربي التي شهدت وعاشت التغير المزعوم أعلاه تشير إلى حقيقة مريرة مفادها أن الفوضى والتشبث اللامجدي بالشعارات وغياب الرؤيا القيادية الحكيمة قد قوضت المثل التي سوقها العالم الغربي إلينا بصفة مبادئ وقيم لم نعهدها أو نخبرها من ذي قبل، بدليل مراجعة أحداث ليبيا والسودان، اليمن والعراق، سوريا وتونس مذاك حتى اليوم.
لذا، فقد فعلت شعارات “ارحل” و “نريد التغيير” و “الحريات” و “الديمقراطية التمثيلية” فعلها السحري في شعوب العديد من الدول أعلاه إلا أن النتائج النهائية غير المتوقعة جاءت على نحو معاكس للآفاق الوردية التي رسمتها تلك الشعارات التي خدمت مطية لأشكال قوى جديدة لتحل محل أشكال القوى الآفلة التي أطلق عليها أشقاؤنا المصريون لفظا دقيقا ومعبرا، هو “الفلول”، باعتبار ان “الثورة” لم تكن سوى معركة شهدت هزيمة أشكال القوى المغادرة، ولم يتبق منها سوى الفلول الفارة!
لست أبالغ في الإعلان عن أني أتحسس رغبات شعبية واسعة لم تعد تتشبث بـ”الربيع”، بل تتمنى عودة “الشتاء” باردا ومتجمدا لرجعة اشكال القوى المغادرة التي سبق أن قدمت لفئات واسعة من شعوبها قدرا أدنى من الاستقرار والهدوء، الشرطان المسبقان لوجود اجتماعي وسياسي مستقر، على أقل تقدير!
ثمة “نوستالجيا” صادمة تتبلور حنينا للماضي في العديد من المجتمعات التي سبق أن “ثارت” من أجل “ربيع” لم يتبلور أخضرا، بقدر ما تبلور على نحو معاكس ليطلق العنان لقوى مدمرة وذاتية التدمير لم تتمكن من أن تقدم لشعوبها وبلدانها من ثمار الربيع شيئا، للأسف.
إنه لمن البساطة بمكان أن يندفع قاريء ملاحظاتي أعلاه ليوصمني بلفظ شائع يستعمل على نحو اعتباطي عندنا، وهو “الرجوعية”، إلا أن للمرء أن يرنو إلى العودة الى قواعده سالما، قبل أن يخسر كل جنوده وكافة أحلامه دفعة واحدة، خاصة عندما يتيقن من قدرة غول “الفوضى” على إبتلاع ما لا يمكن لعقل أن يتكهن به من الآمال والأحلام.
لايدري المرء كيف امتد خط التاريخ العربي لينعقف ثم يلتوي التواءات غريبة ليصب بمعاكسات التقدم في نهاية المطاف.
972 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع