الخليج خيمة العرب الأخيرة

                                         

                     الدكتور محمد عياش الكبيسي

لم يعرف العرب في كل مراحل تاريخهم ثقافة (الانتماء القومي)، والشعر الجاهلي الذي بين أيدينا مكرّس للفخر بالقبيلة ومآثرها، وليس فيه قصيدة واحدة لتعزيز الانتماء العروبي وترسيخ الهوية العربية، والتاريخ السياسي يتماهى مع هذه الثقافة، حيث لم يشهد التاريخ ما يمكن تسميته بدولة العرب ولو ليوم واحد.

بعد انطلاق الدعوة الإسلامية كان المشهد السياسي يتماهى أيضا مع الثقافة الجديدة القائمة على أساس (إنما المؤمنون إخوة) و (إن هذه أمتكم أمة واحدة)، وهذه الأمة هي أمة الإسلام التي ضمت بالفعل شعوبا مختلفة الأعراق واللغات، وقد تمكن بعض هؤلاء من قيادة الأمة كالأيوبيين والعثمانيين.

بعد انهيار الخلافة الإسلامية وسقوط الدولة العثمانية ظهر الانقسام القومي الحاد لضعف الثقافة الإسلامية، أو تقليدا للدول القومية التي تصاعد شأنها في أوروبا، فظهرت لأول مرة الدولة التركية (كمال أتاتورك) ومشروع الدولة الكردية (الشيخ محمود الحفيد) والثورة العربية الكبرى (الشريف حسين)، فانقلبت الموازين، وتغيّرت العلاقات، حتى صار المسلم يتحالف مع غير المسلم لحماية نفسه من أخيه المسلم! وهو إعلان عملي لإنهاء (الولاء الإسلامي) وثقافة (الأمة الإسلامية الواحدة).

بعد (ثورتهم الكبرى) اكتشف العرب أن (أصدقاءهم الغربيين) لا يريدون لهم الوحدة حتى لو كانت تحت راية قومية، خاصة بعد أن بدأ وعد بلفور بالتطبيق على الأرض مع نسف كل الوعود التي قطعها الغرب على نفسه تجاه العرب، فاتجهوا عبر (حركة القوميين العرب) ثم (الحركة الناصرية) وبمستوى مختلف (الحركة البعثية) لإعادة (الحلم العربي) بعيدا عن (الإمبريالية الغربية) وبتقرّب ملحوظ ومتفاوت من المعسكر الشرقي، بيد أن الوعود الشرقية لم تكن بأصدق من الوعود الغربية، منذ نكسة 1967 حتى تسليم صدام حسين لحبال المشنقة (الأميركية الإيرانية) وبتواطؤ مكشوف من قبل ما تبقى من المعسكر الشرقي.

في نطاق أضيق كانت هناك محاولات وحدوية مثل (الاتحاد الهاشمي) بين العراق والأردن، والوحدة المصرية السورية أيام عبدالناصر، ومجلس التعاون العربي (مصر والعراق واليمن والأردن) إضافة إلى محاولات القذّافي المضطربة والمرتبكة مع مصر وتونس ثم مع الدول الإفريقية! وكل هذه التجارب قد باءت بالفشل وانتهت إلى الصفر، وربما انقلبت إلى تحالفات مضادة للتجربة نفسها، ربما باستثناء التجربة المغاربية، وهي تجربة محدودة وغير فاعلة وتتعرّض لتحدّيات كبيرة مثل ملف الصحراء الغربية والإشكالات المتزايدة في الملف الليبي.

الخيمة العربية الوحيدة التي بقيت متماسكة إلى حد ما هي خيمة (مجلس التعاون الخليجي)، رغم الإشكالات الطارئة التي هددت إلى حد ما استقرارها السياسي، والتي من المؤمّل أن تكون قد وجدت طريقها إلى الحل بعد قمة الرياض.

من خلال متابعة ومعايشة طويلة يمكن القول إن صمام الأمان الأقوى في هذه الخيمة هو التلاحم الشعبي، فالخليجيون موحدون بثقافتهم وأخلاقهم وعلاقاتهم وتطلعاتهم، ولا يمكن لهم أن يفرّطوا بكل هذا من أجل (الخلافات السياسية الطارئة). لقد رأيت دول (القومية العربية) كيف تنشطر شعوبها بأول خلاف سياسي، ويتبادلون السباب والشتائم ويتقاذفون الأحجار والقناني الفارغة وأشياء أخرى تشجيعا لفريق رياضي أو تأييدا لحزب سياسي أو موالاة لجماعة دينية! إن مثل هذا يستحيل أن يحصل بين الخليجيين حتى على مستوى الشباب والمراهقين.

إن قرارات (الرياض) جاءت منسجمة مع هذه الثقافة وتلك الروح السائدة، وإن كان للساسة فضل وحكمة فإنما هو في قدرتهم على التناغم مع طموحات شعوبهم في هذه المرحلة الخطيرة والحسّاسة.

إن الأمل الذي تجدد بقمة الرياض قد تجاوز حل الإشكالات العالقة وعودة السفراء إلى المستوى الذي نأمل فيه أن يتسلم الخليج مفتاح (الحل العربي) وقيادة المنطقة برؤية جديدة تتجاوز إخفاقات الماضي وظلاله الثقيلة.

إن القادة الخليجيين يبدو أنهم متفقون على أهم ملفين من الملفات العربية الساخنة، وهما الملف السوري (الإطاحة ببشار) والملف اليمني (عودة الاستقرار)، وهذا الاتفاق يمكن أن يأخذ المساحة الأوسع من (الجهد الخارجي)، وكل خطوة ناجحة في هذين الملفين معناها بناء لبنة صلبة في ملف العلاقات الداخلية.

في الملفات الهادئة هناك ملف الانفتاح على (الأردن والمغرب) وهما الدولتان الأكثر استقرارا في كل الدول العربية، ونظام الحكم فيهما أقرب إلى النظام الخليجي، وإذا كان اقتراح (الضم) اقتراحا متعجلا لم يستكمل شروطه وقد يكون مستبعدا وغير ملائم، فإن (الانفتاح) وتعزيز حلقات التنسيق والتعاون من شأنه أن يسهم في لملمة الشعث العربي، وفي تعزيز الموقع الريادي لدول الخليج.

في الملف الأمني هناك حساسية شديدة لدى بعض دول الخليج من حركات (الإسلام السياسي) لاعتبارات كثيرة، ومهما كان الخلاف حول هذه النقطة فإن المجتمع الخليجي عامة ليس بحاجة إلى هذه الحركات فضلا عن الحركات الأخرى اليسارية أو اليمينية القومية أو الليبرالية، والتي هي سبب من أسباب الصراع والإشكالات المتفاقمة في المحيط العربي.

إن المجتمع الخليجي مجتمع متدين بالفطرة، وإقحامه في هذه الصراعات والخلافات الأيديولوجية والسياسية المعقدة لا يصب في مصلحته أبداً لا سياسيا ولا دينيا، والأولى بهذه الحركات أن تعلن بشكل رسمي وعملي إغلاقها لأي نشاط من هذا النوع داخل الخيمة الخليجية، خاصة أننا رأينا أن هذه الحركات لم تستطع أن تطبق شيئا من نظرياتها في بلادها الأصلية حتى بعد وصولها إلى الحكم، وكان انسحاب حركة النهضة التونسية مؤخرا من واجهة الحكم إدراكا واعيا وقراءة حكيمة لهذا الواقع.

إن تردد العرب في الاستفادة من الحالة التركية الصاعدة والمتنامية لم يكن عن تشكيك في مستوى النجاح التركي ولا في قيمة التحالف مع تركيا، لكنه جاء من ذلك الطرف الأيديولوجي الذي يربط التجربة التركية ببعض العناوين ذات الحساسية الشديدة، مع أن أردوغان نفسه لا يتبنى أدلجة النظام، بل يعتمد استراتيجية اقتصادية تنموية لا علاقة لها بالإشكالات العربية ذات البعد الأيديولوجي النظري، وإن خسارة الطرفين (العربي التركي) لبعضهما لا مبرر لها، وبإمكانهما -لو أرادا- تصحيح الوضع القائم بأيسر مما يتوقع.

إن قمة الدوحة المرتقبة ستشكل -لا شك- نقطة التحوّل المفصلية، وهي اختبار جاد لقدرة القادة الخليجيين على الاضطلاع بدورهم المأمول في قيادة سفينة الأمة والخروج بها من هذا المأزق الخطير الذي لم تتعرض لمثله في كل تاريخها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1294 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع