سفراء العراق والمستشارين في فينا كما عاشرتهم أثناء عملنا هناك ....
هناك بصمات كثيرة في مسيرة الدبلوماسية العراقية، فيها الكثير من الأبداعات والمواقف تطلبتها معطيات ما مر به العراق من أحداث على المستوى الداخلي والخارجي آخذين بالأعتبار موقعه المتميز ومكانته الأقتصادية وأرثه الحضاري،
لهذا فقد عرفت الدبلوماسية العراقية برفعتها وأهميتها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي مستنيراً بما يملكه من إرث وأنتماء حضاري وقومي، فلا العراق ولا دبلوماسيه كانو تابعين لدولة أوجهة ألا من بعض الشواذ، ولكن بعد 2003 أبتعد عن المواصفات الصحيحة للعمل الدبلوماسي المهني بكافة ابعادها فأخذ يمارس تمثيل طائفته أو حزبه، وأبتعد عن وطن أسمه العراق، فالدبلوماسية علم وفن تمثيل البلد ومصالحه لدى دولة أخرى أو مع الأطار المؤسساتي العالمي أي الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، فكان الدبلوماسي سواء السفير ومن يليه في السلم يمتلك الكياسة والحجة والمنطق والأتكيت ومطبقاً لقواعد العمل القائمة بين الدول أو المنظمات الأقليمية والدولية، كما انه يسهر على رعاية حقوق وكرامة وطنه ويرعى بشكل جيد جاليات بلده في المهجر.
وبحكم عملي لسنوات مسؤولا عن العلاقات الدولية للسياسات العلمية والبرامج في منظمة الطاقة الذرية، تكونت لي صورة عن العمل الدبلوماسي من خلال متابعاتي للأتفاقيات الثنائية وتنظيم المشاركات الدولية للمؤتمرات والدورات التدريبية وحضور ومشاركة لأعمال مؤتمرات الوكالة الدولية والأمم المتحدة لمناقشة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية مما أهلتني أن أرشح للعمل كمستشار علمي في ممثلية وسفارة العراق في فينا للفترة منتصف عام 1981 ولغاية نهاية عام 1989، وعلى مدى الأعوام التي عملت فيها، تعاقب أربع سفراء وكلهم عمل بجد وأخلاص لخدمة العراق ولم يمارسو أي عمل لأغراض تجارية أو نفعية، وكان تعاملههم ومستشاريهم أنساني مع المقيمين العراقين، وكانو يساهمون بالحضور في الندوات واللقائات التواصلية مع رجال الدولة وسياسيهم كما كانو يستضيفون رجال الثقافة والفن العراقيين، وفي زمننا كانت مشاركة الفنان الموسيقىي المبدع منير بشير ولأكثر من مرة، وكذلك الفنانة المحبوبة بياترس أوهانسيان التي كانت تحضر سنوياُ، كذلك حضرت الفرقة القومية والفرقة الكردية وقدموأ عروضاً جميلة للتعريف بثقافتنا، وخلال وجودنا كانت نظافة العلم الوطني العراقي فوق أبواب السفارة التي كانت تعود ملكيتها لأحفاد أفراد العائلة المالكة للأمبراطورية النمساوية، والتي شهدت لقاء ولي عهد النمسا المتزوج من تفاني أبنة ملك أسبانيا الأرشيدوق رودولف بالبارونة ماري فتسيرا ، ومن عندها ما جعل الشاب يتوق إلى لقاء أطول وموعد يختلي فيه بالحسناء التي أثار اهتمامها، وأثارت هي اهتمامه. فاتفق مع الكونتس لاريش على أن تكون واسطة بينه وبين الفتاة فقامت صديقة الطرفين بدورها على أحسن وجه. وجاءت "ماري فتسيرا" إلى القصر ودخلت خلسة على الأمير بدون أن يراها أحد. وبدأ بين الشابين غرام عنيف لم يدم طويلا ولكنه انتهى بفاجعة والتي تعرف بمأساة مايرلنك، فقد شعر الأرشيدوق رودولف فجأة أنه وجد السعادة وعثر على الهناء خارج نطاق الزوجية. وأنه خير له أن يربط حياته بالفتاة التي أحبها منذ اللحظة الأولى، بدل أن يظل رازحا تحت وطأة التعاسة مع زوجة يزداد نفوره منها يوما بعد يوم، ولكن، كيف السبيل إلى التخلص من قيود الزوجية... وهل ترضى الأسرة أن يتزوج الأرشيدوق رودولف حبيبة القلب؟،وبسبب ممانعة الأمبراطور لهذه العلاقة،فأن رودولف قد انتحر بعد أن قتل عشيقته في قصر مايرلنج في منظقة مايرلنج وهو ليس المكان الذي ألتقى به حبيبته التي ذكرناه في بداية لقائهم الأول. ولم يعرف بعد إلى الآن حقيقة ما حدث في تلك الليلة: هل خنق الأرشيدوق عشيقته ثم انتحر؟ هل قتلته هي ثم قتلت نفسها؟ هل ثار وقتلها ثم قتل نفسه؟ أم أن هناك جريمة أقترفت في سكون الليل وفي ذلك المكان المنعزل- جريمة قضت بها السياسة ومصالح الدولة العليا- وأعلن على أثرها أن الأمير وعشيقته قد انتحرا؟.. مأساة مايرلنج لا تزال من أسرار التاريخ وقد ظلت كذلك إلى يومنا هذا، أن بيت لقائهما الأول قد أشترته وزارة الخارجية العراقية من الورثة في منتصف السبعينات وهو يطل على حديقة الشتات بارك الجميلة وفي أجمل منطقة تراثية في فينا، وفيه تمثال يوهان شتراوس والتي غنت فيها أسمهان ليالي الأنس في فينا، وبيت السفير والمدرسة العراقية وكانت الأعلام تبدل بشكل دوري مما يبين مدى الحرص والدلالة على أحترام وتقدير لرمزنا الوطني، فكانت صورة العراق لدى النمسا مشرقة ومتعاطفة للظرف الذي كان يعيش العراق أجوائه الا هو الحرب العراقية الأيرانية ولوضوح سياسته وتقديراً لدبلوماسيته الواضحة والمنطلقة من حسن التعامل المتبادل.
على الرغم من خلفيات وأنتماءات السفراء أثناء تلك الفترة التي تواجدنا فيها، فقد وضع السفراء مصلحة العراق فوق كل أعتبار، وبذلك أكتسبت سمعة العراق في المحافل الثنائية والأقليمية والدولية ثقلاً مناسباً يتناسب مع موقعه وأهميته في المنطقة عربياً ودوليا، ستحوي مقالتنا ذكر من عاشرناهم من السفراء والمستشارين لتلك الفترة وأن من تغير سلوكه بعد ذلك فنابع عن فقدان روح المواطنة وحبه لبلده العراق.
سفارة العراق في فينا
*- الدكتور محمد صادق المشاط: وزير ورئيس جامعة ودبلوماسي عمل في أحسن الدول وكان مكرما طيلة فترة عمله، ولمدة ستة أشهر عاشرت عمله ووجدته نشطاً وكانت له علاقات جيدة مع الحكومة النمساوية وشخصيات الأحزاب المتنفذة ومع السلك الدبلوماسي العربي والدولي، أيضا علاقته بالجالية العراقية جيدة، وكان لا يتدخل بعملنا مع الوكالة الدولية بل أنه أخذ الموافقة لأن أتابع أيضاً العمل مع منظمة اليونيدو للتنمية وكنت أرفد وزارة الصناعة بالمستجدات لأنها المسؤولة عن هذا النشاط، بعدها وفي نهاية عام 1981 نقل الى لندن وبعدها الى واشنطن لغاية 1991حيث أحيل على التقاعد بسبب بلوغه السن القانوني، لكنه لم يعد الى العراق وسكن كندا وظل هناك، ألا أنه بعد الأحتلال بفترة كتب مقالة في جريدة الشرق الأوسط تهجم فيها على النظام الذي هو كان جزأَ منه، ويمثل سياسته طيلة فترة عمله وكأنه كان معارضاً له، ولم يكتفي بذلك بل أصدراً كتاباً عام 2008 بعنوان(كنت سفيراً للعراق في واشنطن"حكايتي مع صدام في غزو الكويت")، فيه من المغالطات وسرد بعيد عن الصحة وتهجم غير منصف ومعقول لشخص أستلم مناصب عدة وفي أرقى الأماكن وبقى التساؤل لكثير من الدبلوماسيين الذين ألتقيت بهم عن مغزى سكوته لمدة عشرة أعوام وبعدها أعلن خلافه مع القيادة السياسية للعراق؟ وكان الأجدر به أن يبين موقفه في حينه بدلاً من السكوت لسنوات عديدة أي بعد الأحتلال، كما يجدر الأشارة بأنه كان في الخارج مع عائلته طيلة تلك الفترة، فلم الخوف من العقاب؟،شيء غير مفهوم وفعلا تنطبق عليه المقالة المعنونة(محمد المشاط ان لم تستحي فقل ما شئت)، وكان المستشار عدنان آصف وهو كردي مستقل يتابع العلاقات الثنائية وهو دبلوماسي محترف ويتمتع بحسن الدراية والأمكانية الدبلوماسيية والأناقة وكان له مستقبل في الدبلوماسية ليكون سفيراً ناجحا مستقبلاً.
*- الدكتور هشام الشاوي: من المؤسسين للرابطة القومية، أستاذ جامعي، ووزير ورئيس لديوان الرئاسة، يتسم بالكياسة والمعرفة واللباقة في الحديث حتى أنه دوما يتحدث بالعربية الفصحى، وأنيق في ملبسه وهندامه، كانت علاقاته وتحركاته الدبلوماسية مشهود بها، أستلم العمل كسفير للعراق في فينا عام1982 بعد نقله من لندن، وقد مثل العراق بكفائة ومقدرة لا شائبة فيها، قدمت مقترحا الى منظمة الطاقة الذرية بأهداء نسخة من مسلة حمورابي الى الوكالة الدولية لتكون في الممر المؤدي لبناية الوكالة أسوة بما قدمت الصين وروسيا بعض من نماذجها التأريخية والأنسانية، ليتذكرها كل من يعمل في هذه المؤسسة، وفعلاً حصلت الموافقة من قبل الرئاسة وجرى أحتفال سجل تصويرياً في حينها حضره كافة السفراء والمدير العام الدكتوربلكس وهو رجل قانوني وبمعيته كادر الوكالة، وكانت الكلمة البلاغية للسفير الشاوي محل تقدير وأحترام وأعجاب لسرد ماهية مسلة وشريعة حمورابي ودورها الأنساني لبلوغ مبادء العدل وحقوق الأنسان، وبعدها كانت كلمة المدير العام للوكالة د.بلكس والذي أشاد بالمعلومات التي أبرزها السفير بكلمته ودور الملك حمورابي القانوني والأنساني لشريعة من أقدم شرائع العدل والتدوين القانوني، وحضارة وادي الرافدين، وقدم بدوره شرحاً مبدعاً عن حمورابي ودوره كأول رجل عرف القانون وأساليب الألتزام والتي صارت الحجة التي يتمسك بمعرفتها القانون وتطويره، لازالت مسلة حمورابي في ممر الوكالة لحد الآن،وعند بلوغه السن القانوني للتقاعد لم يعد الى العراق وأتخذ موقفاً متمرداً ومتلاقياً مع المعارضة في حينها والسؤال الذي ظل يراود الكثيرين عن سبب أتخاذه موقف المتمرد هذا؟! ،استمر عمل المستشار عدنان آصف لفترة وتبعه بعد نقله الى بغداد،*- المستشار عامر ناجي وهو دبلوماسي محترف ورياضي معروف كبطل للملاكة العراقية لوزن الثقيل لسنين عديدة وكانت علاقاته جيدة على المستوى الدبلوماسي العربي والدولي، أصبح بعدها بسنوات سفيراً في سريلانكا وهو أهلاً لها.
*- الدكتور وهبي القرغولي: مستقل ودبلوماسي حرفي يتميز بشخصية ذات إطلاع واسع من الثقافة وبارع في مسالك الأتكيت والبروتوكول وله مؤلفات تدرس للدبلوماسين الجدد في وزارة الخارجية، أنيق في ملابسه والوردة موضوعة في سترته ومن النوع الجوري، أستلم عمله عام 1986 بعد نقله من لندن، أجاد في عمله وكانت له علاقات جيدة مع الحكومة النمساوية وشخصيات الأحزاب المتنفذة، أنفرد بعمل أختص به الا وهو فتح بيت السفير سنوياً لدعوة مفتوحة من الصباح الى المساء سمي (البيت المفتوح) وكان لقائا عائليا لكل الجالية تتخلها الموسيقى والغناء العراقي والأكلات العراقية الترائية، كما شهدت فترته بلقاءات الغناء للطرب الأصيل للمقام الذي يجيد غنائه مع شخصيات عراقية لها وزن في المنظمات الدولية وكان عازف العود السيد أديب عبد العال مبدعاً فيها الذي كان يعمل في منظمة صندوق التنمية للأوبك وكانت هذه الجلسات شهرية، أستمر عمل السفير لمنتصف عام 1989، ونقل بعدها الى يوغسلافيا وبعدها عند التقاعد عاد الى بغداد ثم أنيطت به وظيفة مستشار الوزير والمحاظر لطرق البروتوكول والأتكيت والمسؤل عن المعهد الدبلوماسي، وكثير من الموفدين بالدولة العراقية أستمعوا لمحاظراته قبل أيفادهم ليكونو ملمين بأسليب البروتوكول والأتكيت.
كان *-المستشار الدبلوماسي المحترف موفق عبود والذي نقل من السويد وكان جيدا في عمله، وعند عودته الى بغداد طلب التقاعد وعاش في النمسا وبعد الأحتلال عاد وأصبح سفيرأ في باريس.
*- الدكتور رحيم عبد الكتل: العالم والسكرتير العام للجنة الطاقة الذرية العراقية ومندوب العراق لأجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومحافظ العراق في مجلس محافظي الوكالة، مستقل وخبير في نزع السلاح النووي،كنت تابع له وظيفيا في بغداد وكذلك عندما كنت مستشاراً علمياً في فينا، أستلم عمله كسفير في منتصف عام 1989 وعملت معه بهذا المنصب أربعة أشهر وبعدها تم نقلي للعودة الى منظمة الطاقة، أمتاز بالدراية والثقافة وحسن الأداء وكان متميزا مع الوكالات الدولية وقد كتبت مقالات عدة عن مكانته قي أجتماعات الوكالة والأمم المتحدة لنزع السلاح وكنت في حينها أحضر معه سواء في فينا أو في الأمم المتحدة بما يتعلق بنزع السلاح النووي، علاقته بالدولة النمساوية والدبلوماسيين مشهود بها، بقى في منصبه لعام 1995 حيث وافاه الأجل بعد مرض عضال(رحمة الله عليه)، *- كان المستشار في حينه غالب العنبكي وهو دبلوماسي محترف ومتمكن في عمله، بعدها تخصص في نزع السلاح وأجاد في عمله مما أهله العمل في جنيف ونييورك، أستلم المستشارية العلمية بعدي معتوق عبد الستار وهو خبير في مجال نزع السلاح.
هذه بعض من الخواطر التي دونتها عن دبلوماسي العراق للفترة التي خدمت فيها في فينا بلد الجمال والتاريخ والحضارة والموسيقى،وخلال تلك الفترة كانت سكرتيرة السفير السيدة عالية سرسم بعد أن كانت قبلها سكرتيرة السفير السيدة مارش النمساوية والتي أنتقلت الى سفارة الباكستان، وتتمتع السيدة عالية بالكفاءة والدراية بالغتين الأنكليزية والألمانية بطلاقة ونشطة بعملها ولاقت أستحسان السفراء جميعا، وهي لازالت في عملها، ويتضح أن من عمل فيها كانت درجة الكفاءة هي السائدة ومنهم من كان غير بعثي بل أنهم دبلوماسيين ماهرين أدوا واجبهم بتلك الفترة بأخلاص للعراق وقيادته السياسية، وهناك مقالة أخرى لنفس الفترة عن زمالتي للعراقين العاملين في منظمات الاوبك وصندوق الأوبك واليونيدو والجالية العراقية سأدونها بأذن الله، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود.
ً
1688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع