بقلم : سعاد الورفلي *
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
نعلم جيدا أن نقص الهيموجلوبين في الدم يؤدي إلى ما يسمى طبيا بـ(فقر الدم) ويعوض هذا الفقر بالتركيز على التغذية السليمة ، والاهتمام بالمصادر التي تؤدي إلى تغذية الدم بعنصر الحديد أو الهيموجلوبين أو الخضاب ...حتى يتمتع الإنسان بالصحة الجيدة وتقوى خلاياه ، ولا يتعرض للهبوط أو للدوخة والشحوب والهزال وإلى ما لا تُحمد عقباه.
هذه نبذة جدُّ بسيطة عن معنى الهيموجلوبين حسب استعمالاتنا له في حياتنا العامة ..وحينما يحتاج الإنسان أن يكشف عن قوة دمه فما عليه إلا أن يفحص نسبة ذلك الهيموجلوبين .
أما الهيموجلوبين الذي قصدته في مقالي هذا : هو هيموجلوبين القراءة ومعدلة في حياتنا ..ونسبه الصحية ... !
كيف حال القراءة لدينا ..وكيف حالنا مع القراءة ؟
هذا سؤال مثير ومثير جدا ؛ هل نحن أمة تقرأ بشغف ، بنهم ، بشراهة ؟
هل نحن نقرأ حسب الأمزجة والأهواء ؟.
هل الشهوات ومشاغل الحياة تحيل بيننا وبين القراءة ؟
لماذا نجد قلة في صفوف القارئين بيننا ؟
فهناك من يعبر عن رغبته للقراءة لكنه يُمضي الوقت في أمور أخرى ، وينتهي العمر وقد خلف وراءه أكواما من أوراق شتى لم تمسسها يداه
ما الأمر ؟
بيوتنا تزينت بمكتبات فارهة وجميلة ، سألتُ أحدهم كان يتربع على كرسي مكتبته مجلد عن تاريخ العرب وأصولهم ، هل قرأت المجلدات ؟
ابتسم متأسفا : أنه تصفح ورقتين وحسب !!
منذ متى وهذا المجلد يتربع عرش المكتبة ؟
قال مقلبا عينيه في زوايا المكتبة : منذ ربع قرن ..أو بالأحرى منذ أن امتلكه جده وتركه ذخيرة لمن بعده ! كما يقولون لولي العهد!
مبتسما ...سألته: وهل كان جدك يقرأ؟
أجاب دون امتناع : لقد كان يقرأ بنهم ...أتذكر مرة : أنه كان يسهر الليل على ضوء (فانوس ) أو شمعة أو حسبما اتفق ..ليكمل هذه المجلدات التهاما ..
توجه نحو المكتبة وسحب كتابا بهتت أوراقه وظهرت صفراء ...تصفحها ثم قال : انظري ...هذا أثر زيت الفتيل على الصفحات ...
قلّب صفحة أخرى ثم قال وهو يتحسس أثر شمعة ...هنا آثار الشمع متناثرة على صفحات الكتاب ...يبدو أن جدي كان يقارب ويباعد ضوء الشمعة كي تظهر له الحروف جلية ..
وهنا على حواشي الكتاب شروح لجدي لبعض الكلمات إلى جانب كتابته لتاريخ الليلة التي توقف عندها ...
أقفل الكتاب وأضاف : أصيبت رقبة جدي بما يشبه الحدبة من كثرة الجلوس والانكباب على الكتب ..
كلهم يحترمون خلوته ...كانت جدتي توفر جوا من الهدوء حينما يقبع في حجرته التي أسموها بخلوة جدي كي يظفر بشيء من العلوم .
سألته: هل جدك متخصص في مجال ما ؟
معلم مثلا!!
صمت قليلا ثم قال : كل ما أعرفه عن جدي أنه درس في الكتّاب ..أتقن قراءة القرآن الكريم ...ثم اشتغل في حرف متنوعة ...سمعتُ والدي يحكي عنه قائلا: كان يناصف الدراهم بين مأكولنا وما يقرأه ..
كان ذلك الجد موضع احترام كثير ممن حوله ، بل جعلوه في مرتبة العلماء ..وكانت له مكانته في ذلك المجتمع حتى عاصرناه نحن الأحفاد.
قبض على الكتاب وضمه مصفوفا بين الكتب ..قائلا: هذا يبقى ربما لأجيال تبحث في بطون الكتب من أجل رسالة جامعية على الأغلب .
ألا تقرؤون ؟
أجابني بكل ارتياح :
المشاغل وضغوط الحياة لاتسمح لنا بذلك !
نحن شعوب هجرنا القراءة ، الذي يقرأ فينا لاتتعدى قراءته الكم المطلوب.
قليل من كثير الذين يمضون أوقاتهم في مصارعة الوقت للظفر بسطور كتاب .
قليل منا يستنفدون أوقات الفراغ في قراءة متأنية
قليل جدا من يجلس عند محطات المواصلات و"صالات" الرحلات ليقتلوا لحظات الانتظار في مداعبة أسطر صحيفة .
قليلات من ربات البيوت من تلفت أنظارهن صفحات مجلات ثقافية .
إحدى الأمهات كان هذا الحوار بيني وبينها :
هل تقرئين؟
أووووه .....لقد ذكرتِني بأيام الدراسة...!!!!
كان هذا ردها
ومنذ متى ؟
منذ عشرين سنة لم تنظر عيناي في سطور كتاب للثقافة ! أو حتى للمراجعة !
وكيف ذلك ؟
تخرجت ثم تزوجت ..وتفرغت للزوج والبيت والأولاد ..والمناسبات الاجتماعية .
أتصدقين : لم أعد أتقن حتى قراءة بيت شعري قراءة صحيحة
وأسردت ضاحكة : سيتكسر ويصاب السامع بما يشبه النشاز؟
إذن لماذا لاتقرئين؟
أجبتك ..أنا أم ..وربة بيت ..ومسؤولياتي أكبر من أن أمسك كتابا !
ولكن للثقافة دور في تغيير روتين حياتك ..ألا تتفقين معي ؟.
صمت ٌ طويل ...بعده قالت :
صحيح ..لاأنكر هذا ..حتى أني أتذكر في يوم ما احتجتُ لكثير من الاستشارات الاجتماعية والزوجية ..لم اسطع شراء كتاب عن الحياة الزوجية ، وجلست لأشاهد حلقات عن الحياة الزوجية عبر إحدى القنوات.
انتقل بي سؤالي إلى طلاب جامعة يتحلقون حول بعضهم لكتابة أشياء عبر الشات والدرشات ..
هل تقرأ ؟
كان وجهه بضا ..حينما نظر نحوي وهو يقفل جهاز الجوال الذي بين يديه
هز رأسه نافيا الموضوع برمته!
ولماذا ؟
لا أحب القراءة..أراها هواية ...أومتعة لمن لديه وقت ضائع!!
استغربت لكلمات هذا الشاب الجامعي وكيف لثقافته أن تنحى به هذا النحو من الإجحاف والاستهانة بقدر القراءة .
طالبة جامعية بالركن الآخر تجلس والمكتبة خلف ظهرها وبين يديها مجموعة مذكرات ترشف فنجان قهوة بهدوء وتمعن :
هل تقرئين؟
قالت نعم أنا أقرأ في الجامعة !
قصدت للثقافة ..هل تطالعين ؟ ما أهمية الكتاب في حياتك؟
ابتسمت بحياء قائلة: بصراحة لاأقرأ الكتب : إنها تخيفني ..كبيرة وأشعر أنني سأضيع بينها ..لكنني أحب المجلات الخفيفة ، كتب الطبخ ، مجلات المرأة الفن..وما يشبهها ! إلا أنني لاأقرأ ..فقد تستهويني صور الموضة ..والإكسسوارات ...الملابس ..وبعض الأزياء ..وحسب
قلت في نفسي لعلها بادرة لقرع أبواب القراءة ..
وهل تقرئين زوايا المجلات التي تُصَفّ فيها القصص وأعمدة المقالات ..
حقيقة : الخواطر القصيرة أطالعها وأحيانا أنقلها لجوالي وأخزنها للمراسلات أما المقالات الدسمة فهي لاتغريني !
وبين أفنية الثقافة والعلم ..تجولت بفكري وسؤالي المسيطر إلى ذوي الاختصاص سائلة إياهم بجواب مقتضب عما يحدث لهيموجلوبين القراءة في بلداننا .
أجابني أحد الأساتذة قائلا:
والله هذا ما تعانيه الكثير من البلدان ..والأجيال المتوالية : يمتنعون عن القراءة ..حتى أنهم لايطالعون منهجهم ..هم يريدون من يحاضرهم ويحضر لهم أسئلة الامتحان ويجيبهم في الامتحان ثم يتأبطون الشهادة وينصرفون عن كل ما من شأنه قراءة ومتابعة واطلاع .
بل تعدى الأمر إلى ما هو أعمق : هناك بعض من الناس ممن لم يكملوا دراستهم ؛ نراهم أفضل حالا من خريجي الجامعات ..إنهم يقرؤون الصحف ويطالعون كل إصدار جديد .
عدتُ أدراجي بعد حوار مثير للحيرة ...والتعجب ..بل بعد أجوبة تصيبك بالإحباط والانكسار ..
هيموجلوبين القراءة ..يعاني فقرا ثقافيا في أوساطنا وما عاد ثمة اهتمام بالكتاب والقراءة .
أوعز بعضهم السبب : للبدائل التي اقتحمت حياتنا : كالإنترنت والكتاب الإلكتروني والشبكات المتنوعة ...إلا أن الحقيقة المرة : مرتادو الإنترنت والمواقع المتنوعة : لا يقرؤون ولا يهتمون بالقراءة ..بل استعملت أغلب المواقع للتسلية والاستجمام ومتابعة أحوال العباد في أقاصي الأرض
مازال الكتاب مهجورا ..ومازالت الأسطر دارسة ..ومازال هيموجلوبين القراءة يعاني هبوطا حادا قد يُودي بحياة الفكر والثقافة في نفوس الكثيرين .
*كاتبة وقاصة من ليبيا
966 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع