سناء صليحة
تردد صوت المؤذن داعياً لصلاة الظهر.. مسحت وجهها بكفيها بعد أن سَبَّحت وحوقلت ودعت بالتوفيق والهداية لحبات القلب.. راجعت نفسها لتتأكد أنها لم تنس وضع الأرغفة بجوار إناء الطبيخ بعد أن كشفت غطاء الإناء لتعاود إحصاء قطع اللحم التي غطتها الصلصة وتحلقت حولها أقماع البامية..تذكرت أنها أعادت الغطاء لمكانه بعد أن اطمأنت أن عدد القطع يساوي عدد الأبناء.
راودها خاطر مزعج فيما كانت تطرح المفرش اللاسيه تأهبا لمأدبة سيدة الدار..استعادت تفاصيل يومها إلي اللحظة التي خلعت فيها نعليها قبل أن تخطو بقدميها علي بساط لم تفلح قط أن تلتقط اسمه الذي رددته ربه المنزل مرارا و تكرارا فيما كانت توضح لها طرق تنظيفه و الحفاظ عليه ،وإن عاودتها ذكري ملمسه الدافئ في كل مرة كانت تحكم فيها الغطاء حول صغارها ..مع تأكدها من ضبط زوايا المفرش علي المائدة استعادت أناملها ذكري و صورة مفرش بال حفظته من جهازها فوق منضدة لم يبق من لونها الأصلي سوى لطخات طلاء متفرقة ظلت عالقة على الجوانب التي لم تصل إليها مياه المسح ولا أقلام الصغار لتعمل فيها الشخبطة والحفر..
تنهدت ..فما تزال الأصيلة تواصل أدوارها، فتتحول من مائدة طعام إلى مكتب للاستذكار، ومن منضدة عمل لإعداد الطعام وقص الباترونات إلى فراش تحوطه بالوسائد لتضمن ألا ينزلق من جانبها العفريت الصغير الذي لا يهدأ حتى في نومه. ارتسمت على شفتيها ابتسامة عندما تراءت لها صورة أصغر أبنائها الذي ما إن يغلبه النوم حتى يبدأ في الرقص والدوران حول نفسه كعقارب الساعة، فلا تعود رأسه لتلامس الوسادة إلا مع صوت مؤذن الفجر.. في أول الأمر تنازعها الشعور بالذنب والشفقة تجاه الصغير الذي اضطرت أن تحرمه من فراشه الدافئ، بدلا عن الفراش الوحيد في المنزل لتخلي الحجرة لشقيقتيه لتطالعا دروسهما وتدبرا شئونهما..
لسنوات طويلة ظلت تحلم وتخطط لأسَّرة جديدة، أصغر وأجمل من فراش عرسها اليتيم، تضمها جدران منزلها مع عودة الغائب.. لكن الغائب لم يعد.. لعله مات أو تزوج أو... لم يعد يهم.. لم يعد يشغلها الآن إلا أن ترتب الاحتياجات اليومية وألا تصبح صغيرتاها صورة مكررة منها أو من أي من نساء الحي... في الليلة الأولى بكت عندما بدأ الصغير يمارس لعبته الليلية فانزلق من على المنضدة وشجت رأسه.. كادت أنت تتراجع وأن تسترجع ما منحته، لكن الكراسة التي دستها الصغيرة في جيب جلبابها على عجالة، فلم يظهر منها سوى بطاقة تحمل اسماً يتأرجح صعوداً وهبوطاً مع حركة يدها فوق جبين الصغير وهي تضمد الجرح، حسمت الأمر..
اقترحت الصغرى إجراء تعديل لتعود الأم والصغير للحجرة.. لم تقبل من الاقتراح سوى الجزء الخاص بإحاطة المنضدة بالوسائد والمقاعد لتحمي الصغير من السقوط. .حاولت أن تقاوم النعاس، وتشبثت يدها بالصغير على أمل أن يهدأ جسده بفعل دفء كفيها أو على أقل تقدير أن تقوم هي بدور المصد.. لكن سرعان ما تراخت الكف، وحال النعاس بينها وبين إدراك بدء دورة الصغير الجهنمية، التي لم تشعر بها إلا عندما عادت رأسه للوسادة لتلفحها أنفاسه مع تسلل صوت المؤذن إليها بين صحوة وإغفاءة..
مدت يدها داخل الصندوق الخشبي لتلتقط جلبابها الأسود..قبل أن تعيد الغطاء لموضعه لمحت طرفاً وردياً ناعماً يطل من بين ثنايا جلابيب منزلية بَلَتْ وطرْحة سوداء نسيت أن تلتقطها.. مدت يدها لتلتقط الطرحة.. راودتها نفسها أن تخرج الثوب الوردي من محبسه.. تملكتها رغبة عارمة أن تغرق كفها في طياته الناعمة.. ،لم تفلح مبرراتها المنطقية بتفحص حالة الثوب لتعطيه لإحدى البنتين في أن تخفف من ارتباكها.. أغلقت الصندوق في عنف وهي تقول: “مش وقته حا تأخر”.
تأكدت من إحكام الطرحة حول وجهها وأنها تغطي أطراف ضفائر لم تفلح يوماً في أن تعقصها لتخفيها وراء منديل الرأس. عاودتها نفس الخواطر المزعجة وهي تطرق باب جارتها لتترك للصغار المفتاح و توصيها بهم لحين عودتها..
لاحقتها كلمات الجارة: «.. ربنا يقدّرك عليهم يا أختي ».
مضت في طريقها يحف بها قلق مزمن لا يتبخر بسخونة شمس أيام برمهات أو لسعات برد طوبة .. تتلمس السَكينة في دعاء للرحمن..
808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع