فهمي هويدي
(1)
خطيب الجمعة فى مسجدنا لا يكف كل أسبوع عن ذم الإرهاب وهجائه، ولا يمل من استعراض شروره التى أصبحت ممارسات جماعة داعش فى سوريا والعراق نموذجا لها.
ولئن أراد بذلك أن يتجاوب مع الأجواء السائدة فى مصر، إلا أن حملته اشتدت منذ دعا الأزهر فى 3 ديسمبر الحالى إلى عقد مؤتمر دولى بالقاهرة لمواجهة التطرف والإرهاب وكان واضحا ان تعليمات وزارة الأوقاف لها دورها فى ذلك، وقد بشرنا فى آخر خطبة له بأن نهاية الإرهاب قد اقتربت مستدلا بإجماع علماء الأمة الذين حضروا المؤتمر على ذلك، واعتزامهم إصدار وثيقة تصاغ بكل اللغات الحية وتوزع على الكافة، ترفض الإرهاب وتعلن البراءة منه، وتفضح الآراء التكفيرية التى يتبناها الإرهابيون. وفى ثنايا خطبته الأخيرة ذكر أن أمر الإرهاب صار مكشوفا ومفضوحا، وأيد ذلك بإشارته إلى أن دولة الإمارات العربية أصدرت قائمة ضمت أكثر من ثمانين جماعة ومنظمة إسلامية ضالعة فى الإرهاب، وان مصر بصدد اعداد قائمة مماثلة تفضح الكيانات الإرهابية وتعريها أمام الرأى العام فى الداخل والخارج.
لا أعرف إلى أى مدى كان الرجل مقتنعا بما قاله، لكننى أزعم أنه يعكس إلى حد كبير التفكير الرسمى فى الموضوع، الذى يلجأ إلى التسطيح والتبسيط، فيشدد على إدانة الإرهاب ويلجأ إلى الإجراءات فى مواجهته، متصورا ان ذلك يمكن أن يتحقق من خلال إصدار وثيقة تتهمه وتفضحه وتنظم حملة إعلامية تركز على هجائه والحديث عن مخاطره وشروره، إضافة إلى الإجراءات الأمنية الأخرى بطبيعة الحال، التى تتراوح بين التوسع فى محاكمتهم أو التخلص منهم بوسائل أخرى بينها تصفيتهم جسديا، كما هو الحاصل فى سيناء بوجه أخص. كأننا فى مواجهة الإرهاب نلجأ إلى حلين لا ثالث لهما أولهما التعبئة الإعلامية (جريدة الجمهورية دخلت على الخط ونظمت مؤتمرا ضد الإرهاب يوم الأحد الماضى 13/12). أما الحل الثانى فيتمثل فى الإجراءات الأمنية والمحاكمات القضائية.
ذهب البعض إلى أبعد فى التعبئة، حيث لم يكتفوا بإدانة الإرهاب وتجريمه، وانما دعوا إلى تكفيرالإرهابيين أيضا، لكى يلاحقوا ويعاقبوا على جرمهم فى الآخرة أيضا. وكان مفتى نيجيريا الشيخ إبرهيم صالح الحسين قد ألقى بالفكرة قاصدا بها تنظيم «داعش» فى كلمته التى ألقاها أمام المؤتمر سابق الذكر، إلا أن مشيخة الأزهر تداركت الأمر فى بيان أصدرته ذكرت فيه انه لا تكفير لمؤمن نطق بالشهادتين مهما بلغت ذنوبه، إلا أن ذلك لم يغلق باب المناقشة التى مازالت مستمرة حول الموضوع فى بعض وسائل الإعلام، كأنما تم حسم أمر الإرهابيين فى الدنيا وصرنا مشغولين بمصيرهم فى الآخرة.
لست واثقا من العلاقة بين حملة مواجهة الإرهاب وبين الإجراءات التى اتخذتها وزارة الداخلية فى مصر أخيرا، وعبرت فيها عن غيرتها على الإيمان والأخلاق الحميدة، إلا أن عنصر التزامن وحده هو الذى أثار الانتباه وطرح فكرة الربط بين المسارين. إذ بعد نحو أسبوع من انتهاء مؤتمر الأزهر، أعلن أن عدد الملحدين فى مصر صار 866 شخصا (لا اعرف كيف تم إحصاؤهم)، كما تمت مداهمة مقهى فى القاهرة بدعوى انه مكان لتجمع الملحدين. وفى الوقت ذاته قامت الشرطة بمداهمة حمام مغربى قيل ان الشاذين جنسيا يمارسون فيهم «أنشطتهم».
(2)
ليس خافيا أن كل ما سبق وثيق الصلة باتجاهات الريح السياسية، التى كانت من القوة بحيث غيبت أسئلة مهمة يطرحها السياق. أحدها يتعلق بالتعريف المعتمد لمصطلح الإرهاب، ذلك أننا نعرف ان الإرهاب فى التعريف العلمى هو كل استخدام للقوة والعنف لترويع الآخرين، وفرض الرأى عليهم، لكن الممارسات نسخت ذلك الرأى حتى باتت المعارضة إرهابا وصار عدم طاعة ولى الأمر ينطبق عليها نفس الوصف. وتحول الإرهاب إلى قرار سياسى يسوقه الإعلام بصرف النظر عن الشواهد والممارسات العملية. بحيث صار الإرهاب هو كل من قالت عنه السلطة ذلك وروجت له الأبواق الإعلامية. وقد شاع عنا ذلك حتى إننى حضرت قبل حين ندوة عن التطرف فى لندن، وحين تباينت تعريفاته فإن أكاديميا أيرلنديا متخصصا فى الشرق الأوسط قال فى نهاية المطاف ان المتطرف أو الإرهابى فى العالم العربى هو كل من لا ترضى عنه السلطة!
لم يتح لنا كذلك ان ندقق فى طبيعة الحرب الدائرة، وهل هى فى جوهرها صراع حول السلطة أم انه صراع بين الأفكار التى استدعيت للتغطية على صراع السلطة؟ ــ لم نعرف أيضا لماذا تهب رياح التطرف فى مرحلة وتسكن أو تخبو فى مرحلة أخرى؟ ولماذا يطل الإرهاب فى بلد وينحسر فى بلد آخر؟ ولماذا تكاثرت التنظيمات الإرهابية فى محيطنا وأقطارنا بحيث لم تعد البيئة العربية تفرز سوى ما هو شائك ومُر؟ ولماذا فشلت الحرب ضد الإرهاب التى أعلنتها إدارة الرئيس بوش بعد أحداث سبتمبر عام 2001؟ ولماذا تخلت الإدارة الأمريكية عن المصطلح فى عام 2010 فىظل ولاية الرئيس باراك أوباما.. إلخ.
لم يطرح الأمر للمناقشة والمراجعة فى أى باب. وظل التسطيح والتبسيط سيد الموقف. من ثم فقط تم تأجيل طرح الأسئلة المهمة أمام ضغط الخطاب السياسى وقوة التعبئة الإعلامية، حتى استسلم الجميع لفكرة انها الحرب التى تستهدف انقاذ الدولة من السقوط، وانه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وللدقة فإن ذلك لم يكن منطق السلطة والأبواق الإعلامية فقط، لأن شريحة واسعة من النخبة انضوت تحت المظلة وانضمت إلى الحشد، فلا هى طرحت الأسئلة الواجبة ولا هى رضيت ان تجيب على من سألوها. وكانت لهؤلاء حساباتهم وموازناتهم الخاصة التى جعلتهم يحجمون ويؤثرون الصمت، وترتب على ذلك ان الذين تصدوا للأمر كانوا مجموعات الشباب الذين لم تكن لهم حساباتهم ولا موازناتهم الخاصة، وكان مصير الثورة هو شاغلهم الأوحد، فنزلوا إلى الشارع ورفعوا أصواتهم المعبرة عن الحيرة والغضب، ودفعوا ثمن وقفتهم على النحو الذى يعرفه الجميع.
(3)
يوم الجمعة 12/12 نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تقريرا مفصلا عن تنظيم داعش وحكاية الدولة الإسلامية، استقاه محرره مارتن جولوف من أحد أركان الدولة الجديدة. ولأن كاتب التقرير يغطى أحداث العالم العربى منذ 2005 فإن ذلك مكنه من ان يتوغل فى القصة ويتتبع جذورها من بداياتها. فى رحلة البحث تبين أن أبوبكر البغدادى الذى صار لاحقا خليفة المسلمين فى الدولة الجديدة بدأ خطواته الأولى مع المقاومين للاحتلال الأمريكى، وللهيمنة الشيعية ضمن ما سمى آنذاك بجيش أهل السنة والجماعة، وهو ما أدى إلى اعتقاله فى عام 2004 وإيداعه فى سجن «بوكا» الذى أقامه الأمريكيون جنوبى العراق، حيث التقى هناك زملاءه وتعرف على أعداد كبيرة ممن صاروا لاحقا قادة التنظيم الجديد. فى السجن برزت شخصية البغدادى القيادية ونجح خلال السنوات الخمس التى قضاها فى «بوكا» فى توثيق علاقاته مع أمراء التنظيم، وكانت الفرصة متاحة أمام الجميع للتفكير والتخطيط للمستقبل. فى السجن أيضا التقى البغدادى وصحبه مع عدد من قادة جيش صدام حسين البعثيين، ونجحوا فى إقامة علاقة وثيقة معهم، خصوصا ان بعضهم تحول إلى التشدد الإسلامى أثناء سجنه. واستطاع الطرفان ان يقيما علاقة كان لها دورها الجوهرى فى إقامة الدولة الجديدة. إذ أصبحت تمثل تحالف مناضلى أهل السنة الرافضين لهيمنة الشيعة مع قادة جيش صدام حسين البعثى الذين كانت لهم مراراتهم الخاصة، إضافة إلى مشاعرهم الطائفية. إزاء ذلك فإن السجن وفر فرصة ذهبية لعناصر داعش للتخطيط والتجنيد وإقامة التحالف الذى كان له دوره الأساسى فى إنجاح الحملات العسكرية التى شنها التنظيم، وأدت إلى سقوط حكومة رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى.
تجربة أبوبكر البغدادى وصحبه فى السجن التى أدت إلى ظهور تنظيم داعش بعد ذلك لا تختلف كثيرا عن تجربة شكرى مصطفى فى السجون المصرية التى أدت إلى ظهور جماعة التكفير والهجرة (أو جماعة المسلمين كما كانوا يسمونها) فى سبعينيات القرن الماضى. إذ تشكل الاثنان فى السجن وقررا رفض كل ما هو قائم وأعلن كل منهما نفسه أميرا للمؤمنين، وان اختلفت النهايات بعد ذلك، حتى الآن على الأقل ــ والتجربتان ــ وغيرهما كثير ــ يذكِّراننا بأن بيئة القمع والسجن هما المختبر الرئيسى الذى تتشكل فيه خلايا الإرهاب.
(4)
هى حرب بلا نهاية. ولن يجدى فيها وقف إطلاق النيران أو عقد هدنة من أى نوع. ولا مفر من الاعتراف بأن عجز الأنظمة الاستبدادية العربية عن الإصلاح يمثل تربة غنية لنمو الحركات الجهادية والإرهابية، وإذا كان تقويض تنظيم القاعدة لم يتحقق إلا بعد مضى عشر سنوات، فإن الحرب ضد داعش سوف تستغرق عشر سنوات أخرى. وإذا لم يجرِ العالم العربى ــ الذى هو مركز داعش وبؤرته ــ عملية إصلاح ذاتية عميقة فلن يطول بنا الأمد حتى يظهر فى الأفق وحش إرهابى آخر مرتديا لبوسا جديدا. وينبغى أن يكون واضحا للكافة ان إقامة المجتمعات المدنية فى الشرق الأوسط أصبح بدوره أمرا لا مفر منه، فذلك وحده ما يمكن ان يحصن الدول العربية ضد الإرهاب ويوقف تناسل جماعاته التى استوطنت فيها.
هذا الكلام ليس لى، ولكنها خلاصة لما أورده برونو ترتريه أحد مديرى مؤسسة البحوث الفرنسية، فى مقالة نشرتها له صحيفة «نوفيل أوبزرفاتير» فى 2/10/2014. وكان الرجل قد أصدر فى عام 2004 (بعد الغزو الأمريكى للعراق) كتابا طرح فيه فكرته الأساسية كان عنوانه «حرب بلا نهاية».
لا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالرثاء والحزن حين يقارن هذا الكلام الذى صدر عن الباحث الفرنسى، الذى يشاطره فيه آخرون ممن لا يتسع المجال لذكر شهاداتهم، بكتابات بعض المثقفين عندنا الذين غرقوا فى مستنقع الاستقطاب، ولم يجدوا حلا لمشكلة الإرهاب إلا بتشديد الضربات والسحق والاقتلاع، وهو ما اعتبره البعض أصولا واجبة لضمان نجاح مصر فى مواجهة الإرهاب. وتلك دعوة لا تقتصر على عدد محدود من الأصوات، ولكننى أزعم أنها تمثل الصوت الأعلى والمهيمن فى خطاب المثقفين والسياسيين فضلا عن المنابر الإعلامية المختلفة. إذ التقى هؤلاء وهؤلاء حول شعار الإبادة هى الحل، الذى صار نشيدا يرددونه صباح مساء، الأمر الذى أصبح إعلانا يجسد بؤس الحالة التى أوصلنا إليها الاستقطاب الذى أصبح يشكل العقبة الأساسية التى تعترض طريق الإصلاح المنشود. وحين ينسد ذلك الباب فإن الإرهاب يغدو بديلا مرشحا للنمو والاستمرار، وتصبح هزيمته أملا بعيد المنال.
1314 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع