د. علي محمد فخرو
في ندوة عقدت في بيروت جرى الحديث عن الهوية العربية: تاريخها، تعريفها، مكوناتها، علاقتها بالهويات الفرعية الأخرى.
الواقع أن هذا الموضوع يجب أن ينظر اليه بطريقة مبسطة، فلا يعقد أو يفلسف ليصبح عصيا على استيعابه من قبل المواطن العربي العادي، ولاينقل الى ساحة الثنائيات العربية الشهيرة التي تصر على تضاد الأشياء والأفكار بدلا من تكاملها. والنتيجة أن ننتهي الى الدوران حول الموضوع عبر القرون دون أن نستقر على شيء نهائي، تماما كما فعلنا بثنائيات من مثل الأصالة/ المعاصرة، الدين/ العلم، القومية/ الوطنية... الخ.
واقع الحياة يقول بأن كل انسان يرتبط بعدة هويات، وليس بهوية واحدة. هناك هويات من مثل الدين والمذهب والعائلة والقبيلة والايديولوجية السياسية والأصول العرقية واللغة والثقافة، والكثير غيرها. واذن فالتعددية في الهوية هي جزء من الاجتماع البشري.
عندما ننقل مشهد التعددية من واقع الفرد الى واقع الأمة تصبح كل تلك الهويات فرعية أو جزئية لأنها هويات تتعلق بفرد أو بمجموعة أفراد. هنا يتطلب واقع الأمة أو المجتمع أن توجد، اضافة الى الهويات الجزئية، هوية جامعة مشتركة يتمسك بها جميع أفراد الأمة والمجتمع.
القضية الأساسية لا تكمن في تعددية الانتماء لهويات فرعية، وانما تكمن في اصرار البعض على عدم تعايشها مع بعضها البعض من جهة والى تفضيل البعض لهوية فرعية، التي تخص وتخدم جزءا من الأمة، على الهوية الجامعة المشتركة التي تخص وتخدم كل الأمة.مثلا أن تكون وطنيا محبا لوطنك العربي الصغير ومراعيا لكل مصالحه، أو أن تكون منتميا لمذهب ديني دون تزمت أو مشاعر طائفية، فان ذلك يعني التزامك الأخلاقي المسؤول تجاه الوطن أو المذهب وهو دليل على حيويتك الاجتماعية والانسانية.
لكن أن تسمح بأن تقدم مصلحة الوطن الصغير أو مصلحة الطائفة على حساب مصلحة الوطن الكبير أو الأمة فهذا يعني اعلاء المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وتفضيل للجزء على الكل.
لا ينشغل الناس بالحديث عن الهوية الجامعة الا عندما يسعون الى بناء أمة. مبررات وضرورات بناء الأمة الواحدة، وبالتالي الوطن الكبير الواحد، تختلف من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر. بالنسبة للأمة العربية لا يحتاج الانسان الى أن يفتش عن المبررات الوجودية لضرورة، بناء هذه الأمة الموحدة. فلقد أدى تقسيمها وتجزئة وطنها وتفتيت مجتمعاتها واعلاء الهويات الجزئية لبعض فئاتها على الهوية الجامعة..أدى كل ذلك الى تسلط قوى الاستعمار بأشكال مختلفة على كل جزء منها وبالتالي استباحة كل ثرواتها، وأدى الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة الى منعها من بناء قوتها الذاتية والتركيز على تنمية الاقتصاد والسياسة والعلم في مجتمعاتها، وأدت المصالح الفئوية الداخلية الى التناحر الدائم فيما بين أجزائها، وأدى كل ذلك في النهاية الى بقائها ضعيفة متخلفة عن ركب حضارة العصر.
هكذا وضع بائس لا يمكن مواجهته الا بجهود أمة موحدة، ان لم يكن في الواقع الجغرافي الواحد، فعلى الأقل في الواقع النضالي الواحد ضد أعداء الخارج المتكالبين عليها وضد أعداء الداخل الذين يتفرجون على عذاباتها وأحزانها وانسداد أفق مستقبلها.
من هنا الأهمية القصوى لجهود المفكرين والكتاب والاعلاميين وقادة المجتمع المدني وشباب الأمة من أجل تعريف ونشر ودعم مفهوم الهوية العربية الجامعة ومن أجل توضيح دروب إمكانية تعايش الهويات الفرعية مع بعضها البعض من جهة ومع الهوية الجامعة المشتركة من جهة أخرى.
لن يكون ذلك بالسهل، فالتاريخ يعلمنا أن الهويات المشتركة تنتعش في فترات الانتصارات في ملاحم الأمم الكبرى وتخفت وتضعف في فترات الهزائم التي تحيط بالأمة من كل حدب وصوب، كما هي الحال بالنسبة لأمة العرب.
لكن التاريخ يعلمنا أيضا انه لا يوجد قدر ثابت مكتوب على أي أمة.اني شخصيا واثق أن تغيير قدر الأمة العربية قد بدأ منذ أربع سنوات عندما أطلت بشائر ربيع عربي مبهر.
أن يواجه الربيع عواصف مفاجئة أو أن تموت زهور من هنا أو هناك فهذا لا يعني الا استراحة الطبيعة المؤقتة لتعاود حيويتها وألقها وسيرورة مسارها الطويل.
المطلوب ألا يبقى موضوع الهوية العربية الجامعة، هوية العروبة، موضوع سجالات عبثية لا تؤدي الا الى ادخال الأمة في دوامة من المشاعر والأحلام والآمال المتناقضة المتصارعة. هناك حاجة لطليعة تعمل ليل نهار لمنع وصول الأمة لتلك الحالة وادخال السرور الى قلب الصهيونية والاستعمار والاستبداد الأناني المتخلف.
1278 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع