محلّات أوروزدي باك في بغـداد.. من اين جاءت التسمية؟.
شـاركـت شـركـة أوروزدي بـاك الـتّـجـاريـة مـنـذ نـهـايـة الـقـرن الـتّـاسـع، وخـلال الـقـرن الـعـشـريـن في تـنـمـيـة الـثّـقـافـة الإسـتـهـلاكـيـة الـشّـرهـة في أوربـا الـشّـرقـيـة أوّلاً، ثـمّ في الـشّـرقـيـن الأدنى والأوسـط وفي شـمـال أفـريـقـيـا، بـفـتـحـهـا لـمـحـلات كـبـيـرة تـروّج لـلـبـضـائـع الأوربـيـة في غـالـبـيـة الـمـدن الـمـهـمّـة في هـذه الـمـنـاطـق ومـن بـيـنـهـا بـغـداد والـبـصـرة.
فـكـيـف نـشـأت هـذه الـشّـركـة؟ وكـيـف نـمـت وازدهـرت؟
تـذكـر لـنـا الـمـصـادر الّـتي درسـت تـاريـخ هـذه الـشّـركـة أنّ عـائـلـة بـاخ Bach كـانـت يـهـوديـة، إغـتـنـت مـن الـتّجـارة في الإمبراطـوريـة الـنّمـساويـة ـ الـمـجـريـة، ثـمّ تـشـاركـت مـع عـائـلـة يـهـوديـة أخـرى مـن أصـل نـمـسـاوي مـجـري: أوروزدي Orosdi. وهـكـذا تـزوّج أدولـف أوروزدي Adolf Orosdi بـأخـت مـوريـس بـاخ Maurice Bach.. وكـان أدولـف أوروزدي ضـابـطـاً شـارك في حـركـة 1848 الـوطـنـيـة الـمـجـريـة. وبـعـد فـشـل الـحـركـة الّـتي قـمـعـهـا الـنّـمـسـاويـون، هـاجـر إلى الـقـسـطـنـطـيـنـيـة (إسـطـنـبـول)، عـاصـمـة الـدولـة الـعـثـمـانـيـة، وبـدأ يـمـارس فـيـهـا الـتّـجـارة.
وفـتـح في 1855 مـحـلّاً في مـحـلّـة غَـلَـطـة (جـالاتـا) عـلى الـبـوسـفـور لـبـيـع الـمـلابـس الـجـاهـزة الـمـسـتـوردة مـن أوربـا. وقـد نـمـت تـجـارتـه وتـوسـعـت بـعـد ذلـك، واسـتـمـرّ بـهـا ولـداه فـيـلـيـب ولـيـون مـن بـعـده.ثـمّ تـشـارك ولـدا أوروزدي مـع هـيـرمـان وجـوزيـف، إبـنَي مـوريـس بـاخ، واتّـفـق أربـعـتـهـم عـلى تـسـمـيـة شـركـتـهـم: أوروزدي ــ بـاخ.
وفي 1879، تـزوّج هـيـرمـان بـاخ في بـاريـس بـمـاتـيـلـد أوروزدي، أخـت فـيـلـيـب ولـيـون، وأقـامـا في هـذه الـمـديـنـة.وقـد فـتـح الـشّـركـاء الأربـعـة في بـاريـس عـام 1888 الـمـكـتـب الـرّئـيـسي لـشـركـتـهـم الـتّـجـاريـة بـعـد أن غـيّـروا كـتـابـة اسـم Bach (الّـذي يـلـفـظ “بـاك” بـالـفـرنـسـيـة) إلى Back، وأصـبـح اسـم الـشّـركـة: Orosdi- Back.
وفي 1893 فـتـحـوا أوّل مـحـلاتـهـم في فـيـيـنـا، عـاصـمـة الـنّـمـسـا، وأصـبـحـت الـشّـركـة في 1895 شـركـة مـسـاهـمـة، وفـتـحـت مـحـلات كـبـرى في أوربـا الـشّـرقـيـة وفي تـركـيـا. وفي حـوالي عـام 1896 فـتـحـوا أوّل مـحـلاتـهـم في الـقـاهـرة، ثـمّ في تـونـس وفي حـلـب وبـيـروت.
وكـانـت هـذه الـمـحـلّات مـن نـوع جـديـد ظهـر في الـمـدن الأوربـيـة في بـدايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر، وهي مـا تـسـمى بـالـفـرنـسـيـة: Grands magasins، وتـسـمى بـالإنـكـلـيـزيـة: Department stores.
ويـمـتـلـك كـلّ مـحـل مـن هـذه الـمـحـلّات الـكـبـرى شـخـص واحـد أو شـركـة واحـدة، وفـيـهـا أقـسـام مـتـعـددة تـبـيـع بـضـائـع مـتـنـوّعـة.فـبـيـنـمـا كـان هـنـاك في الـمـاضي مـحـلّات مـخـتـصّـة في كـلّ نـوع مـن الـبـضـائـع والـسّـلـع: مـحـلّات لـلـمـلابـس وأخـرى لـلأحـذيـة والـمـصـنـوعـات الـجـلـديـة أو لـلـمـواد الـمـنـزلـيـة أو لـلـمـواد الـغـذائـيـة، جـمـعـت الـمـحـلّات الـكـبـرى كـلّ هـذه الـمـنـتـجـات في مـكـان واحـد. ولـم يـعـد الـزّبـائـن يـحـتـاجـون لـلـتّـنـقـل مـن مـحـلّ إلى آخـر وإنّـمـا يـجـدون كـلّ مـا يـحـتـاجـونـه في أقـسـام مـخـتـلـفـة في داخـل نـفـس الـمـحـلّ الـكـبـيـر.
وفي بـدايـة عـشـريـنـيـات الـقـرن الـمـاضي، إشـتـرى عـمـر أفـنـدي الّـذي كـان مـن عـائـلـة الـسّـلطـان الـعـثماني مـحلات أوروزدي بـاك في مـصر(في الـقـاهـرة والإسـكـنـدريـة وطـنـطـا …)، وتـحـوّل اسـمـهـا بـعـد ذلـك إلي مـحـلات عـمـر أفـنـدي.
مـحـلّات أوروزدي بـاك في بـغـداد:
كـمـا افـتـتـح مـحـل كـبـيـر لأوروزدي بـاك في بـغـداد في تـلـك الـفـتـرة تـقـريـبـاً، أي في بـدايـة الـعـشـريـنـيـات، ثـمّ آخـر في الـبـصـرة. ونـجـد في خـارطـة مـديـنـة بـغـداد الـتّي نـشـرتـهـا بـالـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة مـديـريـة الأشـغـال الـعـمـومـيـة في أمـانـة عـاصـمـة بـغـداد Public Works Departement عـام 1929 إسـم الـمـحـل مـكـتـوبـاً: Orosdiback،مـن غـيـر خُـطـيـط فـاصـل بـيـن جـزئـيـه.وكـانـت مـحـلاّت أوروزدي بـاك، الّـتي يـسـمـيـهـا الـبـغـداديـون: أورزدي، في شـارع الـرّشـيـد.
وكـانـت تـبـاع فـيـهـا، كـمـا في كـلّ الـمـحـلّات الـكـبـرى، أنـواع مـخـتـلـفـة مـن الـبـضـائـع والـسّـلـع الـمـحـلـيـة الـصّـنـع أو الـمـسـتـوردة.وكـانـت هـذه الـمـحـلّات تـتـوجـه لأفـراد الطّـبـقـة الـمـتوسّـطـة والـطّـبقـة الغـنّـية. ولـهـذا بـنـت سـمعـتهـا عـلى بـيـع مـنـتـجـات جـيّـدة الـنّـوعـيـة وعـلى أسـعـار ثـابـتـة تـكـتـب بـجـانـبـهـا، لا يـمـكـن لـلـزّبـائـن أن يـسـاومـوا عـلـيـهـا.وكـانـت الـمـحـلّات تـشـغـل طـابـقـيـن (الـطّـابـق الأرضي والـطّـابـق الأوّل) نـصـب بـيـنـهـمـا مـصـعـد كـهـربـائي لـم يـر كـثـيـر مـن سـكّـان بـغـداد مـصـعـداً قـبـلـه.وكـان مـدخـلـهـا عـلى شـارع الـرّشـيـد: بـابـهـا زجـاجي دوّار، يـقـف أمـامـه بـوّاب بـزيّ رسـمي نـظـيـف.
وتـحـيـط بـالـبـاب مـن جـانـبـيـه واجـهـات زجـاجـيـة كـانـت تـعـرض فـيـهـا بـضـائـع حـديـثـة لـجـذب أنـظـار الـمـارّة، ولـدفـعـهـم لـدخـول الـمـحـلّات لـلـتّـفـرج، ثـم لإغـرائـهـم بـعـد ذلـك بـالـشّـراء. وهـو أمـر سـائـد في كـلّ الـمـجـتـمـعـات الإسـتـهـلاكـيـة.
وكـان الـجـديـد عـلى كـثـيـر مـن الـبـغـداديـيـن أيـضـاً أنّ الـمـحـلّات وظّـفـت بـائـعـات يـرتـديـن زيّـاً مـوحّـداً. وكـانـت سـيـاسـة هـذه الـمـحـلّات أن يـبـتـسـم كـلّ الـعـامـلـيـن فـيـهـا ومـن ضـمـنـهـم الـبـائـعـات، وأنّ يـظـهـروا لـلـزّبـائـن الـلـطـف والإحـتـرام. وهـذا مـن مـمـيـزات كـلّ الـمـحـلّات “الـرّاقـيـة”.
وكـان في مـحـلّات أوروزدي بـاك، إلى جـانـب الأقـسـام الّـتي تـحتـوي عـلى كـثـير مـن الـمنـتوجات الـمـتـنـوّعـة، “كـافـيـه” (وهي كـلـمـة أرقى حـسـب رأي الـمـتـحـذلـقـيـن مـن الـكـلـمـة الـعـربـيـة: “مـقـهى”!) في الـطّـابـق الأول، وتـطـلّ نـوافـذه عـلى نـهـر دجـلـة، ومـكـتـبـة تـبـيـع كـتـبـاً عـربـيـة وأجـنـبـيـة.
ويـبـدو أنّـه كـان فـيـهـا، في فـتـرة مـن الـفـتـرات، صـالـون نـسـائي فـيـه “كـوافـيـره” (وهي كـلـمـة أرقى مـن كـلـمـة “حـلّاقـة”!)، وأنّـهـا جـلـبـت لـهـذا الـصّـالـون خـبـيـرة أجـنـبـيـة مـخـتـصّـة بـالـتّـجـمـيـل الـنّـسـائي.
وفي فـتـرات الـتّـنـزيـلات، كـانـت الـمـحـلّات تـأتي بـفـرقـة مـوسـيـقـيـة تـعـزف في داخـلـهـا لـجـذب الـزّبـائـن.مـن محـلّات أوروزدي بـاك إلى“الأسواق الـمركزيـة”:
وقـد أمـمـت الـحـكـومـة الـعـراقـيـة مـحـلّات أوروزدي بـاك في سـبعـينيات القرن الـعـشـريـن، وأصـبـحـت مـلـكـاً لـلـدّولـة تـحـت اسـم: “الأسـواق الـمـركـزيـة”. وأنـشـئـت شـركـة حـكـومـيـة لإدارتـهـا بـاسـم “الـشّـركـة الـعـامـة لـلأسـواق الـمـركـزيـة”، كـانـت تـابـعـة لـوزارة الـتّـجـارة.
وفـتـحـت لـهـا فـروعـاً في عـدد مـن أحـيـاء بـغـداد مـثـل الـكـرادة والـمـنـصـور والـعـدل والـشّـعـب والـبـلـديـات، ثـمّ فـتـحـت لـهـا فـروعـاً في الـمـحـافـظـات.ولا يـمـكـن لأحـد أن يـقـلـل مـن أهـمـيـة مـحـلّات أوروزدي بـاك الّـتي واكـبـت ولا شـكّ دخـول الـمـجـتـمـع الـعـراقي (أو عـلى الأقـلّ الـمـجـتـمـع الـبـغـدادي) في الـثّـقـافـة الإسـتـهـلاكـيـة، والّـتي تـحـتـل مـكـانـتـهـا في ذاكـرتـنـا الـجـمـاعـيـة. فـمـن مـن أبـنـاء جـيـلي ومـن أبـنـاء الـجـيـل الّـذي سـبـقـنـا مـن لـم يـمـرّ أمـام واجـهـاتـهـا ولـم يـتـوقـف لـلـتـفـرج عـلـيـهـا، أو لـم يـدخـل فـيـهـا؟
ومـع ذلـك فـقـد قـرأت عـدداً كـبـيـراً مـن “مـقـالات” نـشـرت عـلى الـشّـبـكـة الـعـنـكـبـوتـيـة كـتـب مـؤلـفـوهـا ما لا يـكـاد أن يـتـصـوره الـعـقـل مـن الإخـتـلاقـات والـتّـلـفـيـقـات، وخـاصـة فـيـمـا يـتـعـلـق بـإنـشـاء هـذه الـمـحـلّات. وقـد عـجـبـت مـن قـدرات الـبـعـض عـلى الإخـتـراع، فـقـد جـعـل كـاتـب مـقـال واسـع الـنّـشـر مـن أوروزدي بـاك تـاجـراً عـراقـيـاً أرمـنـيـاً! وجـعـلـه آخـر فـرنـسـيـاً فـتـح أوّل مـحـلاّتـه في بـغـداد!
أمّـا فـيـمـا يـتـعـلـق بـاسـم هـذه الـمـحـلّات: أوروزدي بـاك Orosdi- Back، وهـو كـمـا رأيـنـا اسـم مـركّـب مـن اسـمَي عـائـلـتـيـن مـجـريـتـيـن تـشـاركـتـا في الـتّـجـارة. فـقـد ادّعى الـبـعـض أنّـه جـاء مـن الإنـكـلـيـزيـة Ours Day Bag [هـكـذا!] وتـرجـمـوهـا: حـقـيـبـة تـسـوقـنـا الـيـومي! أو أنّـهـا اسـم شـركـة أجـنـبـيـة افـتـتـحـت لـهـا أوّل سـوق في بـغـداد بـهـذا الإسـم، أو أنّـهـا كـلـمـة فـرنـسـيـة تـعـني سـوق أو مـول … وهي كـلّـهـا، كـمـا يـرى الـقـارئ الـعـزيـز بـنـفـسـه تـنـمّ عـن جـهـل مـخـتـرعـيـهـا بـالـتّـاريـخ وبـالـلـغـات الأجـنـبـيـة!
وبـيـن كـلّ هـذه الـمُـضـحـكـات الـمُـبـكـيـات، قـرأت في كـتـاب صـدر قـبـل سـنـوات لـكـاتـب مـشـهـور تـفـسـيـراً أكـثـر غـرابـة لـهـذا الإسـم. فـبـعـد أن تـكـلّـم الـمـؤلـف عـن: “أجـمـل وأرقى مـخـزن في بـغـداد الـخـمـسيـنـية والـسـتـيـنـيـة، وهـو مـا يـسمـيه الـبـغـداديـون أورزدي”، ذكـر:“لـم أكـن أعـرف وأنـا أردد مـع الـبـغـداديـيـن بـالـدارجـة الـعـراقـيـة اسـم “أورزدي” مـا مـعـنى هـذه الـكـلـمـة ومـن أيـن جـاءت. وكـنـت أظـنـهـا اسـم صـاحـب الـمـكـان ولـكـنـني في فـرنـسـا قـرأت ريـبـورتـاجـاً صـحـفـيـاً وجـدت فـيـه اسـم “أورزدي بـاك” مـكـتـوبـاً بـالـلـغـة الـفـرنـسـيـة لأنـه مـن أصـل فـرنـسي. وقـد وضـعـه كـاتـب الـمـقـال بـشـكـل تـلـقـائي بـاعـتـبـاره نـوعـاً مـن الـتـوثـيـق في نـقـل الأسـمـاء … وإذا بي أقـرأ:Aux roses du bac أي إلى أزهـار الـمـزهـريـة “.
ولا يـحـقّ لـنـا أن نـنـتـقـد هـذا الـمـؤلـف لـجـهـلـه بـالـتّـاريـخ، فـهـو قـد نـقـل هـذا الـتّـأويـل الـغـريـب لـقـرائـه كـمـا قـرأه، مـن غـيـر تـدقـيـق ولا تـمـحـيـص. ومـع ذلـك فـقـد كـان عـلـيـه أن يـتـحـاشى الـسّـقـوط في إغـراء الـكـتـابـة الـمـتـعـجّـلـة والـنّـشـر الـسّـريـع، فـتـسـجـيـل تـاريـخـنـا الـحـديـث يـتـطـلّـب مـنّـا جـمـيـعـاً جـهـوداً مـسـتـمـرة في لـمّ شـتـاتـه وتـأنـيـاً في جـمـع أجـزائـه لـكي لا يـضـيـع مـنّـا ويـتـلاشى ذكـره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجـدت عـدّة مـقـالات تـعـتـبـر مـحلات أوروزدي باك في بـغـداد “أول مـول في الـشـرق الأوسط!”. ومـن الـواضـح أنّ كـاتـبـيـهـا يـجـهـلـون الـفـرق بـيـن الـ Department stores و بين الـ Mall. فـالـمـول Mall مـركـز تـجـاري شـديد الـضّـخـامـة يـضـمّ مـحـلات مـخـتـلـفـة تـنـتـمي لـشـركـات مـخـتـلـفـة. وقـد ظـهـر هـذا الـنّـوع مـن الـمـراكـز الـتّـجـاريـة في الـقـرن الـعـشـريـن، بـعـد فـتـرة طـويـلـة مـن ظـهـور الـمـخـازن الـكـبـرى مـثـل أوروزدي بـاك.
المصدر/ المدى - د.صباح الناصري
751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع