شارع الرشيد ثلاثة كيلومترات من العاطفة الحية صعدت إلى السماء
زوال الشارع صار يُخيف مَن تبقى من السكان الأصليين في عاصمة المنصور وهم يرون شارعهم الخالد يذهب إلى العدم بسبب ما لحق به من دمار وخراب وهدم وعشوائية.
العرب /فاروق يوسف - لندن : إن ذهب ذلك الشارع ذهبت بغداد. عبر عقود الترف البغدادي كانت العاصمة العراقية كلها هناك. المجتمع كله هناك. المال كله. الجمال كله. الفنون كلها والمزاج بكل أنواعه.
دائما كانت بغداد شيئا وباقي مدن العراق شيء آخر. هي المدينة، أما شارع الرشيد فلم تنافسه الشوارع التي شقت بعده ظل وحده الشارع. نسبته إلى الخليفة العباسي حررته من حاجة العثمانيين إليه. إلى وقت قريب كانت هناك رقعة من القاشاني على جدار جامع سيد سلطان علي تحمل اسم الشارع الأصلي “جادة خليل باشا”.
كيلومترات عاطفية
ما لم تتخذ الكتابة عن ذلك الحيز العاطفي طابعا شخصيا فإنها تخون جغرافيا الوهم التي تكسب الشارع قيمته الحقيقية في حياة البغداديين. فهو شارعهم كلهم. فقراؤهم وأثرياؤهم، نخبهم وصعاليكهم، مؤمنوهم وملحدوهم، متعلموهم وأمّيّوهم. ملائكتهم وشياطينهم، مفكروهم ومجانينهم. لصوصهم وسعاة بريدهم.
ثلاثة كيلومترات واقعية هي في حقيقتها ثلاثة آلاف كيلومتر من الخيال.
الشارع الذي تخصص جزء منه في بيع الزجاج والمرايا كان مرآة للفسيفساء العراقية. عرب وأكراد ويهود ونصارى وصابئة وعجم وتركمان استقروا فيه سكانا وحرفيين وباعة متجولين وصيارفة وتجارا وهواة كسل ومتذوقي طعام وصانعي حداثة وأحزاب ومروجي أفكار.مدينة الملل والنحل كانت كلها هناك.
هناك يمكنك أن ترى محمد مهدي البصير وهو يلهب مشاعر الجماهير في جامع الحيدر خانه من خلال التحريض الفني ضد المحتل الإنكليزي ويمكنك في الوقت نفسه أن تتبع خطوات صدام حسين اللاهثة بين الأزقة بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم التي وقعت قريبا من مكتبة الإنكليزي مكنزي.
شهد “الرشيد” خصومات أدبية، أشهرها الخصومة التي فرقت بين الشاعرين معروف الرصافي ومحمد صدقي الزهاوي. يومها اختار كل واحد منهما مقهى ليكون منبره لهجاء الآخر.
كانت حفلة استعرض العراقيون من خلالها قدرتهم على إدارة فن الخلاف عن طريق الفكاهة القاسية. وهو ما عرفوا به على مر العصور. لقد انصرف قراء المقام إلى صب آهاتهم في سياقات نغمية طرزت بزخارفها جدران خان مرجان فيما كان معلمهم ورائدهم محمد القبنجي يشرف على مخازنه التي تبيع الملابس المستعملة في الجانب الآخر من الشارع، قريبا من جامع مرجان الذي انحرف الشارع بسببه.
هل كان على القبنجي أن يستأذن أحدا للدخول إلى الحفلة؟ كان الرجل واحدا من مخترعي كلمة السر التي صنعت من بغداد لغزا ومن شارعها العظيم خزانة للأسرار.
لا يمكن أن يُختزل تاريخ الشارع الرشيد في اللحظة التي وقف فيها خليل باشا معلنا افتتاح الشارع عام 1916. سنة واحدة قبل انطفاء شمس الإمبراطورية العثمانية.
هناك كعك السيد الذي افتتح عام 1906 وهناك أيضا شربت الحاج زبالة الذي يعود إلى عام 1910.
صوت البصير ما يزال يلهب الجماهير في جامع الحيدر خانه، ومازالت تسمع خطوات صدام حسين بعد محاولته اغتيال عبدالكريم قاسم.
ألف ومئتا عمود من الترف
أكثر من ألف ومئتي عمود كان في إمكانها أن تصنع طرازا معماريا فريدا من نوعه هي رمز فخامته التي صنعت أروقة تقي المارين شمس بغداد اللاهبة. غير أن الشارع الذي كان شاهدا على وفاء البغداديين لخليفتهم العثماني يوم خرجوا متظاهرين فيه ضد الاحتلال البريطاني كان يستعد لكي يقفز بالعراقيين أنفسهم إلى سباق الحداثة من خلال أورزدي باك وهو أول “مول” يتم افتتاحه في الشرق الأوسط.
لقد خصصت تلك السوق التي تتألف من طابقين لبيع أحدث منتجات دور الأزياء العالمية وكانت هناك مقهى عصرية على سطحه تطل على نهر دجلة. كان هناك جناح للكتب وإسطوانات الموسيقى فهي ضرورية لزبائن تلك السوق النخبوية.
لم يكن في إمكان أصحاب السيارات الفارهة الذين كانوا يرتادون تلك السوق أن يدركوا ما الذي يحدث في سوق الهرج من فوضى. بالرغم من أن تلك السوق كانت قريبة منهم بأقل من كيلومتر واحد. كان زبائن سوق الهرج الذي سمّي كذلك بسبب ضجيج الأصوات فيه فقراء. يمكنك أن تبيع أيّ شيء في تلك السوق. قريبا منها تقع سوق الصفافير، وهي سوق لو حافظ عليها العراقيون لكانوا روادا في مجال الصناعات الشعبية في العالم العربي.
على الناصية قريبا من سوق الهرج يقع مقهى أم كلثوم.
نام الشاعر إلى الأبد
يجلس المرء هناك لكي ينصت إلى صوت السيدة. هناك صور لكوكب الشرق على الجدران في زيارتها لبغداد، وكان صاحب المقهى واحدا من أهم مستقبليها. لقد خُيّل إليّ أنني رأيته يوما ما. الصمت الذي غلّف المكان لم يكن يسمح بأيّ نوع من الخيلاء. كانت ذكرى السيدة تكريما لمَن استقبلها. يومها كانت أم كلثوم تقول “اللي جوه القلب كان في القلب جوه/رحنا واتغيرنا احنه إلا هو”.
أما حين يرغب الزبون في سماع أغنيته المفضلة فعليه أن ينتظر جالسا لساعات لكي يُلبّى طلبه. هناك مَن سبقه إلى تسجيل طلباته في دفتر نادل المقهى.
سيكون عليّ أن أتذكر عوينات آسيا في ساحة حافظ القاضي وأسواق حسو أخوان قبل أن أصل إلى سينما روكسي وريكس. ولكن هناك سينما الزوراء تقابلها سينما علاء الدين التي احترقت ذات مرة. أما المصور الأهلي الذي يقع قبل جسر الأحرار فقد وقفت أمامه مرات عديدة وأنا أفكر بأبطال تلك الصور التي كان يعرضها في خزانته الزجاجية. أسرتني صورة الزهاوي نائما على كرسي في مندلي في انتظار شاعر الهند طاغور الذي زار العراق عن طريق البر. المصور الأهلي هو خزانة بغداد البصرية.
سوق الصفافير يطل على شارع الرشيد في منطقة باب الأغا قريبا من الشورجة وتباع فيهِ المصنوعات والأدوات النحاسية.
غير أن ذاكرة المدينة الغذائية كانت هي الأخرى تتنقل هناك بين مطعمي ابن سمينة المتخصص بالقوزي ومطعم الإخلاص الذي يعد زبائنه بأشهى أنواع الشاورمة غير أن خبز باب الأغا يظل علامة تجارية فارقة، بالرغم من أنه كان رخيص الثمن. اللافت أن مخبز باب الأغا وهي محلة بغدادية كانت امرأة تديره في خمسينات القرن الماضي. وهو ما يعني أن البغداديين لم تكن لهم عقدة نقص من عمل المرأة. وكانت كبة السراي واحدة من النقاط التي تزول عندها الفوارق الطبقية.
في الصابونجية، وهو أول أحياء شارع الرشيد من جهة باب المعظم ويقع في الجهة المقابلة لوزارة الدفاع، كان عبد القادر الرسام وهو أول رسام عراقي في العصر الحديث قد أقام مرسمه في ثلاثينات القرن الماضي. بحثت ذات مرة عن ذلك المرسم من أجل أن أرى الأسد الذي رسمه الرسام على حائط مرسمه الخارجي من أجل أن يخيف زائريه وهي معلومة كان نوري الراوي قد سرّبها إليّ. لم أجد المرسم. كان الرسام قد مات عام 1952. غير أن امرأة مسنة أخبرتني بأنها كانت تطعم الحمام الذي كان الرسام يربيه وأنها كانت تخشى أن بقفز عليها الأسد الذي رسمه.
“صيادون في شارع ضيق” رواية كتبها جبرا إبراهيم جبرا من أجل شارع الرشيد الذي أقام في أحد فنادقه في أيامه الأولى ببغداد. الفتى المتمرد القادم من هارفارد بعد بيت لحم وجد نفسه في بيئة كانت في انتظار صيحته الوردية. لم يكن رساما مهما. لم يكن شاعرا مهما. غير أن موهبته النقدية هيأته للأخذ بعبقرتي الشعر والرسم العراقيتين ليصل بهما إلى القمة، بدر شاكر السياب وجواد سليم. في ذلك الشارع أقامت جماعة بغداد للفن الحديث التي تزعمها سليم عام 1951 معرضها الأول وكانت المقهى البرازيلية ملتقى الشعراء والفنانين.
لا شارع ولا مدينة اليوم
أن يزول شارع الرشيد فتلك علامة شؤم تنذر بزوال بغداد حاضرة عظيمة. وهو ما صار يُخيف مَن تبقى من السكان الأصليين مقيما في عاصمة المنصور وهم يرون شارعهم الخالد يذهب إلى العدم بسبب ما لحق به من دمار وخراب وهدم وعشوائية. من غير شارع الرشيد تكون بغداد مدينة غريبة عن نفسها وعن عشاقها.
لقد ابتلع ثقب أسود حانة شريف وحداد ومقهى البرلمان ومخزن جقمقجي للموسيقى وأورزي باك ودائرة البريد وأحذية حراق وكل دور السينما ومتحف الرواد وفتاح باشا وحسو أخوان ومكتبة مكنزي ومحل جواد الساعاتي. اختفى الشارع فاختفت المدينة.
ما بين مقهى أم كلثوم وتسجيلات جقمقجي امتد خيط من الموسيقى كانت بغداد تنسج منه ثوبا لخيالها. أما حين انقطع ذلك الخيط فقد اختفت المدينة التي لم تجد شيئا يستر عريها
725 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع