د.عبدالرزاق محمد جعفر
أعمى بطريق مُظلم ..الحلقة التاسعة عشر
بدأ " صابر" يشـعر بالكآبة والخوف من الموت بالرغم من علمه (أنه حق)، فأتخذ قراراً بالعودة للوطن في نهاية السنة الدراسية 1979, وأزداد رغبة حينما صـدر(قانون الكفآت)الذي يشجع عودة المهاجرين من ذوي التخصصات العلمية العالية الى الوطن , وأضافة الى ذلك, فقد استلم رسالة من صديقه ببغداد ينبأه بتوليه رآسـة قسـم الكيمياء في كلية العلوم / جامعة بغداد,... وأنه على أتم الأستعداد لأعادة تعيينه في نفس مكانه السابق ,... وأحتساب مدة أعارته في ليبيا للترفيع والتقاعد حال مباشرته في جامعة بغداد,.. وسـيُصله كتاب التعيين وهو في ليبيا , وسوف يعتبر مباشراً في العمل في اليوم الأول من وصوله الى بغداد!
فكر "صابر"بالعرض المغري,..ولذا فمن المستحيل أن يفوت مثل هذه الفرصة , وما أن أقترب الموعد لأجابة أي عضو تدريس عن رغبته بالأستمرار بالعمل في ليبيا أم الأستقالة,... قدم "صابر", استقالته الى رئيس جامعة الفاتح عن طريق رئيس قسمه,وفق الروتين المتبع.
***
وهكذا,وعندما أنتهت أمتحانات أولاده ,.. سـفـَّرهم وأمهم الى بغداد ليتفرغ لتصفية أعماله وقبض مُستحقاته عن مكافئة نهاية الخدمة ، والتي تعتبر من أصعب ما يعانيه المغترب من متاعب عندما يقرر الخروج النهائي من ليبيا ,..حيث يُطلب منه أكمال تواقيع براءة ذمه من العديد من الدوائر الرسمية, والتي معظمها لم تكن للموظف أية علاقة بها ,..مثال ذلك أن يثبت أنه قد سدد فواتير المكالمات التلفونية الداخلية والخارجية!,..وما من أحد لا يعرف أن الصعود الى السماء بلا درج (كما في مستحيلات الكرخي), أسهل من أن يكون عند الأجنبي (المزركي) تلفون!, ألا أذا كان عميلاً للمخابرات الليبية, وعلى أية حال, القوائم تشمل كل الوزارات ولضيق الوقت كلف "صابر" أحد الليبين لأكمالها, لكي يتفرغ للحصل على مستحقاته المادية,...ومن ثم يسـافر الى اوروبا لشـراء أثاث لبيتيه وسيارة معفوة من الكمارك!
توجه "صابر" الى روما لقربها من طرابلس,..وما أن وضع حقيبته في فندق ثلاثة نجوم قريب من المـسرح الألمبي الشهير,..توجه لأقرب بنك لتغيير (الشيكات) الى العملة الأيطالية, ألا أنه وجدها مغلقة, وأستفسرعن السبب قيل له (عطلة البنوك), وسوف تنهي بعد أسبوع !
عاد "صابر" الى مدير الفندق,..وشرح له الموضوع,..فهون عليه الأمر, من ناحية أجرة الفندق,..وسلفه مبلغ 100 $ لقاء وصل أمانه وضعه مع جوازسـفره الى أن تفتح تفتح البنوك أبوابها,.. فهدأ صابر, بعض الشيئ, ولم يكترث للتأخير,
وراح يتسكع بين معالم روما الأثرية نهاراً,.. وبالجمال الأيطالي في المسارح الليلية,..والمطاعم والمقاهي على قارعة الطريق .
عند كل صباح كان يتجول حول معارض السيارات, فوجد أسعارها ثلاثة أضعاف ما هو عليه في طرابلس,..وشرح له أحد السماسرة ممن يجيدون التكلم بالعربية,.. السبب,..ونصحه بعدم الشراء من هنا ,..والذهاب الى باريس لشراء سيارة (بيجو) حيث للدولة الفرنسية علاقة مميزة مع الحكومة العراق لتصدير بضائعها بأسعار خاصة !
***
قرر "صابر" بالعودة الى بغداد وأشترى تذكرة مفتوحة عن طريق (باريس) ,.. وما وصل الى مطار (ديكول) حتى توجه لدائرة الأستعلامات,..وأستفسر منهم عن أمكانية منحه (فيزة),. لزيارة (باريس),..فتمت الموافقة على منحه مدة 48 ساعة فقط !
فرح "صابر" ووضع حقيبته الكبيرة في خزانات المطار,وأحتفظ بشنطته اليدوية التي تحوي كل الضروريات وتوجه الى أفرب فندق في شارع (الشانزليه) الشهير, وما أن أستراح في بهو الفندق وتناول الفطور حتى توجه الى معارض السيارات, وأعجبته سيارة (بيجو) آخر موديل,
وكان البائع شاطرللغاية,.. فقد لمس جهل (صابر), وبينَ له التكلفة وقيمة التأمين وأجرة النقل بالباخرة الى ميناء (أم قصر) في البصرة,..و"صابر", ووفق ما وهبه الله من ثقة عمياء!,.. بكل من يتعامل معه,..آمن بكل ما أقترحه البائع وأتمَ المعاملة بكاملها بأقل من ساعة وسلم البائع الثمن, وقدم له هدية,..وعانقه وتوجه الى الفندق للتهيؤ للعودة في اليوم التالي!,..ولكن
ما إن وصل "صابر" الى بغداد حتى علم بألغاء القانون!,
بسبب جشـع بعض ممن شملهم القانون,.. وأستغلوه تجارياً, فأوقفت الدولة العمل بموجبه !
***
أسـتأجر"صابر" سكن بسيط يطلق عليه "مشتمل",.. وهو عبارة عن كراج سيارة أضيف له حمام شرقي و مرحاض يسمى زوراً بـ (بيت راحه),فوقه (دوش),بمثابة حمام غربي, أجاره (110 دنانير) مع العلم أن صافي مرتبه (110 دنانير,أي حوالي $ = 300 دولار),..بينما كان راتباه في ليبيا عند أستقالته من جامعة الفاتح بحدود ($ = 10150 دولار)!
ما أن أكمل"صابر" بناء داره, حتى بدأت الحرب العراقية - الإيرانية, وبمرور الأيام صارت الأعمال العسكرية مألوفة, وبدأ الناس يتعايشون مع الحالة الجديدة ، والأطفال يذهبون لمدارسهم بشكل منتظم, وهكذااستمر"صابر" على تلك الحال لسنوات, بالرغم من كل المطبات التي اجتازها، ولم يذعن لأحد ولم يمد يده لأي كائن ، وتمكن من السـير في عز وشـمـوخ متحدياً كافة العقبات !
***
استمرت الحرب بين العراق وإيران ثماني سـنوات, لا كما قدر لها في بدايتها بعشرة أيام فقط ، حيث كانت حرباً لأستنزاف الطرفين، ولم يكسـب منها أحداً سوى الخراب, وفجأة توقف أطلاق النار في 8/8/1988، وقد عانى الجميع من ويلاتها واستبشر الناس خيراً من توقفها،..وسمح بعد أيام بالسـفـر إلى الخارج،.. واستغل "صابر" الواقع الجيد،... وشـمـرعن ساعديه متحدياً كل العقبات ليتـمً الإجراءات الرسمية المتعلقة بالسـفـر للعمل في ليبيا ثانية .
***
لم تدم أحلام "صابر" طويلاً, وطارت فرحتة حينما سمعَ من راديو سيارته وهو في طريقه الى دائرة الجوازات، يذيع بياناً عن ثورة الكويت, وبعد قليل,اتضح أن القوات العراقية قامت بأحتلال الكويت وحولته الى (قضاء) تابع (لمحافظة) البصرة !
أهتز العالم لهذا الحدث الجديد في المنطقة لم يكن أحد يتوقعه,.. وفوراً أصدرت الحكومة العراقية أمراً بمنع السفر لخارج العراق, وما أن وصل الى موقع الجوازات حتى أغلقت أبوابها, وسـُمعَ منادياً ينادي بمنع السفر, وعاد "صابر" وأسرته الى بيتهم, بخيبة الأمل!
***
أتمت قوات التحالف خطتها في 15/1/92، وأنذرت العراق بسحب قواته من الكويت، إلا أن الحكومة العراقية وبالرغم من نصائح العديد من الدول الصديقة وحتى التي على خلاف مزمن مع العراق،.لم تذعن لأي نداء يلتمس منها الانسحاب من الكويت, وهكذا وجد" صابر" نفسه أمام موقف خطر،.. واتخذ قراراً بالفرار بعائلته عن محيط بغداد الملبد بغيوم تنذر بحرب قد تستخدم فيها الغازات السامة ، وسافر إلى مدينة " أحصيبة " القريبة من الحدود السورية,... ليعيشوا ضيوفاً بكنف اخت زوجته, وفي اليوم الثاني من وصولهم اندلعت العمليات العسكرية, وبدأ قصف بغداد والعديد من المنشآت الأسترتيجية في عموم العراق, فساءت الأوضاع عامة, فقد انقطعت الكهرباء وشحت كافة المواد الضرورية وبالخصوص مصادر الطاقة, وان وجدت فلا يمكن شرائها, حيث تضاعفت أسعارها عشرات المرات !
استمرت الآلة الحربية لقوات التحالف تسحق البنية التحتية في كافة أنحاء العراق، ولم يسلم من ذلك حتى ابنية محطات المياه والكهرباء في القرى والأرياف،.. وأصاب الدمار كل أرجاء الوطن, وأصر العراق على موقفه,واعلن رئيس النظام آنذاك ليلة اندلاع المعركة بعدم أنسحاب اية قطعة مشاركة في المعركة من موقعها, حتى لوسمعت أمـراً منه بالصوت والصورة, ولكن ما أن بدأت الحرب البرية حتى حلت الكارثة بين صفوف الجيش العراقي وبـدأ الآلاف منهم بالانسحاب غيرالمبرمج !,
وهكذا عمت الفوضى قطعات الجيش العراقي في الكويت وضواحيها, واستمرت القطعات بالنزوح من أرض المعركة, وتكبدت خسائراً فادحة ,.. ثم أعلنت قوات التحالف إيقاف أطلاق الناربشكل مفاجئ بالرغم من وصولها إلى محافظة المثنى (السماوة), والتي لا تبعد عن بغداد بأكثر من 350كم،... ولم تعرف لحد الآن الأسباب الحقيقية وراء إعلان القوات الدولية توقف زحفها اتجاه بغداد، وتضاربت الأقوال والأشاعات,..وقد أدى الوضع الجديد الى تفجر الأنتفاضة الشعبانية في معظم المحافظات العراقية !
***
عاد "صابر" وعائلته من مدينة " أحصيبة" إلى بغداد ، بعد أن توقف إطلاق النار، حيث بدأت الأحوال تسـتقـر لحد ما، عـدا انقطاع الكهرباء, واختفاء البنزين و التهاب الأسعار بشكل غير مسـبوق من قبل ! , وهبطت قيمة الدينار العراقي، فبعد أن كان الدينارالواحد يساوي أكثرمن ثلاثة دولارات، صار الدولار الواحد بخمسة دنانير وكيلو اللحم باثني عشر دينارًا،... والدجاج بعشرة دنانير،... وليس هذا المهم ، والأهم هوعدم استقرار تلك الأسعار فهي في تزايد حتى صار الدولار في التسعينات , مساوياً لأكثرمن ألفي دينارعراقي!
***
في نهاية نيسان (ابريل), بدأت الحياة الدراسية تعود لكافة المراحل، وراح "صابر" يخطط لمغادرة العراق، فقدم استقالته, وصمم على الهجرة عندما تحين الفرصة ، .. وبدأ بالإجراءات الرسمية, وصار مهيأ لمغادرة العراق إلى ليبيا في نهاية السنة الدراسية،..وما إن أنهى عملية الأنفكاك من جامعة بغداد حتى بدأ بالبحث لمغادرة بغداد .
***
في تموز (يونيو)1992،. صدر بياناً يسمح للعراقيين بمغادرة العراق، فأستغل "صابر" ذلك البيان، وأكمل إجراءات السفر، وغادربمفرده بسيارة شاب من عائلة زوجته إلى عمان , وفي الحدود العراقية الأردنية طلب "صابر"من اقاربه ان يتوقف على يمين الشارع ,..ثم ترجل من السيارة وتوجه الى جهة العراق وراح يصلي ويبكي بكاءاً مُـراً وكأنه يودع الوطن بلا رجعة,.. فهرع أقاربه نحوه وراح يهون عليه الأمر, وعادت له الطمأنينة بعد ان تأكد من انه الآن في دائرة الكمارك والجوازات الأردنية !,.. فأتموا الأجراءات الروتينية ,..وتوجهوا نحو العاصمة عمان .
يتبع في الحلقة / 20 مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة..
http://www.algardenia.com/maqalat/13951-2014-12-09-08-34-48.html
926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع