محمود سعيد
أولاً:في سنة 2010 كتبت قصة العظاءات الخضر أو “مستعمرة العظاءات” ، وهي عن اغتصاب المجندات في القوات المسلحة الأمريكية، وتروي قصة العراقية زينب التي كانت تدرس الإنكليزية في إحدى مدارس ديترويت، وكان لديها طفلة مصابة بتشوه في عظام الجبهة شوهت وجهها، لم تستطع توفير ثمن عملية معالجتها، مما دفعها للعمل مترجمة في الجيش الأمريكي، لكنها عند التحاقها بالعمل، تتعرض لعملية تخدير، ويتم اغتصابها بشكل عنيف جعلها تقضي عشرة أيام في المستشفى، وكانت أول قضية عرضت عليها أن تكون مترجمة مع المحققين الذين يستجوبون “احمد” أخطر المتهمين الإرهابيين الذين كانوا يزودون القاعدة بالمتفجرات. بدأت التحقيق مع المتهم أحمد الخطر جداً. وعند استجوابه تقع بين نارين، فالمتهم الذي فقد قدمه وعُرض لتعذيب هائل أصابه بضعف شديد نقص فيه وزنه فبات في حجم طفل، وتشوه جسده. من خلال مراجعة زينب للوثائق الهائلة وجدته بريئاً لكن الأوامر تقضي بإدانته، حينئذ يشتد الضغط عليها من قبل رؤوسائها فتضربه بشدة تؤدي إلى موته تحت يدها. قبل أن أنشر القصة عرضتها على رئيسة القسم العربي في إحدى الجامعات، وفي اليوم التالي، قالت لي:
1- لا يوجد عضاءات خضر في العالم. قضيت اربع ساعات مع زوجي نفتش عنها في الشبكة العنكبوتية فكانت النتجة لا شيء.
2- لا يوجد اغتصاب في الجيش الأمريكي، لم أسمع عن اغتصاب أي مجندة ولي في هذا البلد أكثر من ثلاثة عقود. هذه إساءة له، وتشويه لسمعته، حتى إن نشرتها في دورية عربية فقد يقرأوها أحد الجواسيس الكثر، ويحملها من المعاني ما لم تنوه أنت، فتكون الطامة الكبرى. ونصحتني بعدم نشرها حتى بالعربية. .
شكرتها على ملاحظاتها، لكني نشرت القصة في جريدة الزمان لم أكن أتوقع أن هناك من يأبه لما كتبت في إدانة التعذيب الذي يمارسه الجيش الأمريكي، لوجود كم هائل من الكتابات الروائية والقصصية العراقية التي تعتبر الجيش الأمريكي محرّراً، لا محتلاً، والتي أغمضت عينيها على الخراب الذي لحق بالعراق، بعد 2003، وبدل ذلك ركزت على جرائم النظام الديكتاتوري وبشاعتها، فكانت بعملها هذا تشيد وتمجد التصرفات الأمريكية في العراق، بطريقة غير مباشرة، وتبررها بطريقة غير إنسانية، ولا أخلاقية. لا بل أخذت بعض الكتابات تعطي الحق للأمريكان، فكما ذكرت إحدى الرويات أن الأمريكان يكسرون الأبواب للتفتيش عن الإرهابيين في الليل، لكنهم يعوضون أصحاب البيوت عما حدث في النهار “ملائكة حنونون” واخذ البعض يخلقون أبطالاً أسطورية من يهود هجّروا بالعنف، لكنهم عادوا، وهجروا مرة ثانية، ثم عادوا، ثم عادوا ثالثة، حينئذ تخلص الشعب العراقي “الهمجي، التافه” منهم بالاغتيال.
ووسط كل هذا التزييف الأدبي، والانحطاط الأخلاقي، واحتقار الوطن، والإشادة بأعدائه، وخلق أبطال تعساء تافهين لا هم لهم سوى الهرب من الواقع، وقضاء أوقات طويلة تحت الأرض، أو في صوامع، أو قضاء حياة كاملة منهمكين بالنفاق والتزييف بغية تقديم نسب مزور للدكتاتور، أو البكاء والتشنج على مناسبات عفى عنها الزمن والتاريخ الخ، في وسط هذا الجوّ بت أرى نفسي مغرداً خارج السرب، سابحاً وحيداً عكس التيار. لكني لم أبتئس قط. فأنا ماضٍ في طريقي حتى لو وقف العالم كله ضدي.
مُنعت من النشر في العراق، وهاجمت الوضع المزري الديكتاتوري قبل سقوطه بعشر روايات وعدد كبير من القصص، وكنت في ذلك وحيداً، فريداً، وسأكتب ضد الاحتلال والجريمة والانتقاص من الشعب العراقي حتى أموت، ولن أنافق سلطة، ولن أبيع ضميري ووجداني.
لكني فوجئت بعد بضعة أيام من نشر العظاءات الخضر بخبر جيد أعاد احترامي للوسط الأدبي من خلال مقالة عن مستعمرة العظاءات، فقد كتب عنها الناقد المتمرس الاستاذ حسين سرمك مقالة طويلة (12 ص 4391 كلمة) وأشار إلى نقاط لم أكن أظن أن هناك في العراق من يتجرأ ويذكرها:
1-اعتبرها عملاً يعالج الهم الإنساني العراقي اليومي والتاريخي من خلال الاحتفاظ بالاشتراطات الفنية
2-اعتبرها أول نص جريء يدين جريمة الاعتقال والتعذيب في معسكر أمريكي بشكل بارع. بحيث يفهم منه القارئ أنه معتقل “غوانتينامو” برغم عدم ذكر اسمه بصورة مباشرة.
3-حلل الناقد الجليل كلمة عظاءات وجذورها وموضوع فعل عظاه: اغتاله فسقاه ما يقتله. ويُقال: لقّاه الله ما عظاه: ساءهُ. وعظاهُ صرفه عن الخير. وكلها معان تعبّر عن الأفكار المحورية والثيمة المركزية والتداعيات النفسية التي صممها القاص لنصّه جاءت مكثّفة- وكأننا نشهد نتاج عمل حلمي في جذر مفردة واحدة- على ساحة النص “الشعورية” بعد أن اختمرت طويلا في أعماق لاشعور المبدع.
4-ركز الناقد على: الطريقة التي ابتكرها الأميركان في المعتقل، الزنزانات، الحبس الانفرادي، منع كل شيء، اللباس الأحمر كزي لسجناء غوانتنامو، (العدوانية الفائقة)
5-أشاد بالمهنية في وصف التعذيب
6-ربط بين التعذيب في القصة وبين الضحايا في أبو غريب.
7-أشاد بالأسلوب الجيد، والعبارة الرشيقة في القصة.
عززت مقالة د. حسين سيرمك المتألقة ثقتي بنفسي، وجعلتني أحسّ أنني أسير في طريق يشاركني في السير فيه مجموعة من الناس حتى لو أكن أعرفهم. ثم نسيت موضوع القصة. فما هي إلا قصة من عشرات القصص التي كتبتها، لكن تحذيرات رئيسة القسم قضت مضجعي.
ثانيا: في يوم الأربعاء، المصادف العشرين من حزيران سنة 2012 حدثت مفاجئة لم تكن بالحسبان، فقد وردتني رسالة الكترونية من رئيس محرري مجلة العالم هذا اليوم: World Literature Today مايكل جونسون، (Michelle Johnson) وهي من أقدم المجلات الأدبية في الولايات المتحدة، يقول فيها إنه يعمل في إعداد عدد خاص يركز على الأدب والقانون، سيصدر في تشرين الثاني 2012 ويأمل أن أساهم بقصة قصيرة في هذا المشروع. وعرفني بالمجلة التي كانت ومازالت تصدر منذ 85 سنة، وهي مجلة أنداد في المستوى الأدبي، لنشر الشعر والقصة والمقالة، ومقابلة المشهورين والأذكياء من جميع أنحاء العالم، الذين يعتبرون الكتابة همهم الأول، وأنهم سيرسلون لي مجلة مجانية لأطلع على محتوياتها، وسيكونون سعداء إن ساهمت بقصة عن حقوق الإنسان في امريكا، أنشرها في مجلتهم. وذكر أنه رئيس تحرير المجلة بالإضافة إلى كونه محامٍ يدرس القانون، والأدب لطلاب الدراسات القانونية. وراسلني لأنه قرأ قصتي التي ساهمت بها في مجموعة (حرية- التي كتبتها عن حقوق الأنسان في العراق) وكان متأكداً من أن لدي غير فكرة تشجعني على تقديم قصة لم يسبق نشرها في اللغة الإنكليزية، بحدود (2000) كلمة فقط، وذكر لي الموعد النهائي، هو شهر آب. ويرجوني الاهتمام بالموضوع.
تذكّرت كلام رئيسة القسم، بأن هذه القصة مسيئة للجيش الأمريكي، الذي يحكم ويحكم بمقدرات العالم كله، وربما يشعر المسؤولون عن المجلة بأني أهين جيش بلادهم، وربما تكون النتيجة وبالاً عليّ، وإن كان نشرها بالعربية مرّ بسلام، لكن نشرها بالانكليزية لا يمكن أن يمر مرور الكرام، فالرقابة هنا في أمريكا شديدة وعريقة وماهرة إلى درجة أنك لا تشعر بأنك مراقب، بينما كل شيء عنك مرصود ومسجّل. فلا بد للمجلة أو الكتاب الذي يرسل إلي من أن يفتح مظروفه، وينظر فيه، ثم يعاد بحيث لا يشعر المرء بأنه فتح إلا إن دَقق في الظرف. لكنّهم عندما رأوا كثرة ما يصلني من كتب ومجلات، لم يعودوا يحكمون إغلاقها، بل باتوا يرسلونها والغلاف مفتوح، أو نصف ممزق.
لذلك فأقل ما يمكن يجابهوني به هو طردي من الولايات المتحدة، وأنا مدقع ولا أمتلك ولو كوخاً بسيطاً في أي مكان في العالم بما فيه بلدي العراق. فأين أذهب؟ لكني، قررت أن أجيبه بصدق. فليست هذه المرة الأولى التي تواجهني بها مبادئي على المحك.
أرسلت له رسالة قلت فيها إنني كتبت قصة عن حقوق الإنسان في أمريكا كالتي يرغب في الحصول عليها، لكن هناك مانعاً شديداً لقبولها، وهو أن عدد كلماتها فأجابني أرسلها، إن أعجبتنا وسنرى. بعد أسبوعين جاء الرد أنهم قبلوا القصة لكنهم لن ينشرونها في المجلة، لأن المجلة مقيدة بعدد الكلمات، لكنهم سينشرونها في الموقع الإلكتروني وسيكافئونني بـ300 دولار. كل ذلك وأنا غير مصدّق. أيمكن أن يحدث مثل هذا؟ قصة تعري أساليبهم وحكمهم العسكري ومعسكرات التعذيب وتظهر جيشهم الهمجي الوحشي وأساليبهم المتدنية اللاإنسانية كشرما ابتليت به البشرية! ينشرونها ويعطون مكافأة للكاتب؟
لم أصدق عيني، قلت اتبع الكذاب حتى الباب. لكن الوضع اختلف.
في 16 نوفمبر “تشرين الثاني 2012 جاءت رسالة تقول:
تحية من مجلة العالم هذا اليوم. باسمي ونيابة عن زملائي في مجلة العالم هذا اليوم، أكتب إليك لأنبئك بأن قصتك مستعمرة العظاءات ستنشر في عدد مجلتنا في تشرين الثاني 2012 وقد تم اختيارها بالاجماع للترشيح لقائمة البوشكارت، وسنقوم بتقديمها للقضاة، في الأول من كانون الأول. قلت لزملائي في المجلة عندما قرأت لأول مرة قصتك، إنها أقوى عمل أقرأوه منذ قرائتي لرواية كوتزي “بانتظار البرابرة. إنه لشرف لنا أن نضم عملك إلى صفحات مجلة العالم هذا اليوم، وأهنئكم على هذا التميز. مع الوداد.
أحسست بفخر لا مثيل له. ها هي قصة قصيرة لي تعترف بها إحدى أعرق المجلات في الولايات المتحدة وتعتبرها موازية في قوة تأثيرها لرواية “بانتظار البرابرة” للكاتب الجنوب أفريقي كوتزي والتي فازبها بجائزة نوبل. وظننت أن الأمر مع المجلة انتهى، لكنهم أرسلوا لي رسالة أخيرة يأخذون فيها رأيي في الجملة التي ستتصدر القصة، وكانت شيئأً عظيماً لا أحلم به:
لشجاعتك وكلماتك الملهمة، ستتصدر قصتك كلمات مختصرة تشير إلى أهمية ما كتبت:
لكل شيء ثمن، لكن هل نستطيع أن نضع بطاقة سعر للإنسان؟ في قصة محمود سعيد التي لم تتزعزع في رفض الدناءة والوحشية، حيث يتم حساب التكلفة الأخلاقية للحرب على الميزانية العامة لحياة بشرية واحدة.
كل هذا وأنا غير معترف به في وطني، وكل رواية أقدمها تمنعها الرقابة، وكان آخر روايتين منعتهما دار الشؤون الثقافية هما رواياتا “الطعنة” و”ووادي الغزلان”. هل هذا طبيعي أم لا إنساني؟
ثالثاً: في 16/10/2013 نشرت مجلة تايم مقالة عن اغتصاب المجنّدات في الجيش الأمريكي، قالت فيها إن 26000 الف قضيّة سُجّلت في العام الماضي، لكنّ معظم المجنّدات لا يجرؤن على الذهاب إلى المحاكم، لأنّ لجان التحقيق تتحيّز ضد الضحيّة، وعندما توجّهت الصحيفة إلى ضابطة كبيرة لتشرح القضيّة قالت: حتى أنا لو تعرّضت للاغتصاب لامتنعت من الذهاب إلى المحكمة لأن المحقّق يسأل الضحيّة أسئلة مقزّزة، يطالبها أن تشرح له أيّ أنواع الجنس تفضّل؟ وبأيّ طريقة تستمتع أكثر، وكيف تصل إلى الذّروة، وكم مرّة تمارس الجنس في كلّ وجبة، وهل تفضّل استعمال الحبوب أم المانع المطّاط؟ وهل تشعر بالّلذة في القذف من دون غلاف؟ وأيّ ملابس داخلية ترتدي، وما هي ألوانها الخ.
1130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع