أ. د. عبدالرزاق محمد جعفر
استمرت رحلة "صابر" في القطار السريع النازل من موسكو الى يوغسلافية ثلاثة ليالي,ولأول مرة شـعر بسـعادة لا مثيل لها منذ أمًـد طويل,..
ورمى نفسه كأعمى بطريق مُظلم أو كما يقال بالمثل العراقي (لزكه جونـسـن) ليوطد علاقته مع المرأة اليوغسلافية وأبنتها, وتبادل معهن الحديث عن العادات الأجتماعية في بلاده,..والصعوبات التي عاناها لكي يتأقلم مع العادات التي عاشها أيام دراسته في جامعة موسكو!,..وشعرت الأم بتفهمه لحياتهن العصرية, ولذا عرضت عليه قضاء اليوم الأول في ضيافتهن عند وصول القطار الى مدينتهن,.. فقبل الدعوة بفرح وسـرور,..وتذكر ملهمته أم كلثوم وهي تردد من شعر عُمر الخيام:
لا تشغل البال بماضي الزمن = ولا بآتي العيش قبل الأوان !
وما أن أطلت, أطراف مدينة (كيكندا),حتى بدأت المرأة وابنتها, تستعدان لتنظيم (عفشهم),.. ثم التفتت الأم الى "صابر" وطلبت منه ان يضع معطفها الذي أشترته من موســكو والمصنوع من (الفرو الجيد), في حقيبته لأنه ســائح, ولا يُطلب منه دفع ضريبة كمركيه.
وعلى اية حال , تفهم "صابر" خوف المرأة من شرطة كمارك الحدود , في فرض ضريبة على البضائع المستوردة ,..وأحتمال مصادرتها أو حجزها عند عدم الرضوخ لقراراتهم,.. فيضطربعضهم لدفع المبلغ لعدم توفرتلك البضاعة في اسواقهم المحلية آنذاك .
***
وصل القطار الى (محطة كيكندا), وبدأ الركاب بالهبوط يتقدمهم "صابر", ومن خلفه الأم وأبنتها,.. وكان في استقبالهم زوج المرأة اليوغسلافية, مُرحباً بالجميع,.. وقدموا له "صابر", فرحب به وأصر على ضيافته في هذه الليلة ,..فتردد "صابر", ثم وافق ورافقهم نحو دارهم !
أقتاد رب العائلة ضيفه الى غرفة الأستقبال,..وراحت الأم وأبنتها تعدان مائدة العشاء على شـرف "صابر",.. فكانت سـهرة ممتعة أزالت عنه هُموماً كادت أن تمزقه,.. فوجد في هذه الأسرة سـر السعادة الذي طالما بحث عنه,.. أنه الحب بين أفراد الأسرة,.
وهكذا قضى ساعات طويلة,في جلسة عائلية واكلات طيبة ومشروبات متنوعة من عصير العنب الأحمر الموسوم بـ (جورني كلازا ,..أي العيون السود), و راح يدندن بصمت الأغنية العراقية (اللي يريد الحلو يصبرعلى مُـرَ),.. ويبادله الجميع بأبتسامات المودة,.. ويخاطب الفتاة بلغة العيون ,..وتبادله الجواب الشاف,..الذي لا يفهمه ألا من أكتوى بنار الفراق !
***
في صباح اليوم التالي اتصل والد الفتاة بقريب "صابر",..واعطاه العنوان , فجاء على الفور بسيارته,.. فأستقبله رب العائلة, وتبادل مع "صابر" التحية,وتعارفَ مع بقية أفراد العائلة المُضيفه, .. وبعد أستراحة قصيرة ودع "صابر" معارفه,..وتبادل معهم العناوين,.. ووعدهم بزيارة اخرى في المستقبل , وتبادل نظرات مفعمة بالأسـى مع الفتاة وهو يردد بصمت , ما قاله بن زريق البغدادي لأبنة عمه في قصيدته اليتيمة عندما ودعها :
ودعتها وبودي لو يودعني = صفو الحياة على أن لا أودعه
***
انتقل "صابر" للسكن مع قريبه,(......), الطالب في كلية زراعة (كيكندا), والمتزوج من أمرأة يوغسلافية, وشـعـر بينهم بالأطمأنان, وما ان حلً المساء حتى طلب المضيف من ضيفه التهيؤ لعمل جولة في مركز المدينة,.. فرحب "صابر" بالفكرة ,ونهض بهمة ونشاط وأرتدى وبسرعة قياسية,.. أجمل بدلة ,.. وقال لقريبه : هيا بنا أنني على أتم الأسـتعداد !
وما ان وصلا الى المنطقة حتى لاحظ "صابر" جمع غفير من الصبايا والشباب, يسيرون جنباً الى جنب في دائرة مُغلقة حول المقهى,.. فـذهلَ "صابر"من ذلك المشهد,.. الذي لم يرى اويسمع بمثله !, وعلى الفور طلب المُضيف من "صابر"حـشدَ نفسه بين الشباب من الجنسين, فتردد لفترة ,.. ثم تشـجعَ, ودخل في المعمة, وأنتقى صبية جميلة,.. فأقترب منها, وقدم نفـسه لها, وعرفته بنفسها,..وسار بجنبها لبضعة دقائق ,.. ثم دعاها الى المقهى, ولبت دعوته !,.. وأسـتمر "صابر" بصداقته مع تلك الشابة, الى ان حان موعد مغادرته الى اسـطنبول.
أستقل " صابر" الطائرة المتوجهة الى اسطنبول تلبية لدعوة زميله (أبو علي),.. الدارس في كلية الطب, بجامعة أسطنبول,.. في الوقت الذي غادر فيه "صابر" العراق لأتمام دراسته العليا في جامعة موسكو في (نوفمبر), 1960,واستمر كلا منهما في تتبع أخبارالآخر, وما ان علم (ابو علي) بحصول رفيقه "صابر" على الدكتوراه, حتى رجاه لزيارته في اسطنبول في اول فرصة تتاح له, وبعث له بالعنوان.
***
في السنة التي تدهورت فيها علاقة "صابر" بزوجته الروسية, وبعد اليأس من عودتها الى العراق, تذكردعوة زميله ( ابو علي) , وفوراً اتخذ قراراً بالسفرالى اسطنبول,.. لكي يفــش غـله مما فعلت به الأيام !
حطت الطائرة على مطار اسطنبول , وتنفـس "صابر" الصعداء وزال عنه الهم الذي ظلً جاثماً على صدره لتعند زوجته وعدم مرافقته بالعودة الى العراق عن طريق أسطنبول التي طالما حدثها عنها !
اكمل " صابر" كل الأجراءات, لمغادرة المطار, ثم أستأجر (تاكسي) وتوجه الى دارسكن زميله ( ابوعلي) , .. الا انه فوجئ بأنتقاله الى شقة اخرى!,.. فتوجه الى احد الفنادق الراقية وسط المدينة أسمه (يونك هوتيل),.. وحمد الله على حصوله لغرفة من دون حجزمسـبق, وفي الصباح هبط "صابر" لتناول الفطور, وتوجه لتسليم المفتاح الى الأستعلامات, واذا بالموظف الواقف هو زميله (ابوعلي),.. فذهل الأثنان , وتم العناق والبكاء,..الى ان هدأت النفوس, فسرد كلاً منهما ما جرى له من عذاب وبلا!
قـصَ (ابو علي) على زميله "صابر" الخطوط العامة لمسيرة حياته, وقال: دخلت طب اسطنبول على نفقة الوالد,وكان يبذخ علي المال حتى أعود لهم دكتور! ,..الا انني خيبت ضنهم فقد استهترت وانغمست في حياة المجون,... وبعد وفاة الوالد أستولى الأخ الأكبرعلى ثروته,.. وما ان علم بعدم احرازاي تقدم في دراسـتي, حتى قطع عني المنحة الشهرية فتركت الدراسة !
وعملت في هذا الفندق بمرتب جيد, اضافة الى المنح ( البخشيش),.. التي يغدقها علي الزبائن بعد مغادرتهم الفندق, اضافة الى المردود من ندوات الترجمة بين التجارالأتراك والعرب !,.. ثم اتصل (ابوعلي), بزوجته العراقية واعلمها عن وصول "صابر",... وطلب منها تحضير أطيب الأكلات العراقية, ففرحت الزوجة بالزائر, واعدت (الدولمة والتشريب), وفي منتصف النهار, حضرالزوج وضيفه , ورحبت بهما الزوجة , فقدم لها الهدايا التي جلبها من موسكو.
ما ان اتموا الغداء على انغام اغاني عراقية, حتى قدمت الزوجة الشاي على الطريقة التركية, حيث الـ (القوري) فوق (السماور), وصينية أقداح الشاي وعليها ( الأستكانات) وصحن القند (مكعبات السكر),.. واستمرت أحاديث الذكريات عن اصدقاء الطفولة حتى المساء ,..حيث خرج الصديقان الى مطعم راق يطل على البسفور,..
وبالغ ابو علي في اكرام زميل طفولته الى ساعة متأخرة,.. وقبيل مغادرة المكان ,اخبر "صابر"صديقه عـن أحتمال وصول برقية من بغداد على عنوانه القديم,.. فرجاه أعلام الساكن الجديد عنها والأتصال به حال وصول البرقية.
وعلى اية حال,.. فبعد نهاية السهرة, اوصل ابو علي ضيفه الى الفندق, وحالاً خَلدَ "صابر" للنوم ,.. ولم يدري كم مضى من الوقت حتى سمع قرعاً على باب غرفته,.. فهب مذعوراً,.. وتعوذ من الشيطان,..وفتح الباب, واذا بزميله ( ابوعلي), فتعجب "صابر",وعلى الفورسـلمه برقية وقال له : تهانينا,.. زوجتك وصلت بغداد,.. فلطم "صابر" على جبينه,... وقال لزميله : "يعني ما انقبلت للعمل في السعودية !",.. لم يفهم ابوعلي اي شيئ!,.. وراح "صابر" يشرح لزميله وقال : لقد اتفقت مع صديقي( فلان), ان يكتب في البرقية العائلة في بغداد في حالة رفض السفارة السعودية قبولي كأستاذ في جامعة مكة ,..والعكس صحيح, اي لو كنت مقبولاً لكتب: " العائلة لن تحضر", عندئذ سأتوجه الى مكة مباشرة !
ذهل (ابو علي) و لم يستوعب هذا السيناريو , وعلى الفور طلب من "صابر" تغييرملابسه للخروج ثانية الى مركزاسطنبول لأكمال السهرة, لأن البرقية طيرت النوم من عينه وحولت الفرحة الى حزن !
***
يتبع في الحلقة / 16 مع محبتي !
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/maqalat/13508-2014-11-11-22-59-02.html
1368 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع