علي السوداني
وهذه واحدة أُخرى من خرزات مسبحة الحنين الذي يضرب ليالينا الباردة . حرثٌ يتكىء على ذاكرةٍ كأنها أوّل البارحة .
علاوي شوف حال سينما بابل!!
زقاقٌ بغداديٌّ طولهُ رواية ، ورأسه اليمين سينما بابل خزنة ذكرياتي الطيبة ، وشماله بيت عتيقٌ استوطنته شركة تأمين حياة السيارات . في هذا البيت حارسان يتناوبان صارا من علامات الليل والنهار ،أحدهما هو أحمد الكردي الذي بدا قوياً ثابتاً أول أيامه ، ثم تلفَ وتضعضعَ وانمسحَ وجهُهُ بصفرةٍ مستلّةٍ من لون الدورة الشهرية ، وصار جلّ حديثهِ عن السليمانية وكبابها ولبَنها وجبلها ، وامرأة شلعتْ قلبهُ بلذيذ الصدِّ . أمّا الثاني فهو حجّي محمد الذي كرّر عليَّ قصة ابنهِ الشيوعيّ الشارد صوب الكويت ، ألف مرة ومرة . سينما بابل كانت تأكلُ من طول الزقاق نصفهُ ، وتنتهي بشبّاك تذاكر التسعين فلسا ومكائن أُسطه باقر التي تبرّدُ زبائن السينما صيفاً وتغطّيهم شتاءً .
بباب باقر تنزرعُ عربانة شواء عظيمة صاحبها الطيّب اسمهُ الدالّ جبار أبو التكّة وأنجاله ، على الرغم من أنّ مؤسسته الاستطعامية تلك كانت تشنّفُ مناخر الناس بعطر الكباب والمعلاق والحَلَولَوْ وبيض الغنم الذي ورّطنا بسرّ أنّ زوجة الخروف قد تبيّض أحياناً . سنواتها المتأخرات كنّا نتناوب على رعاية عربة الكرزات بباب السينما أنا وأخي الغضّ جاسم . عشاؤنا الفرديّ من جبار كان يخضع لشريعة تبادل المنفعة وربما المقايضة ، لكنني ما زلتُ أذكرُ ذلك الطقس الموجع الذي يسوّر تلك الوجبة العزيزة . شيش واحد من المعلاق المفضّل بسبب شائعة الدم ، يضيع ببطن صمّونة ضخمة ، والحلّ المتاح سيكون بملء صحراء الرغيف بمواد مجانية من مثل الطماطة والبصل والطرشي والكرّاث والكرفس والريحان والرشّاد ، وسيكون على علّوكي الذكيّ أن يكون عادلاً مع كلِّ عضّةٍ يتركها على جسد الصمونة ، حيث الحرص العظيم على إبقاء قطعة لحمٍ صغيرةٍ تحتفل على آخر أنفاس العظّة الأخيرة .
ما تبقّى من الزقاق سيكون من حصة فندق الفارابي ودار كبيرة مرة صارت جمعية استهلاكية ومرة أضحت مركزاً ثقافياً فرنسياً كما تشير خرابيط وبرابيط مخيّلتي الآن . لدينا بذيل الزقاق من صوب البتّاويين وسوق شبّوط ، دكان عليّ صاحب عربانة الحَبّ المشهورة بباب سينما النصر وثلاثة بيوت فقط ، أهلها يكدحون بحانة عشتار الرومانسية على يمين بابل ، وحانة اسطيفان التي تحتاج إلى قوة دماغية هائلة كي تكتشف أنها منحوتة من جسم سينما النصر .
ثمة تفصيلات أخرى لذيذة وغير مملّة من الضحك والبرد والأسى والدهشات الأُوَل ، لكننا ارتأينا تأجيلَ سردها قليلاً ، إذ أنّ مستطيل حرثتنا الجرائديّ ، قد يغصُّ إذا ما زادت سلة الكلمات عن أربعمائة كلمة وكلمة . شكراً كثيراً .
1174 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع