إبراهيم الزبيدي
ليست هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها إيران من ثياب الدولة الطبيعية العاقلة المؤمنة بالقوانين والأعراف المتبعة بين الحكومات والشعوب، والملتزمة بإقامة علاقاتها مع دول العالم الأخرى على أساس الاحترام والمصالح المتبادلة.
فكثيرا ما تمردت على قوانين الطبيعة، ولم تحسب حدود قدراتها البشرية والعسكرية والاقتصادية الحقيقية، بواقعية وحكمة، وخدعها غرور القوة، وأغراها ضعفُ القوى الدولية المهيمنة، فأقدمت على الخروج من حدودها، مرات عديدة، وأفلحت في ضم دول أخرى في الإقليم إلى أملاكها، ولكنها كانت دائما تبوء بالخذلان، وتخرج من مستعمراتها مهزومة، وتفقد جنودها وثرواتها وكرامتها، وحتى استقلالها، وتصبح، هي نفسُها، مستعمرة ملحقة بأملاك منتصرٍ جديد.
ومن أبرز الحروب الإخمينية الفارسية هي تلك التي انتهت باحتلال بابل عام 536 قبل الميلاد وتدميرها بمساعدة اليهود الذين جاؤوها أسرى مهجرين من أورشليم. ثم انطلقت قوات الفرس من وادي الرافدين لتحتل ممالك عديدة في المنطقة، إلى أن جاءت جيوش الاسكندر، القاهر الجديد الأعظم، عام 330 قبل الميلاد، لتفتك بجيوش فارس في العراق، وتمزق فلولها شر ممزق.
ولم تهدأ الحروب بين الروم والفرس على أرض الرافدين وحولها، على امتداد قرون لاحقة. وفي أواخر القرن السادس الميلادي حدثت معارك طاحنة بين القبائل العربية والفرس، على أرض الرافدين أيضا، وانتصر العرب وهزموا الفرس شر هزيمة.
بعد ذلك بقليل، وفي أوائل القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام وباشر حروبه الشهيرة لنشر رايته في البلاد المجاورة، وكانت أولى فتوحاته وأهمَّها على الإطلاق، خارج الجزيرة العربية، هي فتحُ العراق وإسقاط (يزدجرد بن شهريار) كسرى الفرس وأكبر ملوك العالم حينها، والانطلاق من العراق نحو الشرق واكتساح أراضي الدولة الفارسية بالكامل.
ويذكر هنا أن بناته الثلاث جيء بهن سبايا إلى الخليفة عمر بن الخطاب لتوزيعهن على قادة جيوشه المنتصرة، إلا أن الإمام علي بن أبي طالب، وكان حاضرا، نصح الخليفة بإكرامهن باعتبارهن بنات ملك، فأوكل الخليفة أمرهن إلى الإمام علي فقام بتزويج الأولى من عبدالله بن عمر فأولدها سالم، وكان أحد فقهاء المدينة السبعة، وزوج الثانية من محمد بن ابي بكر، فأولدها القاسم، وكان أحد فقهاء المدينة السبعة أيضا، وزوج الأخيرة (شهربانو الملقبة شاه زنان) من الإمام الحسين بن علي فأولدها الإمام علي بن الحسين (زين العابدين). وصارت هذه الحادثة بداية لعهد جديد تميز بانعطاف الفرس نحو الإمام علي، وأولاده من بعده. ثم اتخذ "القوميون الفرس" من تلك الحادثة منطلقا وغطاء لأخذ الثأر من المسلمين، ومن العرب، على وجهٍ خاص.
وظلت الحركات السرية المعادية للعرب تولد في إيران وتترعرع وتقوى ثم تنتشر منها نحو بلاد المسلمين. وكانت ترتدي، غالبا، ثياب الحمية والتقوى وتتظاهر بالثورة على ظلم الخلفاء وعُمالهم في إمارات بلاد فارس، وتستظل بدعاةٍ من آل البيت الهاشمي الذين انتـُزعت منهم الخلافة عُنوة.
ويعتقد كثير من المحللين والمؤرخين العرب وغيرهم، ومنهم إيرانيون مغتربون، بأن نظرية تصدير الثورة التي اخترعها الخميني للوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط فيها شيءٌ غير قليل من الطموح القومي الفارسي الكامن في نفسه وفي نفوس كثيرين غيره من أنصاره الذين لم يستطع إسلامُهم أن يكسر حدة العصبية القومية الفارسية المترسبة في أعماقهم.
وقد يكون الثوبُ المذهبي الذي ألبسه لتلك الدعوة عقيدةً صادقة، وقد يكون مجرد غطاء هدفه خداع الشيعة العرب، وتجنيدهم في خدمة الهدف الأبعد في التوسع والتسلط والتمدد في المنطقة.
ورغم أنه فشل في احتلال العراق بحربٍ دامت ثماني سنوات كلفت إيران والعراق، كليهما، مئات الألوف من القتلى والمشوهين والمفقودين والأسرى، إلا أنه جعل احتلال العراق مطمحا استراتيجيا قوميا فارسيا لا يموت، لكونه البوابة اللازمة والضرورية لعبور القوة الإيرانية إلى ما وراء حدوده، نحو الغرب والجنوب.
ثم حدث أن غزا الأمريكان العراق فأهدْوا خليفة الخميني، بعلمهم وتصميمهم أو بجهلهم، فرصة مواتية ليُحقق، بالخديعة والتقية، ما عجز خميني عن نوله بالقوة. ولا يشك اثنان في أن إحكام القبضة على العراق ساعَد النظام الإيراني على الاستقواء في سوريا، والتمدد نحو دول الخليج العربي.
ليس هذا وحسب، بل إن التوسعات الإيرانية الجديدة أيقظت غرور القوة وشهوة التعالي والتشفي لدى كثيرين من قادة النظام. ففي الرابع من مايو/أيار 2013 سخر الجنرال حسين سلامي نائب قائد «الحرس الثوري» من " تهديدات الأعداء ضد الجمهورية الإسلامية".
ثم تصاعدت حدة التصريحات النارية على لسان المسؤولين الإيرانيين التي يدسون فيها كثيرا من التهديد المبطن، ليس للعرب المعارضين لنوازع إيران التسلطية، وحدهم، بل لكل الدول الكبرى والصغرى التي لا يوافقها الدور القيادي الذي يصر النظام الإيراني على فرضه على المنطقة والعالم.
وفي السادس من هذا الشهر لوَّح الأميرال (علي فدوي) قائد البحرية في الحرس الثوري باستهداف البوارج الأميركية في الخليج. وقبله هدد مسؤولون آخرون بمهاجمة منابع البترول غرب الخليج. وها هي إيران تبني قواعد طائرات بدون طيار على مداخل مضيق هرمز، زيادة في التحدي والاستفزاز.
ويندرج ضمن فورة المفاخرة الإيرانية هذه تصريحٌ مثيرٌ آخر أدلى به الفريق (يحيى رحيم صفوي)، القائد السابق للحرس الثوري والمستشار العسكري للمرشد علي خامنئي، أعلن فيه أن " حدود إيران الغربية لا تقف عند الشلامجة (غرب الأهواز)، بل وصلت إلى شواطيء البحر الأبيض المتوسط جنوب لبنان".
وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا بعد شواطيء البحر الأبيض المتوسط؟ وهل تعتقد النخبة الحاكمة في طهران بإمكانية تثبيت التواجد العسكري والسياسي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، والاحتفاظ به إلى أمد قادم طويل، بالرغم من عوامل عديدة واقعية وطبيعية تعمل على هدمه وإفشاله وقلبه إلى هزائم متواترة متتالية تأتي عن قريب؟
ففي عقائد المنظرين العسكريين أن استدراج الجيوش المعادية وجرها إلى الانتشار في أوسع ما يمكن من أرضٍ كفيلٌ بإنهاكها وتفتيت عزيمتها وإشغالها بمعارك متفرقة عديدة تؤدي في النهاية إلى هزيمتها.
وفي التاريخ أمثلة عديدة على امبراطوريات ضخمة عديدة أغراها التوسع السهل فبعثرت جيوشها في بلاد كثيرة فأصيبت بداء الترهل وسرطان التآكل الذاتي وانهارت وتناهبت الأممُ المضطهَدة أسلابها، ومنها الخلافة الأموية (661-750 ميلادية)، والخلافة العباسية ( 750-1258 ميلادية)، والامبراطورية المغولية (1206-1368 ميلادية، والأمبراطورية البرتغالية (1415- 1999 ميلادية)، والامبراطورية البريطانية (1497- 1997)، وامبراطورية سلالة تشينغ (1644-1912) آخر أسرة حاكمة في الصين، والامبراطورية الاسبانية (1469-1975 ميلادية)، الامبراطورية الفرنسية (1534-1980 ميلادية)، الامبراطورية الروسية (1721-1917 ميلادية).
مع فارق كبير مهم بين أوضاع تلك الامبراطوريات البائدة وبين الامبراطورية الخمينية الجديدة. فالسابقات جميعُها كانت تتمول من مستعمراتها الغنية، بوسائل وطرق متعددة. ففي عهود الامبراطوريات الإسلامية، مثلا، كانت العوائد تتمثل بـ (الفيء) وتعني الأموال التى يتم أخذها من أهل القرى دون حرب، و(الغنيمة) وهي الأموال التى يتم الاستيلاء عليها فى الحرب، و(التطوعات) وهى التبرعات التى يتبرع بها المسلمون، و(الصدقات) وهى الزكاة، و(الجزية) وهى مال يجب على أهل الذمة الأغنياء يدفعونها "عن يدٍ وهم صاغرون "، و(مال الحج والعمرة).
أما الهيمنة الإيرانية الحالية فتقوم على عكس ذلك تماما. حيث تتحمل خزانة الدولة الإيرانية جميع نفقات تأسيس العديد من المليشيات والجحافل والأحزاب والتنظيمات وإعاشتها وحمايتها وتسليحها وتدريبها في الدول التي تستعمرها أو تحاول استعمارها. إضافة إلى ما تدفعه لشراء ذمم رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات ووزراء ونواب وسياسيين وإعلاميين لتسهيل الاحتلال.
وسوريا وحدها، مثلا، تأكل قسما كبيرا جدا من عوائد النفط الإيراني. فكل صاروخ وبرميل متفجر وقذيفة مدفع، وكل دبابة وطائرة تدفع ثمنها إيران، وتدفع أيضا جميع احتياجات النظام السوري (الإعاشية) ورواتب جيشه وشبيحته وأعوانه السوريين واللبنانيين والعرب الآخرين. وقد أذيع مؤخرا أنها تشتري مقاتلين من أفغانستان بمرتب شهري قدره 500 دولار، مع نفقات الإقامة لإعانة الجيش السوري.
ورغم أن حزب الله اللبناني يملك موارد تمويل ذاتية من زراعة المخدرات في البقاع وتجارة السلاح إلا أنها لا تكفي لشراء كل ما يحتاجه لتعزيز ترسانته التسليحية اللازمة في لبنان، ولوازم قتاله في سوريا، فيلجأ هو الآخر إلى التمول من جيب الولي الفقيه. أما حاجات الفقراء الحوثيين لقتال أشقائهم اليمنيين والتحرش بالسعوديين وإقلاقهم فكبيرة، وتكاد تشمل كل شيء، من البندقية والرشاش والمدفع والصاروخ والسيارات والمعدات القتالية الضرورية الأخرى، وإلى اللباس والطعام والشراب والسكن والتنقلات ومصروف الجيب. ولولا المال الآتي من طهران لماتت الحركة الحوثية من زمان. والشيء ذاته يقال عن معارضة البحرين وفلسطين.
أما العراق فبالرغم من كونه بلدا غنيا لا يحتاج إلى المال الإيراني، إلا أن حكومة حزب الدعوة ليست مطلقة اليد تماما لتنفق من المال العراقي العام على أكثرمن 6 آلاف مقاتل عراقي يرسلهم نوري المالكي للقتال في سوريا. فهي تدفع بعضا من التكاليف، وتتحمل الخزانة الإيرانية ما يتبقى.
هذا كله مضافٌ إلى كلفة إيواء جحافل (القاعدة) وتسهيل عبور قادتها ومجنديها وسلاحها من باكستان وأفغانستان إلى سوريا، وكذلك تمويل (داعش) وتسليحها وتسليطها على الجيش السوري الحر لإشغاله وتشويه سمعة المعارضة السورية، وتأمين ظهر النظام السوري الذي تعتبر إيران سقوطه مقدمة لإسقاط نظامها بعد ذلك. وقد صرح أكثر من مسؤول إيراني كبير، آخرُهم نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، العميد غلام علي رشيد، بأن إيران " تساند سوريا دون حدود لأنها تمثل " جبهة الدفاع الأمامية عن الثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية"، مشيراً الى أن " سقوط النظام في سوريا يعني بداية للإطباق على ايران، وجرها الى حرب مفتوحة غير محسوبة ".
إن هذه الأعباء الإنفاقية اليومية الباهضة التي لا مهرب منها لابد أن تتحول، في يوم من الأيام، إلى عبءٍ ثقيل على خزانة إيران التي تعاني أصلا من خلل يحاول نظام الملالي إصلاح بعضه بالتخلي عن مشروع السلاح النووي، (أو تأجيله بعبارة أدق)، للتخلص من كابوس العقوبات الاقتصادية أو جزء منها.
والظاهر أن عوامل فشل حقيقية تحاصر مفاوضات الملف النووي الإيراني، ويمكن أن يؤدي تعثرها المستمر إلى فشلها بعد حين، وذلك لأن إيران لا تملك الرغبة ولا الجرأة على دفن مشروع سلاحها النووي، بعد أن أنفقت عليه أكداسا هائلة من أموال شعبها، وبعد أن حولته إلى واحد من رموز الوجود القومي للأمة، ولأن الغرب (أمريكا وأوربا) ، من جانبه، لن يسمح لطهران بمزيد من التلاعب والمماطلة والخداع. فإما أن تخلي إيران نهائيا وأكيدا وبلا أدنى شك عن حلم امتلاك سلاح نووي، وإما بقاء العقوبات، مع احتمال إضافة عقوبات مرهقة وخانقة جديدة.
وهذا ما يضيف عاملا آخر أكثر فاعلية وحزما وحسما من عوامل إرباك النظام أمام المواطن الإيراني في الداخل، وأمام التابعين له في الخارج، ولابد أن يتسبب في خفض الإنفاق على بعض جوانب المشروع التوسعي الإيراني، وخصوصا في سوريا ولبنان.
يضاف إلى هذا عاملٌ آخرُ مهم، وهو ثباتُ المعارضين الكثيرين الرافضين للتوسع الإيراني في المنطقة وصمودُهم، وجهودُهم الحثيثة والمتماسكة والناجحة في إطالة أمد المعارك في مناطق التدخل الإيراني، وهي سوريا واليمن والعراق واليمن والبحرين وفلسطين.
وقد لخص وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مأزق إيران في سوريا حين خاطب الأسد قائلا: "نحن لن نختفي، والمعارضة السورية لن تختفي". ومعنى هذا أن عملية إشغال إيران مستمرة وناجزة وفاعلة وإغراقها في حروب الاحتفاظ بوجودها على شواطيء البحر الأبيض المتوسط.
وكثيرون يؤمنون بأن أية خسارة إيرانية في سوريا لابد أن تجر معها خسارة آخرى في العراق، ثم لبنان، فاليمن والبحرين وفلسطين، وربما في إيران ذاتها.
هذا هو منطق التاريخ الذي لم يتبدل ولن يتبدل إلى أبد الآبدين.
1206 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع