لو كانت شهادة الدكتوراه منديل \ مزيل عرق للجبين
صفحات من سيرتي الذاتية
كل شيء في النص مقصود حتى الأخطاء الإملائية .
كتبتها الجمعة 30\1\2015م.
د.سهام علي السرور
تنحت من الصخر مستقبلا لك، تجمع ثمن لقمتك لتدرس، ترفع الجامعات رسومها على الطلاب، ترفع (الباصات) الأجرة على الركاب، حتى المسافة بين البادية وإربد تصبح كأنها مسافات بين دول وفق مزاج سائق (الباص)، تتعرف على مجتمع لا يشبهك، كم يتردد في ذهنك حينها جملة "ليت أبي وأمي لم يربياني على الطيب والصفات المثالية في عالم يرزح بالدونية"، تواجهك مشكلة التوفيق بين مكان سكنك ومكان عملك ومكان دراستك، فتصبح في كل مكان منك أشلاء، ولا تسلم من البشر في كل مكان، وليتك سلمت من الأقارب، فالتفوق جاذب للكره حيث يُفسَّر صمتك خُبث وكلامك نفاق هكذا يفسرونك، كأنك هُم، يذمونك بما هو فيهم وليس فيك، لهذا ترى أن الكتب والدراسة عالمك الأنبل، وهذا من أسباب خلوتي عشرات السنين بين الكتب، وابتعادي حتى عن المناسبات الاجتماعية، واقتصار علاقتي اليومية ومعظم مكالماتي الهاتفية على والديّ وأخوتي وأخواتي، والعمل.
كل كتاب ترغب بالحصول عليه بقدرة قادر يصبح ثمنه كل ما في جيبك، لهذا بإرادتك أو بلا إرادتك تتسول المصروف من أفراد أسرتك الذين لا يقلون عنك تعثيرا ولا قيد أنملة، تتقطعك الدروب والقروض والديون في النهار، ويتقطعك البرد والوحدة والسهر في أزقة الكتب ليلا، ستضطر لبيع كتبك قبل نهاية الفصل في مرحلة البكالوريوس لتحصل على أجرة الطريق لتعود إلى بيتك، ونفس المكتبة التي اشتريت منها الكتاب قبل أسبوع ستشتري منك الكتاب نفسه بلا إضافات أو خربشات بلا تمزقات أو تعديلات ستشتري منك الكتاب الذي ثمنه أربع دنانير بنصف دينار، هي نقلة نوعية كملايين النقلات النوعية التي ستصدمك في حياتك، سأذكرك بهذه الصدمة بعد أن تحصل على الدكتوراه أنت أيها البطل الجالس في عقلي، بالمناسبة هل ستبقى عقلا لي يا عقلي، أم سأبيعك يومًا ما للحصول على رغيف خبز، أو لأبني غرفة تجمع كتبي وتجمعني في هذا العالم الفوضوي! أم ستعود لك هيبتك بعد أعوام من التهميش والتطنيش!
وبعد مناورات وشد وجذب، وبعد سقوط حر واضطراري وانتحاري، وقبل النفس الأخير بقليل، حصلت على الدكتوراه في الأدب والنقد في جامعة اليرموك، كنت أظن تاريخي مشبع بالبطولة لدرجة أنني وبسذاجة الطلاب المتفوقين بدأت بكتابة سيرتي الذاتية حين كنت في مرحلة الدكتوراه لأن كل ما كان يمر بي أثناء دراستي كان صعبا، وكان تغلبي عليه استثنائيا، ليأتي أحدهم بعد الدكتوراه ويقول لي: حياتك لا تستحق الكتابة.
لا أعلم كيف حكم بذلك وهو لا يعرف عني سوى اسمي ومعدلاتي الجامعية؟ ألا يعلم أنني عشت معظم حياتي في بيت من الشَّعر، حتى مدرستي تدعى أقل حظًا، ويبدو لي أن كل من تخرج فيها خرج بأقل حظ.
المهم بعد كل ذلك وغير ذلك الكثير حصلت على الدكتوراه، وإلى الآن أذكر مسدس أبي الذي تعطل حين حاول أبي فرحة بتخرجي أن يطلق العيارات النارية في الهواء، لم يطلق سوى رصاصة واحدة ثم تعطل المسدس، وانتهى به المطاف إلى قطعة خردة، لماذا رصاصة واحدة؟ أيكون لها في مستقبل حياتي أخت تونس وحدتها ولكن ليست من يد والدي وليست فرحة في الهواء بل فرحة بالاستقرار في قلبي! أتبدأ الدكتوراه برصاصة وتنتهي برصاصة! لا أعلم فأنت في عالم مجنون يقودك تفكيرك العقلاني إلى الجنون حتمًا، أعود إلى المهم بعد الدكتوراه، ظننت أنني حسنا فعلت، وأن أمامي الآن حمل لابد النهوض به، كم أحببت العمل في الجامعات! كم كنت أستلذ طعم التعب في قاعات الدراسة في محاضراتي بين صمت الطلاب ومناوشاتهم الآنية!
لم أكن أعلم أن الدبلوم يفوق الدكتوراه بملايين السنوات الضوئية، الدبلوم تلك السنة الدراسية التي لا علم لي بأن أحدهم قد رسب فيها يومًا، في حين أن الدكتوراه التي يشيب قلبك وعقلك قبل الحصول عليها، بعد غربلة الأساتذة والاختبارات والحياة، بعد التوفل والقبول والكفاءة والأطروحة والمناقشة، ليست شهادة تربوية (كما زعموا) لتترقى في وظيفتك الحالية، هكذا حدث حين تم إسقاط اسمي، رغم أنني الفتاة الوحيدة الحاصلة على الدكتوراه من بين المتقدمات للوظيفة، حين قيل لي لا اسم لكِ عندنا، كانت هذه ذريعتهم أو جريمتهم لا فرق بين هذه وتلك حين تعود مظلومًا، فعدت عودة المحاربين القدامى بتذكار "يا صاحب الجاكيت الحكومية"، بقدرة قادر أيضًا يكون اسمك موجودًا في المساء ثم في الصباح يسقط سهوًا بل عمدًا من ذات السجل، لهذا تحتفظ بنسخة من السجل قبل أن يسقط اسمك منه كرغبة منك بالاحتفاظ بحقك للحظة.
وقبل هذا للمفارقة العظيمة حين وافق وزير الثقافة لانتدابي قال موظف مغمور قرب مكان عملي حين وقعت معاملتي ولسوء حظي بين يديه "لا يمكن الاستغناء عنها" يقصد "عني أنا" سبحان الله أنا لا يمكن الاستغناء عني!، كم تم شطب اسمي من قبل ومن بعد، والآن حين يصبح في الأمر شيء أحبه يصبح لا يمكن الاستغناء عني! رغم سوداوية الموقف تفكر للحظة بينك وبين العقل الجالس داخلك، وتقول من باب رد الاعتبار " أترى يا مجنون لمكانتي المرموقة لا يمكن الاستغناء عني" ولكنك سرعان ما تقهقه على نفسك كالمجنون أيضًا وكالمجنون تمامًا تبكي سرًا.
وأعود وخلفي المعاملات كلها "مع الرفض" هناك حيث يقبع المتنفذون، وأعود إلى حيث يرزح المهمشون، فتخط يدي صفحة في سيرتي السابقة الذكر بعنوان "لا سرفيس بين الثقافة والتربية"، طبعًا أقصد الوزارتين.
في ذات العام للمفارقة أيضًا ولتعلم أيها القلب كم صفعة بل كم صفقة أقصد قصفة ستُلقي بك الدنيا، في ذات العام أحصل على فرصة عمل في إحدى جامعات الدول المجاورة، وحين أذهب لأوقع العقد في مكتب لتصريف الأبطال المغمورين يرعبني العدد الكبير لحملة الشهادات العليا الموقعين للسفر، فدبت في عروقي الوطنية والأسرية، كيف أترك مكان طفولتي! كيف أترك بلدًا فيها درست وتعلمت! كيف أترك تراب داسته أقدام أمي وأبي! أيكون الصباح صباحا بدونهما! حتما ذلك الوطن الذي ليس وطني هو سجن كبير! بهذه الجمل وغيرها الكثير من الإشارات الاستفهامية والتعجبية وحركات الوجه الإنكارية أعود وقد مزقت عقد العمل بعد توقيعه، متناسية أين أنا من ذلك كله، ومتناسية أيضًا أن عملي ذلك خير لي ولأمي وأبي مما أنا فيه الآن، والآن بعد عام وأكثر أقول بصدق ليتني مزقت ذكرياتي ولم أمزقه.
وكي تقهقه من أعماقك وتضحك كما لم تضحك من قبل سأقول لك تخيل بعد أن حصلت على الشهادة المذكورة أعلاه (قد يكون مجرد ذكرها جريمة لهذا أرجو أن لا تورطني بإعادة ذكرها ثانية) بعد حصولي عليها أصبحت الجامعات تفضل حملة الماجستير( معهم حق أوفر للجامعة)، ولكنك كالمشرد تذهب وتعود وتذهب وتعود وتقابل (يعني مصدق نفسك) ويتردد اسمك في المكاتب، أتذكر حين كنت تذهب خارج محافظتك، كان أبناء تلك المحافظات أولى بجامعاتها في الوظيفة، أما هنا في محافظتك فكل الأمة العربية أولى منك بل يا سيدي حتى الأمة غير العربية أجدر منك، نعم فنحن ضد العنصرية والتمييز وندعو للشفافية على كافة المستويات ولو على حسابك أنت أيها العقل القابع في داخلي ... اصمت يا عقلي ولا تذكر أي مقارنات بينك وبين أبناء الدكاترة أو المتنفذين، فكلهم أولى منك بالحظ، لهم الحالات الإنسانية والاستثنائية ولك الحالات الاستبعادية والاستعبادية، وأرجو أن يطول صمتك يا عقلي هذه المرة فما الحياة معك سوى صراع، تخيل لو بأموال دراستك عملت شيئا آخر، لو أكلت فيها خبز لأصبحت أسمن مخلوق في العالم، لو كنت رجلا لتزوجت أربع نساء، لو كنت مدمنا لأصبحت زعيم المدمنين، ولكن ها أنت بعد الدراسة أول الطفرانين، وقريبا ستصبح أبرز المطلوبين، وستتذكر وأنا أجرجرك في شوارع الحظ المقصوفة أن شهادتك الدكتوراه لو كانت لفافة جروح لكانت أكثر فائدة، ستتذكر والعرق يتصبب من جبينك وأنت الوحيد تحت الشمس لو كانت شهادتك منديلا تجفف به عرقك أو حتى علبة مزيل عرق لكانت أكثر فائدة من ورقة لم تقدم لك سوى أنك أصبحت مظلوما بجدارة، ومطلوبًا للرصاصة.
لو كانت شهادة الدكتوراه منديل \ مزيل عرق للجبين
صفحات من سيرتي الذاتية
كل شيء في النص مقصود حتى الأخطاء الإملائية.
كتبتها الجمعة 30\1\2015م.
د.سهام علي السرور\ الأردن.
952 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع