د. علي محمد فخرو
دعيت مرة لإلقاء كلمة مختصرة تمهيدية في لقاء سيتحدًّث فيه معلم وقائد روحي قادم من الهند. شبهت في حديثي الإنسان المتطلع للوصول إلى الصفاء الروحي والسمو الأخلاقي الإنساني الرفيع بالشخص الذي يريد الصعود إلى قمة جبل شديد العلو، عمودي مستقيم، غير منحن ولا الطريق إلى قمته متدرج.
وعليه فالمتسلق يجب أن يدرك انه لايستطيع أن يرخي عضلاته المتعبة ليستريح، ولايستطيع أن يضمد يده الدًّامية ليعاود الصعود. لأنه إن فعل ذلك فسيتزحلق من المستوى الذي وصل إليه إلى قاع الجبل، أي إلى النقطة التي بدأ منها رحلة صعوده. إنها رحلة تحتاج إلى عزيمة وعناد وتحُّمل الكثير من الآلام.
في اعتقادي أن ذلك التشبيه ينطبق على من يريدون تسلق جبال الثورات والحراكات التغييرية الكبرى من أجل الوصول إلى قممها، حيث العدالة والحرية والمساواة والإخاء والكرامة الإنسانية.
رحلة الوصول إلى قمم التحولات المجتمعية الكبرى تتماثل مع رحلة الصعود الروحي والأخلاقي. أيُّ تراخٍ في الطريق إلى كليهما يعني الانحدار والسُّقوط المفجع الحامل لأخطار حياتية مؤكًّدة.
مناسبة هذه المقدّمة هو اللًّغط، المفتعل منه والمبرًّر، الذي يملأ أرجاء الوطن العربي، حول ماحصل إبًّان الأربع سنوات الماضية من ثورات وحراكات قامت بها بعفوية جماهير الشعوب العربية وحول ماآلت إليه تلك الحراكات بسبب نجاح بعض قوى الخارج والدًّاخل في حرفها عن مسارها أو إدخالها في دهاليز خلط الأوراق أو تسلُّم قيادتها في المرحلة الانتقالية ممَّن ليس بالكفوء للنضال من أجل أهدافها.
الرًّد المطلوب على ذلك اللغط هو عدم التوقف عن التسلق نحو القمم المراد الوصول إليها، إذ إن ذلك سيعني الانزلاق مرة أخرى نحو قيعان التسلُط والاستبداد والإذلال والعيش في وحل التهميش، وإنًما الاستمرار في الصُعود حتى ولوكان الصعود بطيئاً وموجعاً في درب سيطول. ماعاد بالمقبول النظر إلى الهاوية التي تعجً بالدًجاج المنكًس الرأس الذي يكتفي بالبحث عن دود الأرض وإنًما المطلوب تركيز الأنظار نحو القمم حيث تحلق النسور في فضاءات نور وهواء العزًة والمجد والحرية.
لنذكر أنفسنا بأننا أمُة، أوصلها من أولها عبر القرون إلى أوضاع سياسية بائسة، إلى اقتصاد ريعي لايستطيع الانطلاق نحو تنمية إنسانية شاملة مستمرة، إلى تمزُق قبلي على حساب اللًحمة الوطنية الجامعة، إلى سجالات سخافات فقهية نقلت دين الإسلام إلى متاهات الطائفية والصراعات مع الأديان الأخرى، إلى الوقوف عند باب العلم والتكنولوجيا كأمة مستجدية تعيش على الفتات، إلى ممارسة ثقافة العلاقات الأبوية البطريركية المهيمنة مع الأطفال والنساء والتلاميذ والعمُال والموظًفين وسائر زملاء مسيرة الحياة.
لنذكُر أنفسنا بأنً أمة تعيش أوضاعاً متخلفة، شاملة كل مناحي الحياة، لن تستطيع النهوض من خلال عملية ترقيع هنا أو من خلال إصلاحات آنية جزئية هناك. وهي أمة لن تسمح لها ظروفها البالغة السوء ترف استراحة المحارب كما تفعل بعض قيادات ثورات وحراكات الربيع العربي.
نقول ذلك لأنً الأمة ستواجه كارثة تاريخية لو وجدت نفسها مجبرة على الانزلاق نحو هاوية المربع الأول الذي ظننا منذ أربع سنوات أن الأًمة قد غادرته بدون رجعة.
قد يبدو الكلام عن هذا المنطق، المنطق الذي يحكم صعود وهبوط الأمم أثناء محاولاتها إجراء تغييرات كبرى في مسيرة حياتها، قد يبدو وكأنه صرخة يائسة وعابثة في الأجواء المأساوية التي تغلف الأرض العربية في هذه اللحظة التي تعيشها الأمة.
لكن هذا التحفظ والخوف لا محل لهما. ذلك أن ازدياد آلام وجراح الأمة وإحساس الكثيرين بالضًياع يجب أن يدفعا شباب ثورات وحراكات الربيع العربي، ومن ورائهم الأمة بأجمعها، لتركيز الأنظار والأفئدة على ماينتظرنا في القمة، وبالتالي ممارسة الصعود حتى ولوكان ضئيلاً وتدريجياً بسبب الأجواء العاصفة التي تحيط بنا، وذلك بدلاً من التفتيش عن منطقة آمنة عند أقدام الجبل لنمارس الانزلاق الآمن نحوها.
مثلما أن مسيرة صعود جبل السمو الروحي والأخلاقي قد تنهار أو تتوقف بسبب ضعف الإنسان تجاه رذيلة واحدة لم يستطع تجنُبها أو بسبب استرخاء عزمه أمام غواية هائلة لم يستطع مقاومتها... فان الأمر نفسه ينطبق على مسيرات الثورات والحراكات الكبرى.
هذه أيضاً يجب أن تقاوم إغراءات الرذيلة النضالية ووهج الغوايات المزيف في الساحة السياسية. ستختلف الإغراءات والغوايات في مختلف الأقطار العربية وتحت ظروف متباينة، لكن النتيجة ستكون واحدة: دخول قوى الحراكات والثورات في جدل المماحكات الكلامية العابثة وتأجيل موعد الصعود إلى القمم الحضارية الإنسانية.
1234 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع