مقهىً ببغداد مقهىً بقلبي

                                           

                               علي السوداني

وهذا أمرٌ كنّا طبخناهُ البارحةَ متّكئين على قوة الحنين ، وفيض التشهّي ولَوَبان الفؤاد بين محبس الأضلع .

كأنهُ إعادة وهمية لتدوير ما بادَ من أيامٍ راحت ولن تعود . ألزمان هو عشرية الثمانينيات الدامية والمبهجة في آنٍ ، والموضع هو مقهىً صغيرة تكاد تفغو تحت فيء بناية الكهرباء العالية بمنطقة الميدان ببغداد العباسية المذهلة . مقهى أبو سعد وقد انولدت أول مرة بسِدّ تلك البناية التي كنا أيامها نراها شاهقة ، إنْ دخلتَ الميدان من صوب شارع الجمهورية ، ويمّمتَ وجهك شطر الزقاق الأول على يدك اليسار . هي وصلة من بيت عتيق مبنيةٍ بطابوق الشناشيل ومفروشة بآخر منحوت اسمهُ فرشيّ ، ما يجعلها باردة طيبة في الصيف ، وعبقة رحيمة في الشتاء . مالكها ونادلها هو الإنسان الطيب أبو سعد البغدادلي القحّ ، وقد عاونهُ طوراً على لجاجة الزبائن المفلسين ، رجلٌ طويلٌ وسيمٌ بشاربٍ ، هو خلطة فنية شهية  من شاربي هتلر وجارلس برونسن . مخزون الذاكرة يقول لي أنّ أبا سعد كان اسمه حجي خليل ، ونادلهُ المزاجيّ هو مزهر الذي سيكون من اليسير عليك مجادلتهُ بالتي هي أحسن ، لتكشفَ عن شيوعيٍّ معتّقٍ جميل ومسالم .
جُدُر المقهى تشيلُ سلّةً من صور مطربي بلاد ما بين القهرين ، أهل المقام الذي كان يعشقهُ ويذوب فيه ويترنّم حجّي خليل ، مع تنويعات على سلّم بحّات أهل الجنوب ، وبسْتات بغداد وما فوقها ، وكان الحجّي يتلذّذ ويتفاخر مثل معلّمٍ شاطر ، وهو يشرح لنا أنّ هذا دشتٌ وذاك رستٌ وتلك قطعة نوى ، وهذه بسْتةٌ لا تخرج إلّا من باب المنصوري ، وإنّ مقام الصبا ليؤلمُ القلبَ ، وكان إذا استبدّ به الشوق وأكلَ مساءهُ الشجن ، أوحى لمن تبقى من زبائن التنبلة ، بأنهُ على وشك تنزيل الكَبَنك ، فيرحل الجمعُ ويتخلّف خمسةٌ أو ستة كنتُ أحدهم ، لتبدأ ليلة حلوة من غناء ومقام وعزف عودٍ ممكنٍ من أنامل أبي سعد ، ومائدة انزرعت فوقها زجاجات عرقٍ من صنف العصرية أو المستكيّ وكمشة قناني بيرة يكرعها أغضاض الشاربين ، خشية من مخازي التقيّؤ على القمصان أو تحت الطاولة .
على باب التسعينيات الميتة ، تحركتْ المقهى عشرة أمتار وحطّتْ ببناية جديدة قوية لا أدري اسمها ، لكنّ من علاماتها الواضحة ، كان المصرف الإسلاميّ .
هذه النقلة الإكراهية بين الطابوق البارد المنعش القديم ، والإسمنت الأخرس ، كانت أفقدتْ المقهى جمالها وحميميتها ، وربما ثلمتْ من عافية الحجّي واسترخاء مخّهِ ، فصار على بعض عصبيةٍ وفقدان صبر وعكرة مزاج ، وصرنا نهيىء حقائبنا الرخيصة ، لهجيجٍ موحشٍ من بغداد أمّ البلاد ، وقد فقدتْ مشطها الخشبيّ على شواطئ دجلة ، ومالَ وجهها إلى صفرةٍ مؤذيةٍ مثل منظر ليمونة يابسة ، تركها القطّافون مصلوبةً فوق غصن شتاء الحصار الأسود .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1214 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع