د. منار الشوربجي
أخبار متزامنة شهدتها الساحتان الدولية والأميركية، بينها تناقضات واضحة تفتح الباب للأسئلة أكثر مما تقدم إجابات.
فقد أعلنت الولايات المتحدة والصين إبرامهما لمجموعة من الاتفاقات المناخية والعسكرية والتجارية، رغم أهميتها، مثلت في جوهرها تناقضا مع ما يجري داخل أميركا.
فقد توصلت الولايات المتحدة والصين، خلال زيارة أوباما الأخيرة لبكين، إلى اتفاق للحد من الانبعاثات الحرارية التي تؤثر سلبا على مناخ الكرة الأرضية، واتفق البلدان على إخطار كل منهما للآخر قبل القيام بنشاط عسكري واسع، فضلا عن وضع قواعد للسلوك الجوي والبحري للحد من احتمالات المواجهة العسكرية بينهما.
كما توافق الزعيمان على تعزيز التجارة بما يؤدي لرفع التعريفة الجمركية عن التكنولوجيا الدقيقة، فضلا عن اتفاق آخر يمنح مواطني الدولتين مميزات في تأشيرات دخولهما.
والحقيقة أن اتفاق المناخ بين البلدين كان بمثابة مفاجأة، حتى لأكثر المتابعين عن كثب لقضايا المناخ والبيئة. فقد تم الإعداد للاتفاق سرا، ولم يعلن عنه من قبل أي من الدولتين اللتين تعتبران الأكثر مسؤولية من غيرهما عن الانبعاثات الحرارية التي تشكل تهديدا للمناخ.
والاتفاق كان مفاجأة لأنه شكل تحولا ملحوظا في موقف الصين من تلك القضية، فالصين لعبت تقليديا دور القائد لدول العالم الثالث، التي تتبنى موقفا مؤداه أن على الدول الغنية أن تبدأ بنفسها وتحد من الانبعاثات الحرارية لديها، ثم تقدم مساعدات لدول العالم الثالث للقيام بالمثل دون أن تتهدد مسارات التنمية الاقتصادية فيها.
لكن يبدو أن ظاهرة الضباب الملوث التي عانت منها الصين مؤخرا، قد سببت إحراجا للحكومة الصينية على المستوى الدولي، فضلا عن أنها مثلت تهديدا اقتصاديا ينذر بهروب الأجانب، ما شكل دافعا لاتخاذ ذلك الموقف الصيني الجديد، وربما أدركت الصين أن بمقدورها تحقيق أرباح من خلال تصدير تكنولوجيا الطاقة البديلة للدول الأخرى.
وقد التزمت الولايات المتحدة في ذلك الاتفاق، بالإسراع في تخفيض الانبعاثات الحرارية بحلول 2025. لكن الاتفاق قوبل بعاصفة من الرفض من جانب الجمهوريين، الذين فازوا لتوهم بمقاعد الأغلبية في الكونغرس، فقد اعتبروا الاتفاق «غير واقعي» وربما «قاتلا للوظائف».
أكثر من ذلك، كان واضحا منذ اليوم الأول لفوز الجمهوريين، أنهم ينوون العمل على التراجع عن القرارات الجديدة التي كانت هيئة حماية البيئة الأميركية قد اتخذتها مؤخرا للحد من الانبعاثات الحرارية، ولم يتم البدء في تطبيقها بعد.
وهي القرارات التي، رغم محدوديتها، تسهم في تنفيذ الهدف الذي تم الاتفاق عليه مع الصينيين. وليس واضحا بعد الموقف الذي سيتخذه الكونغرس الجديد من المؤتمر الدولي للمناخ في باريس العام المقبل، ولا ما إذا كان هناك تعارض بين الاتفاق الأميركي الصيني بشأن المناخ، وما يتعلق باتفاقات التجارة الحرة بين البلدين.
أما في ما يتعلق بالاتفاق العسكري، فهو في مضمونه يمثل بنودا طالما سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة للتوصل إليها مع الصين، لكن يبدو أن في الداخل الأميركي ما يتناقض مع ذلك الاتفاق أيضا.
فليس سرا أن إدارة أوباما سعت منذ البداية للتوجه نحو آسيا، بما في ذلك الوجود العسكري القوي فيها، لأسباب متعددة على رأسها القلق من ازدياد الميزانية العسكرية الصينية، وهي الميزانية التي يقول الصينيون إنها تزداد لقناعتهم بأن الولايات المتحدة الأميركية تعتبر الصين عدوا، ومن ثم على بلادهم الاستعداد لحرب قادمة تشنها الولايات المتحدة.
ويشير المراقبون إلى أن الدوريات التي تصدرها كليات الحرب الأميركية، تعج بالدراسات التي تتناول كيفية الانتصار على الصين في الحرب! وفي اليوم نفسه الذي كان يتم فيه الاتفاق مع الصين على الحد من احتمالات المواجهة، كانت وزارة الدفاع الأميركية تعلن أنها ستطلب من الكونغرس وقف تخفيض الميزانية العسكرية الأميركية الذي تم بموجب اتفاق الميزانية.
وهو المطلب الذي سيلقى على الأرجح ترحيباً لدى الكونغرس الجمهوري، الذي أعلنت قياداته أن مراجعة الموقف من الميزانية العسكرية على أجندة أولوياتها.
بل أكثر من ذلك، ما إن وصل أوباما لأستراليا، حتى كان يوجه رسالة مبطنة للصين، مؤداها أن لا أحد ينبغي أن «يشك في عزمنا أو التزامنا تجاه حلفائنا» في المنطقة.
وعلى الرغم من أن الاتفاق العسكري الصيني الأميركي، من شأنه أن يعطي إشارات من الجانبين بوضع توتر العلاقات في حدود محكومة، يظل اتفاق المناخ، بغض النظر عن الصراع الداخلي في واشنطن، ذا مغزى دولي أكثر اتساعاً، فالتحول في الموقف الصيني يفتح الباب أمام مفاوضات أكثر جدية في باريس العام المقبل بشأن قضايا المناخ.
لكن يظل السؤال المهم؛ هل من شأن ذلك التحول في الموقف الصيني أن يشجع الدول الكبرى، ليس فقط على المزيد من القيود على الانبعاثات الحرارية لديها، وإنما على تقديم العون المطلوب لدول الجنوب لتتبنى مساراً تنموياً لا يضر بالمناخ؟ أم أننا سنجد في مؤتمر المناخ القادم استمراراً للواقع نفسه الذي يدفع الكثير من دول الجنوب لتبني الموقف الهندي الذي يقول «محاربة الفقر أولوية مقدمة على المناخ»؟!
1306 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع