بقلم : جابر رسول الجابري
كان صباحا مشرقا تنفس بعد ليل أفول , والسماء صافية لا حبيٌّ فيها ولا هُطول , تأرجحت بين ثناياها جدايل شمسٍ زؤول , تلألأت ساطعة فأضحت على الخضراء بساطا وتلول , وأشجار تتمايل راقصة فوق إب طلول ,
والنسيم يُداعب مروجها وحفيف ترف وَجول , والطير يشدو في زهو وثمول , بزغ الصبح في لوحة إن وصفت تخلب لبَّ العقول , وهنت عن رسمها ريشة فنان مبدع بذول , وعجز القلم عن الوصف شعرا أو كتابا أو مقول , عذرا يا عراق بيادق اللصوص تمرح فيك وتجول , يتهافتون عليك من كل حدب فلول , وشعبك المظلوم بين قتيل وطريد وبين راقص على قرع الطبول , عمائم الدين فاسدة وسوف تزول , أهل الذرى باتوا طوائفا ومللا ونحول , لك الله يا عراق عزيزا كنت بجبالك والسهول , ياحسرة عليك أصبت بوهن وذبول , الليل حتما عنك سينجلي ويبزغ الفجر فيك دلول , هي الدنيا بعد ليل الى نهار تؤول , وفيما أنا على هذا الحال أفكر في وطني الثكول , أحسست قليلا بتعب وخمول , قررت حينها أن اركن الى وارفة خضراء كثيرة النهول , جلست على كرسي تحت ظل ظلول , وإن هي إلا لحظات حتى تقدمت مني صبية في عقدها الثاني بريئة وخجول , ترسم على شفتيها ابتسامة في رجاء كأنها ضلول , بادرتني بالسؤال بلهجة العراق تقول :
-- هل انت من بلاد النهرين ؟
أجبتها وكلي لهفة وحنين , فدجلة والفرات في قلبي شرايين :
-- أجل بنيتي .... وكيف عرفتي بأني رضيع الشطين !
وما أن أتممت سؤالي حتى شاهدتها تسقط جاثية على الأرض تتشدق بأذيال سروالي , وهي تصرخ باكية وتردد :
- أبتاه ---- أبتاه --- أتوسل اليك أن لا تتركني
نزلت كلماتها على مسامعي كصاعقة فإعتراني ذهول , وإنعقد لساني فلا أستطيع نطقا أو كلاما أقول , وشرد ذهني وتاه في وديان الحكمة والمعقول , وبت أنا السائل والمسؤول :
- أحقا أنا أباها .... هل فقدت شيئا من ذاكرتي ...أم هذا كابوس حلم كلول ؟
مرت علي بضع ثوان لججت فيها الظنون , تمالكت نفسي ونهضت من فوري واقفا لعلي اصيب كامنا مكنون , خطر لي أنها كامرة خفية ... فرحت اتلفت يمينا وشمالا ولكن لا مناص إلا الصبية , فأتجهت صوب الفتاة علي أجد حلا لهذه القضية....سألتها :
- ايتها الفتاة لم تبكين ؟ --- كيف أكن أباك وأنتي لإسمي لا تعرفين ؟
وساد الصمت فلا تجيب , تبعه عويل وثبور ونحيب , أنهالت على الوجنتين دموعا تسيل , كزهرة أصابها طل طليل , في صباح بارد ندي عليل , وضعت رأسها بين كفيها وأجهشت في البكاء , فدنوت منها وهمست لها في رجاء :
-- أرجوك بنيتي كفى بكاء --- وقصي لي عسى أن أدرك البلاء ؟
أشاحت لي بوجهها ومآقيها للدمع مستبذرة , وتنهدت بزفير ملؤه ألما وحسرة , فأشتدت الأحزان تنهش قلبي كوحوش كاسرة , فاندفعت أعانقها بلا وعي كأنها لي عترة , بكيت وفي بكائي نحيبا الى الآن أعاني من أثره , ولأني في غربة وطول فراق , أمست عيوني أهريقها دمع مهراق , فقبلت رأسها كأني قبلت تراب العراق .... سألتها :
- بنيتي أتوسل اليك أن تكفي البكاء .... وعدا علي أكون عونا وعزاء
مددت يدي للنهوض أساعدها , جليستي تكفكف دموعها , نطقت تقول بعدها :
معذرة .... أنا عراقية أيضا وإسمي بتول ... هيئتك تشبه أبي الحبيب المقتول
أدركت حينها سبب البكاء , من الله غوثا وإليه نداء ...سألتها :
- ومن قتل ابوك ؟ وأين جرى ذلك يا بتول ؟
فأجابت :
- قتل أبي في العراق بلا سبب مغدور.... ثم هجرّنا من دارنا وماتت أمي غرقا في البحر إثناء العبور.... ونجوت أنا وأخي الصغير....فتبنتني إمرأة وأخي عائلة وألتقيه يوما كل إسبوع .... ياعم إني أشتاق لأمي وأبي كإشتياق الغريب للرجوع
ثم أمسكت يدي وراحت تقبلها حتى بلتها بالدموع , تمنيت حينها أن أجعل أصابعي لها شموع , قبلت يديها وقلبي لها مفجوع , ثم قلت :
- أعانك الله يا بنيتي ... وعهدا إني لك واصل ... وعلى لقياك كل سبت عامل... وحبذا أخوك الصغير وأنت أكن لكما كافل
قالت وهي تلقي برأسها على صدري :
- شكرا لك يا عماه...... لن أنسى جميلا منك أراه
رحت أمسح دمعة هوت من عينها , وبالكلام أواسيها :
- رحم الله اوالديك ونحمده على سلامتكم .... وإنا لله وأنا اليه راجعون .
تناهى لسمعي وسمعها صوت إمرأة تنادي بتول ... فالتفتت نحوها ثم نهضت وقبلت رأسي مودعة وهي تقول :
- هي كرستينا أمي الجديدة .... سأراك السبت القادم وفي نفس الساعة
تركتني وهرولت نحو كرستينا وهي تلوح مودعة من بعيد, تركتني لكنها إحتظنت قلبي وعاد لها الوطن من جديد .
الثالث عشر من كانون الثاني عام 2015
1242 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع