د .محمد عياش الكبيسي
الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدث لا كالأحداث ومناسبة لا كالمناسبات، وربما يسعنا القول: إن التاريخ البشري كله قد ولد بها ولادة جديدة، وإن أغلب الأحداث الكبيرة والصغيرة التي جاءت بعد الهجرة إنما كانت امتدادا لها أو أثرا من آثارها، من معركة بدر وفتح مكة إلى سقوط كسرى وفتح القسطنطينيّة، ولن تنتهي هذه الآثار و الامتدادات حتى تقوم الساعة، ولذلك كان ينبغي على سكّان الأرض جميعا أن يتناولوا هذا الحدث بالتحليل الدقيق والعميق فهو لا يخصّ المسلمين دون سواهم، ولا يخصّ مرحلة دون أخرى، ولا بقعة جغرافية دون غيرها.
أما المسلمون فهم مقصّرون مع دينهم وتراثهم وتاريخهم والعالم الذي حولهم إن لم يقدّموا قراءتهم الناضجة والواعية لهذا الحدث الكبير.
إن ترديد المقولات التي لم تخضع للفحص والتحقيق قد أضرّ بقدرة المسلمين على تشكيل الصورة الكلّية الصالحة للتأسّي والاقتداء، ومن ثمّ تعددت القراءات وتعددت الصور في أذهانهم فكان هذا سببا مضافا لضعفهم وتشتتهم.
إن تفسير الهجرة كنتيجة حتمية لعقيدة الولاء والبراء قد ألقى بظلاله في نفوس الشباب المتديّن فظنوا أن مفاصلة المجتمعات غير الإسلامية واجب ديني وعلامة فارقة للإيمان الحق والتوحيد الخالص! وهذه إحدى المقولات التي جعلت الشباب يعيشون حالة من القلق والتوتر مع مجتمعاتهم تمكنوا من الهجرة عنها أم لم يتمكنوا.
لقد نسي هؤلاء أن قرار المقاطعة وعزل المسلمين عن المجتمع المكي كان قرار المشركين وليس قرار المسلمين، وكان اليوم الذي سلّط الله فيه الأرضة على وثيقة المقاطعة كان يوم نصر للمسلمين، فالمسلمون لا يسعون إلى مقاطعة أحد، وليس ذلك مطلوبا في دينهم.
ونسي هؤلاء أيضا أن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة وجد فيها قبائل اليهود وبعض البطون المشركة من قبائل العرب فضمّ هؤلاء جميعا في دولته، وبنود الوثيقة النبوية صريحة في هذا، ثم تحالف مع قبيلة خزاعة وكانت على الشرك أيضا.
وفي القصص النبوي شواهد مماثلة، فهذا يونس -عليه السلام- يعاتبه الله عتابا شديدا لأنه هجر قومه ولم يصبر على المقام معهم مع أنهم كانوا على دين غير دينه، وهذا يوسف -عليه السلام- بقي يعمل لإنقاذ أهل مصر من الفقر والجوع وهم على دين آخر، بل كانت الحكومة التي يعمل فيها على غير دينه أيضا (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك).
إن هناك فرقا شاسعا ومؤثرا في نظرة المسلم لغيره بين أن نقول: إن الهجرة كانت بسبب (كفر المجتمع) أو أنها كانت بسبب (ظلم المجتمع)، وهذه نقطة جوهرية وحاسمة وتجعل المسلم على مفترق طرق في علاقاته المحورية.
إن إبراهيم -عليه السلام- الذي قال: (إني مهاجر إلى ربي) لم يهاجر إلا بعد أن آذاه قومه وأضرموا فيه النار، بينما تقبّل المصريون يوسف وإخوته ورحّبوا بهم فعاشوا وتعايشوا معهم رغم ما بينهم من خلاف في المعتقد، وعلى هذا ينبغي إخراج موضوع الهجرة من دائرة (الولاء والبراء) إلى دائرة (فقه العلاقات) وهذه دائرة واسعة وتحتمل الاجتهادات الكثيرة والمتنوعة بحسب تقدير الموقف وحسابات المصالح والمفاسد.
في دائرة التأريخ هناك من يدعو إلى حتمية أخرى مؤدّاها ضرورة التحقيب الزمني للدعوة والعمل الإسلامي، فتراه يقول مثلا: لقد بقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عشر سنوات-مرحلة الجهر بالدعوة- في مكة لا يهتم إلا بقضية واحدة فقط وهي قضية التوحيد، حتى إذا اطمأنّ أن أصحابه قد أكملوا (دورتهم الإيمانيّة) وترسّخت فيهم عقيدة التوحيد الصافية أمرهم بالهجرة!
والحقيقة أن هذه المقولة لا تخلو من مغالطات دينية وتاريخية، أما الدين؛ فإن القرآن المكي تعرّض لكل جوانب الحياة ولم يقتصر على مسائل العقيدة فتراه يقول: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) و (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) و (فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة)، وفي القصص النبوي نجد شعيبا-عليه السلام- يقرن دعوته إلى التوحيد بدعوته للعدل الاقتصادي (قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان)، ونجد لوطا- عليه السلام- يقول لقومه وهم على شركهم: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون)، ونجد موسى-عليه السلام- يندد بالفساد والظلم ويعمل على إنقاذ المظلومين (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) والملاحظ هنا حجم التفريق بين (فرعون يوسف) و(فرعون موسى) فالأول تجب الهجرة إليه والتعاون معه، والثاني يجب التمايز عنه والخروج عن حكمه وأرضه!
أما المغالطة التاريخية فالعقد المكي لم يكن تخطيطا نبويا لغرض إكمال التعليم والإعداد التربوي، بل هو فترة اقتضتها البيئة والظروف المحيطة لا أكثر، ولو آمن الأوس والخزرج قبل ذلك لهاجر إليهم -عليه الصلاة والسلام- بدليل أنه هاجر إلى الطائف قبل ذلك، وبعث خيرة أصحابه إلى الحبشة قبل ذلك أيضا, فأين هذا التقديس للعهد المكي ولسنواته العشر؟ ثم لو كانت هذه العشر ضرورة تربوية فلماذا لم يفرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين الجدد والذين دخلوا في دين الله أفواجا بعد الهجرة؟ ولماذا لم يكرَّر هذا النموذج المكي في البلاد الأخرى؟ ولماذا اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- خالدا -رضي الله عنه- لقيادة جيشه وهو لم يمض على إسلامه سوى بضعة شهور؟ ولماذا اختار عمرُ بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- واليا على الشام وفيها المهاجرون والأنصار؟ فالذين خضعوا للتربية والإعداد لعقد من الزمان أو يزيد قد أصبحوا في الكثير من الأحيان جنودا في ظل (القادة الجدد) الذين لم يخضعوا لتلك التربية، وهذا يؤكّد أن تلك الفترة لم تكن حتمية دينية ولا حتمية تاريخية ولا تربوية بل هي بنت ظرفها وبيئتها وكان ممكنا أن تكون أقل من ذلك أو أكثر، وكل ما بني على ذلك التحقيب من نظريات وأدبيات بحاجة إلى المراجعة وإعادة النظر.
778 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع