الأميرة عزة التي هزت عرش العراق
حادثة وقعت كادت أن تطيح بعرش الملك غازي بن فيصل ملك العراق ، وألحقت بسمعة العائلة الهاشمية المالكة العار، كما أضرت بسمعة العراق داخليا وخارجيا ، و كانت من أهم أسباب أنقلاب بكر صدقي عام 1936 ، تلك هي فضيحة هروب الأميرة عزة بنت فيصل مع النادل اليوناني و زواجها منه وأعتناقها الدين المسيحي.
و الأميرة عزة ، هي البنت الكبرى للملك فيصل الأول ( عزة ، راجحة ، رئيفة ، غازي) ، حيث ولدت في أسطنبول عام 1905 ، وعندما عادت عائلتها الى الحجاز كان عمرها ثلاث سنوات ، وعاشت طفولتها في مكة حتى مجيئها الى العراق عام 1924 ، وبقيت فيه حتى زواجها عام 1936.
في العراق ، كانت حياة الأميرة عزة تختلف كثيرا عما تعودت عليه في الحجاز ، حيث لم يكن بأستطاعة نساء العائلة المالكة الخروج من البيت ألا ليلا ، لزيارة جدها الشريف حسين ، أما في بغداد فقد كان بأستطاعتها أن تخرج وتفعل ما تريد كون بغداد أكثر أنفتاحا من الحجاز.
و بسبب تفرغ الملك فيصل الأول للقضايا السياسية ، لم يتفرغ لتربية أولاده وترك ذلك لخدم القصر الأمر الذي أدى الى تربية أبناءه تربية سيئة وهذا بدوره أدى الى أنحلالهم وكبتهم على نحو تفجر بعد وفاة والدهم الملك عام 1933.
لم تكن عزة طبيعية في كل تصرفاتها ، فقد كانت تضحك وتبكي في أوقات غير مناسبة ، أنانية بشكل كبير جدا ، كما أنها لم تكن تملك شيئا من مقومات الجمال ، عصبية المزاج ، كثيرة السخط على الأخرين بدون أي سبب ، وهذا الذي أدى الى عزوف الكثير من العوائل المعروفة التقدم لخطبتها والأقتران بها.
كان شقيق عزة،الملك غازي يصحبها معه في سفراته السياحية الى الجزر اليونانية ، وهناك تعرفت على نادل أو طباخ يوناني في أحد الفنادق يدعى ( أنستاس)
عند عودتها الى العراق تظاهرت بالمرض الشديد ، فطلبت من شقيقها الملك غازي السماح لها بالسفر للعلاج ، فسمح لها في أيار 1936 السفر الى جزيرة رودس وهي أحدى الجزر اليونانية، للعلاج والأصطياف بصحبة شقيقتها الأميرة راجحة و ثلاث خادمات ، على أمل أن تتحسن صحتها هناك.
وحال وصولهم الى أثينا ، سكنت الأميرتان والخدم في جناح خاص في الفندق ، وفي اليوم الثاني سحبت الأميرة عزة من حسابها الخاص مبلغ مائة و خمسون دينارا ، وكانت تصرفاتها طبيعية جدا ولم يبدو عليها أي علامة تثير الأنتباه أو الشك ، وفي صبيحة يوم الأربعاء 27 حزيران 1936 حضرت الخامة (طليعة عمر) التي كانت ملازمة للأميرة عزة ، بأن الأميرة غير موجودة في غرفتها ، حيث تبين فيما بعد بأنها غادرت الفندق مع الشخص الذي تزوجته ، حيث تركت رسالة باللغة الأنكليزية الى شقيقتها الأميرة راجحة بتوقيعها تخبرها بأنها وبسبب فقدان والدها ووالدتها فأنها لابد لها من أن تلحق بالرجل الذي تحبه وقد تزوجت وتنصرت وأبدلت أسمها الى ( أنستاسيا).
بعد أن أطلعت الأميرة راجحة على الرسالة ، هرعت الى فندق أتلانتيك الذي كان يقيم فيه العروسان ، في محاولة منها لتدارك الأمر والغاء هذا الزواج ، لكن الأميرة عزة رفضت مقابلة احد ، وأرسلت الى أختها ورقة باللغة الأنكليزية طلبت منها أن لا تنتظر لأنها تزوجت وأنتهى الأمر.
أسرعت الأميرة راجحة الى الغرفة التي تقيم فيها شقيقتها ، و أخذت تنادي على أختها " عزة عزة ما الذي تفعلينه ، فكري في الأمر ، فكري بأخينا ، أي سوء أنت فاعلته ، أين سيكون شرف عائلتنا عندما ينتشر هذا الخبر المخزي في بغداد " ، فأجابتها عزة من خلف الباب : لا تنشغلوا بي ، أنسوني ، وأعلنوا برائتكم مني ، فأنا تبرأت منكم ، لا أريد السمعة ولا الثروة ولا الملكية فلقد أصبحت الآن مسيحية وتزوجت ولا ينفع الآن كل ما تقولينه.
بعدما عجزت الأميرة راجحة من أقناع أختها بالعدول عن هذا الزواج والعودة معها الى بغداد ، لجأت الى السفارة البريطانية في اليونان وطلبت تدخل السفارة لمنع تلك الفضيحة ، كما قدمت شكوى ضد الزوجين بانهما سرقا مجوهراتها التي تقدر بستة آلاف جنيه أسترليني ومبلغ مائة وخمسون دينارا عراقيا ، وكان هدف الأميرة راجحة من هذه الشكوى وضع العروسين تحت الحراسة لكسب الوقت ، وحضر المدعي العام اليوناني الى فندق أتلانتك ، وأخذت عزة تجيب على أسئلة الشرطة بكل جرأة،وقرر القضاء اليوناني أغلاق القضية لكونها سرقة بين الأخوة
أنتقلت الأميرة عزة وزوجها الى جزيرة رودس للعيش فيها ، وحصلت على الجنسية الأيطالية لكون زوجها أيطالي الجنسية وأعتبر زواجها شرعيا حسب قانون الأحوال الشخصية الأيطالي.
وبعد أن نفذت كل مدخرات الأميرة عزة ، حاول زوجها الحصول على فرصة عمل في جزيرة قبرص ، لكنه فشل في كل محاولاته مما أضطر الزوجان الأنتقال الى لندن ، وهناك أيضا أخفق الزوج في الحصول على عمل ، مما أدى الى أنفصال الأميرة عزة عن زوجها في العام 1939 ، حيث لم تنجب منه ، وعادت الى أيطاليا عام 1940، حيث منحتها الحكومة الأيطالية راتبا شهريا قدره مائتي ليرة حتى العام 1944 ، وأدمنت الأميرة التدخين ، وكثرت ديونها، وقطعت حكومة الجمهورية الجديدة هذه المعونة.
وعند زيارة الوصي عبد الأله روما عام 1945 ، علمت الأميرة عزة بهذه الزيارة وطلبت مقابلته ، ألا أنه رفض مقابلتها ، لكن الدكتور سندرسن قابلها فوجدها في حالة سيئة للغاية ، محطمة نفسيا رثة الملابس ، وروت له ما حل بها ، فنقل الدكتور سندرسن ذلك الى الأمير عبد الأله فوافق على مقابلتها ومنحها مبلغا من المال ، وطلب منها الأنتقال الى القدس للعيش مع عمه الأمير عبد الله فوافقت على ذلك من دون تردد.
أستقرت الأميرة عزة في القدس وبقيت فيها فترة من الزمن ، ثم أنتقلت الى عمان حتى العام 1960حيث أصيبت بمرض السرطان فذهبت للعلاج في لندن ، وفشلت كل محاولات الأطباء في علاجها ، حيث تم قطع لسان الأميرة عزة لمعالجة هذا المرض ولم يجد ذلك نفعا ، فتوفيت في لندن ، ثم نقل جثمانها الى عمان لتدفن في المقبرة الملكية هناك.
أن قضية هروب وزواج الأميرة عزة كانت ضربة قوية للعائلة المالكة ولكافة الساسة العراقيين الكبار ، وبالرغم من تكتم العائلة المالكة على هذه الأخبار ومحاولة عدم تسربها الى داخل العراق ، ألا أن الصحافة العالمية تلاقفت الخبر لتنشره موضحا بالصور من أجل تحقيق مكاسب مادية ، الأمر الذي جعل الملك غازي في موقف صعب جدا ، وكادت تودي بعرشه.
تصاعدت تأثيرات الخبر في العالمين العربي والأسلامي ، مما دفع رئيس الديوان الملكي رستم حيدر الطلب من طبيب العائلة المالكة سندرسن ، كتابة تقرير مفصل عن الحالة النفسية والصحية للأميرة عزة التي دفعتها للقيام بهذه المغامرة ، فكتب سندرسن التقرير التالي :
(بغداد في 13 حزيران 1936 سري
رئيس الديوان الملكي – البلاط الملكي – بغداد
سيدي:
الحاقا بمحادثتنا امس فيما يلي تقريرا عن صحة صاحبة السمو الملكي الاميرة عزة.
كانت الاميرة عزة دائما عصبية المزاج وقد جابهت في السنوات الاخيرة هزات عقلية نادرة لم تمر دون ان تؤثر في اعصاب رقيقة كأعصابها، لقد سببت وفاة والدها الفجائي المغفور له الملك فيصل قبل ثلاث سنوات اضطرابا نفسيا لازم سموها الملكي وجعلها طريحة الحزن لعدة اسابيع. وقد تلت هذه الصدمة أخرى لم يقل شأنها من الاولى وهي وفاة والدتها جلالة الملكة فجأة أيضا. وذلك قبل سنة ونصف مما سبب لها أنحلالا عصبيا شديداً – كانت الاميرة عزة شغفة بوالديها غاية الشغف وقد أظهرت منذ وفاتها أضطرابا عصبيا متزايدا. وقد جاءت وفاة شقيقتها وعمها الملك (علي) صدمة أخرى على الصدمات السابقة مما أثر عليها تأثيرا عميقا.
وكانت نتيجة هذا الحزن المستمر وتوالي الرجات العقلية التي منيت بها في السنوات الاخيرة أن أصيبت الاميرة عزة منذ ستة أشهر بمرض (هستريا) عنيف، وقد رافق هذه الحالة العصبية أنقباض نفس وعدم قابلية ضبط النفس وضعف الارادة وكانت تعاودها هجمات (هستيرية) بصفة عامة.
وبعد عقد سلسلة أستشارات طبية (كونسلتا) قرر الرأي أخيرا على ضرورة تغيير مناخ ومحيط الاميرة لمدة طويلة. وبالنظر لقرب موسم الحر أشير عليها بالاقامة في مصيف صحي في أوروبا على أن تستشير خلال وجودها في أوروبا أخصائيا فيما يختص بحالتها العصبية.
لا أشك في أن زواج الاميرة عزة أن هو الا برهان أضافي على أصابتها بشذوذ عقلي وهو حالة تلازم أكثرية الاشخاص المصابين بمرض الهستريا.
لي الشرف في أن أكون سيدي
خادمكم المطيع
ا. ح. س. سندرسون
الطبيب الخاص لجلالة الملك).
كان الغرض من هذا التقرير هو تخفيف الصدمة التي سببتها الحادثة على العائلة المالكة والساسة العراقيين وعموم أبناء الشعب العراقي.
وقد بذلت جهود كبيرة في بغداد لتلافي هذه الفضيحة وتطويقها ومحاولة علاجها ، وكانت رغبة رئيس وزراء العراق ياسين الهاشمي شديدة في تدبير خطة لأغتيال الأميرة عزة ، لكن لم يتمكن أحد من غسل العار الذي لحق بالعائلة المالكة ، وساءت أحوال الملك غازي النفسية والصحية ومرض مرضا شديدا ، فأستغل خصومه هذه الفضيحة وتأثيرها في صحته ، فأتخذوها ذريعة للتخلص منه وأبعاده عن العرش أو فرض قيود على تحركاته ، ومن هنا بدأت أولى خطوات فكرة عزل الملك غازي وأيجاد بديلا عنه لتولي عرش العراق من خارج الأسرة الهاشمية ، وقد أسهم وبشكل كبير نوري السعيد في أنضاج وبلورة فكرة تأليف مجلس وصاية يرأسه ياسين الهاشمي ، يحكم البلاد لحين بلوغ ولي العهد الأمير فيصل الثاني سن الرشد.
رفض ياسين الهاشمي هذه الفكرة ، لأنها ستكون تجربة محفوفة بالمخاطر ، وستؤدي الى صراع دام على السلطة يعرض البلاد الى الدمار ، أضافة الى تخوف الهاشمي من أن يتهم بتدبير حادثة الأميرة عزة لتحقيق هذا الغرض.
ومع ذلك فأن ياسين الهاشمي كان يرى أن على الملك غازي قتل شقيقته بيده ، لأنه من الصعب أستمراره بالحكم ألا أذا أستعاد شرفه بسبب غضب الشعب العراقي من تلك الحادثة.
لكن السفير البريطاني في العراق أوضح للهاشمي بأن هذه الخطوة ستكون نتائجها سلبية على المستوى العالمي .
قام السفير البريطاني بمقابلة الملك غازي وفاتحه حول تصرفاته الخاصة وما يدور حوله من أشاعات ، فأكد له الملك بأنه سوف يكون حريصا على أن لا يجعل من حياته الخاصة ما يعرضه للأنتقاد ، ثم قام الملك وبناءا على رغبة ياسين الهاشمي بطرد كافة مرافقيه وسائقو سيارته ومعظم الخدم الشخصيين ، وأخذ الملك غازي بنصيحة ياسين الهاشمي بحضور صلاة الجمعة في جامع السراي والأهتمام بالقضايا الأجتماعية للشعب.
932 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع