عدنان حسين
لن يغادر عبد الرحمن الراشد الميدان، ولن يولي المضمار ظهره، فهو من نوع الفرسان الذي لا يترجل من حصان إلا ليمتطي صهوة آخر..
المهنة في دمه، ومَنْ مهنته في دمه يكون متيماً بها لا فكاك له منها، وهذا سرّ مهنية عبد الرحمن الراشد العالية، ومهنيته العالية هي سرّ نجاحه المتواصل وتألقه الدائم.. ما أدار مؤسسة إعلامية الا وتميّزت في عهده... قناة "العربية" التي غادرها للتو بإرادته وبطلبات متكررة منه وبعدم رغبة مالكيها وذوي النفوذ فيها، شاهدٌ، وقبلها صحيفة "الشرق الأوسط"، ومن قبل مجلة "المجلة".. كل منها كان عهده فيها عصرها الذهبي.
عند عبد الرحمن الراشد الذي أمضيتُ معه أربعة من أغنى سنوات عملي الصحفي، كان إهمال الخبر المهم عن غفلة أو سوء تقدير خطأ، وإهمال الخبر تعمداً عن موقف سياسي خطيئة، وتضمين الخبر رأياً كفراً. هذا واحد من تجليات مهنية الراشد، فضلاً عن تواضعه الجمّ. ما رأيته يوما متكبّراً على محرر مبتدئ أو عامل خدمة بسيط، وما أوصد يوماً باب غرفته. كم من مرة وجدته يقف على بعد من كرسيي منتظراً أن أنهي مكالمة تلفونية أو عملاً على الكومبيوتر قبل أن يقترب بهدوء ملقياً تحيته مُستوضحاً عن مسألة أو مُبلّغاً عن معلومة تلقّاها للتو لنتحقق منها أو نتابع تطور الحدث الخاص بها.
عبد الرحمن الراشد، إلى ذلك، مدير جاد وحازم، وإن كانت تقاسيم وجهه الباسم كل الوقت لا تفصح عن ذلك.. في أول أيام تولّيه إدارة "العربية"، بعدما غادر "الشرق الأوسط"، اتصل بي من دبي يطلب أرقام هواتف السياسيين العراقيين الجدد لتستضيفهم قناته في برامجها الإخبارية.. زوّدته بقائمة.. بعد يومين اتصل مرة أخرى ليقول ان الأرقام التي قدمتها لا يردّ أصحابها على الاتصالات. تعجبت وأكدتُ له إنني لا أجد صعوبة في الاتصال بهم يومياً تقريباً وذكرتُ بعض الأسماء التي أتصلت بها في ذلك اليوم والأيام السابقة.
بعد سنوات أخبرني عبد الرحمن وأنا أزوره في مكاتب "العربية" في دبي انه اكتشف ان مدير الأخبار الذي مرّر اليه أرقام السياسيين لم يكن مهنياً.. كان صدّامي الهوى، فزعم ان السياسيين لا يردون حتى لا يستضيفهم، فما كان منه الا أن صرفه من الخدمة في الحال.
عبد الرحمن الراشد الصارم مهنياً، مفعم بالحسّ الإنساني المرهف للغاية. في أواخر 2003 اقترحتُ عليه أن أعود الى بغداد في مهمة صحفية لتغطية ما يجري بعد اندلاع أعمال العنف في الفلوجة، وكنت قبل ذلك قد أمضيت في بغداد أكثر من شهر، بعد أسابيع قليلة من سقوط الصنم.. تحمّس للفكرة لكنه في اليوم التالي أبلغني بانه لن يقبل بسفري.. لماذا يا رجل؟ .. أجاب: لأن شركات التأمين ترفض تغطية السفر إلى العراق، ولا أريد أن تجازف بحياتك.. وعلى مضض وافق أخيراً على أن أمضي في سفرتي متحملاً بنفسي المسؤولية عن العواقب المحتملة.
في مثال آخر شكوت له مرات عدة من ان مراسل "الشرق الأوسط" في إحدى العواصم الرئيسة لا يناسب الموقع الذي فيه ويتعيّن البحث عن بديل أنشط.. المرة بعد المرة كان عبد الرحمن يكتفي بهز رأسه موافقاً، وفي المرة الأخيرة قال: كل ما تقوله صحيح، لكن المشكلة ان هذا الزميل اذا ما صرفته من الخدمة سيصبح "homeless" وهو صاحب عائلة.. قلت له: لكنك لا تدير جمعية خيرية، قال :" صحيح ولكن يصعب عليّ أن أتخذ قراراً بشأنه".على مدى السنوات العشر الماضية أبهج عبد الرحمن الراشد حياتنا بـ"العربية".. المؤكد انه باق في الميدان من أجل بهجة أخرى.
1308 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع