د. علي محمد فخرو
لم تنفجر ثورات وحراكات الربيع العربي ضد الظلم والتسلط والفساد فقط . ذلك أن العمل السياسي يصبح ممارسة عبثية معلقة في الهواء اذا لم يقابل النضال من أجل تغيير أوضاع سيئة مضرة، نضال مواز من أجل احلال أوضاع جديدة مفيدة. تلك الأوضاع الجديدة المطلوبة، التي عبرت عنها الشعارات والتي نادت بها حناجر الجماهير الغفيرة في الساحات والشوارع العربية، يمكن اختصارها في مطلب الانتقال الى نظام ديموقراطي- سياسي اقتصادي اجتماعي عادل.
اذن الانتقال الى الديموقراطية، ولا غير الديموقراطية، كان في قلب وروح تفجُر أحداث ربيع العرب. ولأن الأمر كذلك، فان موضوع الديموقراطية في أرض العرب يجب أن ينال الكثير من التفكير والتحليل والتحديد والتعريف، بما في ذلك التعلُم من أخطاء الآخرين في ممارستهم الديموقراطية. اذ كما كررنا مرارا فان الديموقراطية هي مسيرة وصيرورة لها بداية وليس لها نهاية، ولها أرضية وليس لها سقف.
من التجارب الديموقراطية الهامة، المليئة بالدروس والعبر، تجارب المجتمعات الغربية في ممارستها الديموقراطية، والتي هي الآن قيد المراجعة والنقد والتقييم من قبل عشرات الباحثين والمفكرين الغربيين.
والسبب ؟ لأن انحرافات قد حدثت، وأخطاء مميتة في الممارسة قد أطلت مؤخرا برأسها، ودلائل تراجع مقلق في قيمتها عند الكثير من المواطنين تظهر ملامحها في الأفق بين الحين والآخر، وآخرها صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
مثلما نتحدث عندنا، في الأرض العربية، عن الثورات المضادة واختطاف الثورات، يتحدثون أيضا عندهم عن أعداء الديموقراطية الحميمين في الداخل وعن الديموقراطية المناهضة المضادة والمشوهة.
في رأس قائمة الاشكاليات في ديموقراطيتهم موضوع الحرية. فالاصرار على الحرية الفردية المنفلتة شبه المطلقة أوجد الانسان الاستهلاكي النهم الأناني، وأوجد التسلُط والتلاعب والفساد لأصحاب المال، والنتيجة تتمثُل اليوم في اختزال الفرد عند الليبرالية الجديدة في البعد الاقتصادي وذلك على حساب الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية، أي أبعاد الصالح العام الكلي.
ومن أجل تثبيت وانعاش تلك الحرية المطلقة تم اضعاف سلطات الدولة، المسؤولة عن حماية الضعاف والفقراء والمهمشين أمام المال وأصحابه، فازدادت الفروق بين الأغنياء والفقراء، وتراجعت أهم مبادئ الديموقراطية المتمثلة في المساواة والعدل في توزيع الخيرات. وبموازاة ذلك الشطط في الحرية الفردية تراجع دور الديموقراطية في المراقبة وضبط التجاوزات والتأكُد من الفصل بين السلطات، واختزلت الديموقراطية في النهاية في الفعل الانتخابي الدوري، والذي بدوره أصبح مرتهنا لأصحاب المال من خلال دعم المرشحين بمال أصحاب المصالح النفعية وبمؤسسات الاعلام التي يملكونها، كما هو واضح ومتجسد في الانتخابات الأميركية على وجه الخصوص.
ان كل ذلك يهدم الميزة الأساسية التي تقوم عليها الديموقراطية، ميزة عدم سيطرة مبدأ على آخر، وفي حالة الغرب مبدأ الحرية على مبادئ الضبط والمراقبة القانونية وحماية الضعفاء أمام جور الأقوياء.
بدأ الغرب اذن في اكتشاف العدو الداخلي الحقيقي للديموقراطية المتمثل في الليبرالية الجديدة المتطرفة المنادية بجنون على أن الفرد قادر لوحده، دون حاجة لدولة أو رب أو عائلة أو نقابة أوغيرهم، قادر على الاكتفاء بذاته الحرة ولذاته الأنانية في اشباع حاجاته الضرورية، وبخاصة حاجاته المادية التي أصبحت في عالم الرأسمالية العولمية المتوحشة أهم وأسمى من حاجاته المعنوية.
ويتوصل هذا الجنون الليبرالي الى نتيجة مفادها أن تتحرر السلطة الاقتصادية من رقابة أو محاسبة أية سلطة أخرى، أي تصبح سلطة بلا حدود.
وعندما توجد أية سلطة، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية أم دينية، بلا حدود يبدأ الموت المحتم للشرعية الديموقراطية، وتنتعش الفاشستيه والأنظمة الشمولية والتي بدورها تنحر الحرية، سواء أكانت حرية مطلقة أو كانت مقيدة.
اذن فالديموقراطية الغربية، بعد أن تخلصت من أعدائها الخارجين، الذين تمثلوا في الفاشستية والنازية والشيوعية المشوهة المختطفة، تجد اليوم نفسها أمام أعدائها الداخلين بأشكالهم المختلفة، وهي تواجه معركة حياة أوموت.
قادة ثورات وحراكات الربيع العربي، التي قامت من أجل انتقال عربي تاريخي ديموقراطي، يحتاجون إلى أن يتعلموا من دروس الغرب الديموقراطي، وألا يقعوا في نفس المطبات التي أوصلت ديموقراطية الغرب. الى الطرقات المسدودة التي تواجهها الآن، بحيث تبقى الأسس والسلطات الديموقراطية التي يطالبون بها ويحققونها متوازنة، ولا تحتكم الا لمبدأ العدالة والانصاف، من أجل بناء ديموقراطية عربية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية عادلة.
ميزان العدالة والانصاف هو وحده الذي سيحمي الديموقراطية في آخر المطاف.
1215 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع