سيكون مفجعاً لو أضاعت وسائل الإعلام العربية الفرصة التاريخية الحالية من أجل ربط واقع المجتمعات العربية، سواء واقع ما قبل الثورات أو ما بعدها، بحملة مركزَّة لنشر ثقافة سياسية رصينة في صفوف المشاهدين.
إنها فرصة تاريخية لأن أحداث ونتائج حراكات الربيع العربي أثارت في الفرد العربي رغبة فضولية نشطة لمعرفة فضائح وانتهاكات أنظمة الماضي التي سقطت أو التي يجري إسقاطها، ولفهم الأخطاء والقصور في أوجه إدارة أمور حاضر ما بعد الحراكات الناجحة.
هذه الرغبة العفوية عند الجماهير العربية عبر الوطن العربي كله لمعرفة ما الذي جرى ويجري، يجب ألا تحصل على استجابة محدودة سطحية من قبل الإعلام العربي لاتتعدَّى إعطاء المعلومات عن السرقات واستباحة القوانين وغيرها، وإنما تحصل أيضاً وفي الوقت نفسه على ثقافة سياسية تبين الأسس التي يقوم عليها حقل الفلسفة السياسية من مثل الحرية، حرية الأفراد والأوطان، والعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمساواة في الفرص وأمام القانون، والإنصاف التكافلي بين مكونات المجتمع. كذلك التثقيف بشأن تطبيق تلك المبادئ الفلسفية في منهجية مشاريع ومؤسسات حكومية ومجتمعية.
إن ربط المفاهيم السياسية وتعبيراتها وكلماتها عند الحديث عن أخبار ومعلومات التجاوزات سيسهل كثيراً انتقال عقل ووجدان المواطن العربي من مرحلة الغضب والحزن على مافات التي لا يتعداها الكثيرون إلى مرحلة التحليل والفهم من أجل التجاوز إلى فهم ما سيأتي به المستقبل من حياة سياسية ستحتاج لكي تنضج وتستقر إلى دعم نشط من مواطن يمتلك المعرفة السياسية الناضجة، وليس المواطن التَّائه في قشور ومماحكات السياسة اليومية أو الموسمية.
من هنا الحاجة لأن يتواجد في كل جلسة يدعى إليها مسؤول سابق أو حالي لإعطاء معلومات عن مخازي الحياة السياسية في الماضي والحاضر، أن يتواجد رجل فكر سياسي مرافق لكي يغني الجلسة بالجوانب الثقافية والفكرية التي تحلل وتنتقد وتبين للمواطن تعارض الممارسات السابقة مع أسس ومنهجية الحياة السياسية السَّليمة من جهة، ولكي يبرز مايجب أن يتوفًّر من فكر ومنهجية سياسية ومؤسسات مجتمع وأنشطة مواطنين لمنع تكرار حدوث تلك المخازي في المستقبل.
إن هذا التفاعل المقارن الديناميكي بين الواقع وبين الفكر لن يرسم فقط بعلمية رصينة صورة المستقبل المنشود، وإنًّما سيكشف في الوقت نفسه زيف وتخلُّف الفكر السياسي السابق وممارسات فرسانه من المستبدين والفاسدين والأنانيين، ذلك الفكر الذي تراكم عبر القرون بجهد وتطوير كتبة وفقهاء السًّلاطين في غفلة من جانب الأمة.
وفي الوقت نفسه سيسهم مثل هذا الربط والتفاعل بين المعلومات عن الممارسات السابقة وتناقضها مع الفكر السياسي الإنساني الديمقراطي السليم، في تثقيف الجماهير وتعويدهم، وعلى الأخص الشباب منهم، على التعامل مع السياسة بمنهجية رصينة موضوعية تكفل عدم العودة إلى ماضي الظلم والطاعة الذي نخر وأنهك جسد المجتمع العربي عبر القرون، وتكفل أيضاً محو التهمة التي ألصقت بالعرب والمسلمين عن قابليتهم للتعايش مع التسلُط الشرقي ورجالاته ومؤسَّساته.
إذن، هناك حاجة لترسيخ ثقافة وطنية سياسية مشبعة بروح التسامح مع الآخر والانفتاح على ما لديه، متعودة على الاحتكام إلى الدساتير والقوانين، منضبطة بالنضال من خلال أنشطة سلمية ديمقراطية لإدارة الخلافات والصراعات الاجتماعية، وملتزمة بهوية وطنية وقومية جامعة تتخطًّى الهويَّات والولاءات الفرعية.
ولأن المجتمعات العربية لم تصل بعد إلى حياة ديمقراطية مستقرَّة، هناك حاجة ملحة للتركيز على الآليات المعقولة الكفؤة القادرة على مساعدة تلك المجتمعات للانتقال إلى الديمقراطية. ولعلَّ من أهم تلك الآليات تواجد المؤسسات الفاعلة كقنوات لإنجاح العمل السياسي وضبط إيقاعه.
الإعلام العربي، وهو يقوم مشكوراً بتبيان ماجرى ومايجري، يحتاج لأن يكمل المشوار فيضيف إلى ربيع الثورات والانتفاضات العربية ربيعاً فكرياً سياسياً يوجه ويغني ويحمي تلك الثورات والانتفاضات الجماهيرية على المدى الطويل.
880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع