من ذكريات الثلاثينيات في شارع السعدون
بسبب زحف البناء حول شارع السعدون وكثرة المقاهي الكبيرة،، بنى والدي بيتا جديدا على طراز البيوت البغدادية القديمة والتراثية على شاطئ دجلة يقع في ثاني شارع من الاورفه ليه مقابل النهر. وكان به مدخل نسميه (دجة) عادة ما يجلس عليها قارىء القرآن كل جمعة أو عندما نقدم الطعام للفقير وبهذا الممر باب للضيوف على اليسار وفتحة على الحوش.
أنتقلنا الى هذا البيت في عام 1934وكان من طابقين وبه شناشيل و حوش كبير. في الطابق الأول هناك صالون وبه الدلكات والسفرة والجلوس والمطبخ. كما كانت هناك غرفة في واجهة الحوش بها درجتين او ثلاث لندخل الى الغرفة (تحتها سرداب لا اذكر يوما نزلنا به لانه مليء بالماء، احيانا يقل واحيانا يزداد يسميه البغداديون (النزيز) والسرداب به شبابيك ليست كبيرة تطل على الحوش، كما توجد تواليت او (ادب) في اول الدرج كما يسمونها سابقا، واتذكر البيانو الموجود بهذه الغرفة وبها عود والدي. كنت اقضي معظم وقتي أدندن على البيانو واحياناً يزور والدي رجل أسمه بهجت دادة العواد وهو عازف عود وكمان وبيانو ويجلسان لعزف الموسيقى التركية على العود.
أما الطابق الثاني فكان به شرفة مطلة على النهر بالشناشيل وغرفة واسعة للجلوس و4 غرف نوم كبيرة ومخزن وحمام يستخدم الحطب لتسخين الماء شتاءاً ومرافق صحية. وكانت سقوف الدار مزينة بقطع معدنية ملونة بالورود وكل خشب الدار مطلي باللون الاخضر. في الصيف يغطون الحوش بقماش سميك وخشن يسمى (الچادر) يضعونه فوق المحجر، وتحته سيم حديد قوي يتحمل الثقل كي يحجب الشمس عن الحوش، وفي المساء كنت وانا صغيرة اتمتع بسحب الحبال مع الخادم كي نرفع الجادر عندما تغيب الشمس.
هذا الدار كان ملاصقا لدار عمتي نجية زوجة المرحوم عزة الاعظمي أذ فتح والدي بابا على دارها، وهي فتحت باب على دار خالي خليل الاورفه لي الملاصق لدارها من الخلف وبجنبها دار العم نشأت فكل منهم فتح بابا على الآخر. وكنا نلعب مع بنات خالي سعاد وانعام والتزاور مستمر بين الكبار والصغار..
اذ تجتمع العائلة بالحوش لشرب الشاي المخدر المهيل مع الكليجة وكانت انعام ابنة خالي وابنة عمتي هي الصديقة المقربة لي، حتى عمتي تقول انعام (تك) وداد فهي نشطة وحركة ومرحة مثلي.
في بداية الثلاثينات بدأت عائلة الاورفه لي بالنزوح من باب الشيخ وراس القرية والجعيفر والحيدرخانة ويبنون بيوتهم في الاورفه لية. وفي الاربعينات انتقلوا الى الجانب الثاني المقابل لحديقة غازي (الامة حاليا). وبنى والدي داره الفخم في عام 1942. كان الدار يتكون من 3 طوابق و3 سطوح مطل على حديقة الملك غازي مساحته 900 متر بناء وبه حديقة واسعة جانبية وخلفية. وبقينا بهذا الدار الى بعد وفاة والدي (رحمه الله) عام 1957 ومن ثم انتقلنا الى منطقة المسبح بالكرادة في شارع السفارة الالمانية وتدريجيا انتقل الاورفه ليه جميعم منتشرين في منطقة المسبح.
ومرة اخرى انتشر اخواني الى مناطق ابعد الى الصليخ والمنصور والاعظمية وانا بعد زواجي بنينا دارنا في شارع الربيع قرب نفق الشرطة. والان كل واحد في بلد بعد العدوان على بلدنا في 2003. مع الاسف الان نحن لا نعرف حتى اسماء احفاد اخوتنا او أخواتنا. يا للزمن الصعب الذي يمر به كل عراقي. لقد تشتتت العائلة الواحدة، فمنهم من هاجر الى اميركا ومنهم الى كندا و هولندا وانا وزوجي انتقلنا الى عمان حتى غادرنا الى الابد، ودفنت زوجي حميد في مقبرة سحاب بالأردن. وها انا اجتر ذكرياتي وانا في الغربة لأكتبها لكم.
النوم في السطوح
في الصيف أعتاد العراقي أن ينام على سطح الدار، أذ أشتهرت ليالي بغداد بهوائها العليل، وأحيانا يكون الحر لا يطاق بالسطح. كنت واختي الصغرى نبلل فراشنا بالماء وننام عليه او نبلل رأسينا لعل نسمة هواء تبردنا. إضافة الى الحر، هناك مشكلتان هما الناموس ليلاً والذباب صباحاً.
كان الحر شديدا في الصيف ولا يوجد اي وسيلة تبريد غير المروحة (المهفة) اليدوية وهواء الله، وكان الجميع ينام على سطح الدار حيث الهواء عليل أحيانا وبارد لولا لدغ الناموس المتواصل لذا كانوا يضعون الناموسية فوق السرير. ولكن الويل اذا دخلت ناموسة فلا نستطيع ان ننام الى الصباح، ولكن جيراننا اليهود حلوا مشكلة الناموس بشكل اخر، اذ بنوا في السطح أعمدة خشبية لمساحة تتسع لجميع أهل الدار ووضعوا عليه سيم ناعم ويرشون الفليت (قاتل الحشرات) قبل النوم.
كان علينا ان ننزل الى غرفنا مبكراً ما ان تبزغ شمس الفجر واحياناً نغطي راسنا ونكمل النومة ولكن نفيق وراسنا يؤلمنا من الشمس الحارة، وهناك شيء مزعج يوقظنا مبكراً هي ذبابة الصباح لذا نترك السطح ونعود لغرف النوم مسرعين.
ومن مراسيم السطح العراقي الركي اي (البطيخ الاحمر) حيث كنا نضعه على السطح من المغرب فنقسم الركية الى قسمين ونتركها وعندما نصعد نجدها باردة جداً فناكلها ثم نخلد الى النوم.
اما الماء فكنا نشربه من (التُنگة) المصنوعة من الفخار وبها مشربة وغطاء وعادة توضع على التيغة (السياج) من المغرب حتى تبرد وتصبح باردة ونشرب منها طول الليل واحياناً نضع اكثر من واحدة. كنت أحب نوم السطوح لأتمعن بالنجوم، فقد كانت ساطعة، ولانه لم يكن في بغداد كهرباء لأنارة الشوارع، لذا يمكن ان نرى ان النجوم اقرب لنا. كما كنت أعشق القمر واتكلم معه واحيانا أراجع دروسي على ضوئه الساطع واكتب الخواطر وأتمعن بوجهه الذي احياناً اراه ضاحكاً واحياناً اخرى عابساً. اما الغيوم فقد كانت متعة كبيرة. كنت اراقب تغيرها واتخيل الصور والاشخاص والطبيعة وكنت مع اختي الصغرى سداد كل واحدة منا تتخيل شيئاً، ونتنافس بايجاد صور متعددة فيها كحيوانات او صور بشر.
الله يا بغداد كم كنت جميلة!!!!!!
كما ذكرت سابقا كان جيراننا معظمهم من اليهود، وكان اهلي يشاركونهم في السراء والضراء فكانت جارتنا تناديني وتقول لي:”إبدالك وداد ما تجين اشوية …”فأذهب واذا بها تقول: اشعلى الضوء…. وكانت هذه عادتهم يوم السبت، لا يضيؤون الضوء ولا يشعلون ناراً، لذا كان الخادم حسين عندنا يغيب لانه يذهب ويمر على بيوت اليهود في شارعنا كي يوقد لهم النار والضوء كل يوم سبت ويعطوه كم فلس.
وكانوا يرسلون لنا في عيد العرازيل صينية بها الششة (هي مجموعة من المكسرات من مصقول لوز وجوز ونبق عجم وباقلاء يابسة وحمص وفستق عبيد) توزع بالعيد الذي يجب ان تمطر السماء به وكان هذا عيدا مهما عندهم. كما كانوا يضعون سريرا به أعمدة برونزية في الحوش المفتوح يلفونه بأغصان السعف وبعض أوراق الياس ويعلقوا البرتقال والنومي والرمان في أعلى السرير وكان منظراً جميلاً لا أنساه.
وأتذكر زواج جيراننا وكنا نحن الصغار نتفرج على الرجال من فتحات المحجر المطل على الحوش ووزعوا الطاولات ووضعوا كاسات بها مكسرات وبعدها أتت فرقة الجالغي البغدادي وأنشدوا المقامات العراقية. أما النساء فاجتمعن في غرفة واسعة في الطابق الثاني وكان هناك (فرقة موسيقية) من النساء يغنين المقام والبستات البغدادية ويعزفن الدف والطبلة والنقارة (وهي الة متكونة من قطعتين مدورة ويضربون الجلد بعود صغيرة فيخرج صوت النقر لذلك سميت النقارة). واذكر قدموا لنا الجلي الأحمر هذا كان في أوائل الثلاثينيات وعمري لا يزيد على ست سنوات. ولا انسى منظر بعض النساء ,كن ياتين منقبات حتى لا يعرفهن أحد، لابسات العباءة ولا ترى غير عيونهن ويسمونهم (التبديل)، يعني نساء غير مدعوات ويأتين للتفرج على العروس.
صوم البنات
منذ صغرنا تدعونا والدتي الى صوم البنات، وهو آخر اربعاء من شهر رجب، فتعمل صينية مليئة بالشموع وكنا نفرح بها جداً.
نجلب الطين من الحديقة ونصنع منه كرات نضعها على الصينية ونغرس الشموع بها كما نضع بها عيدانا من الياس الأخضر ونضع انواع الملبس والتوفي.
وتعد الوالدة العزيزة انواع الاطعمة بالدار. أولها الدولمة والكبة و(اللهوم) وهو مسحوق السمسم والهيل المطحون مضافا إليه السكر، وعادة يصنع لهذه المناسبة. وتقول لنا والدتي انه يوم خاص بالبنات وعليكم ان تصوموا الى الساعة الثانية عشر ظهراً فقط وبعدها الله يعطيكم مرادكم (ما تتمنونه) وكنا ندعو بنات العائلة إنعام وسعاد بنات خالي وفضيلة ورسمية بنات عمي، ومعنا طبعا أخواتي على الفطور الذي يكون الساعة الثانية عشر ظهراً، وعلى المائدة خبز شعير وماء وأنواع الأطعمة والدولمة والكبة والزردة وحليب، وبعد ان نجلس للفطور تأتي والدتي أو إحدى عماتي وتقص علينا قصة بنت الشواك وتبدأها بالقول:
كان يا ما كان في قديم الزمان، شواك فقير، يجمع الشوك ويبيعه كي يعيل بناته. أبنة السلطان عينت أبنة الشواك عندها كي تخدمها وتاخذها معها أينما ذهبت. وفي أحد الايام كانت أبنة السلطان تسبح بالنهر وخلعت ملابسها والكردانة (أي عقد الذهب) ووضعتهما قرب بنت الشواك، ولما أنهت السباحة لم يجدوا عقد الذهب، فجن جنون أبنة السلطان وأمرت بسجن بنت الشواك في سرداب مظلم وهي تحلف أنها لم تسرق العقد ولكنها وضعته على الارض بقربها ولا تدري أين هو. والمسكينة بنت الشواك قضت وقتها تصلي وتدعو من الله أن ينقذها من هذه الشدة، وبقيت واقفة أمام الشباك الصغير المطل على الشارع وأذا بها ترى رجلا يمر بسرعة فنادته قائلة: الله يرضى عليك أنا صائمة وأريد منك ماء بئر ورغيف شعير كي أفطر…… أجابها الرجل: لا وقت عندي ولدي مريض في خطر وقد لا الحق عليه…..فقالت له: باذن الله تعالى سترجع وتجد ولدك قد شفى….وبالفعل وصل داره فاذا أبنه بخير، فرجع لها حاملا أبريق ماء بئر ورغيف خبز شعير. فشربت الماء وأكلت خبز الشعير، وأذا الباب تطرق عند الساعة الثانية عشر وجاء حرس بنت السلطان ليقول: لقد وجدنا العقد الذهبي، كان اللقلق قد سرقه ثم أعاده إلى مكانه. وهكذا الله أعطاها مرادها.
وتقول والدتي: إن شاء الله يعطيكم مرادكم كما أعطى مراد بنت الشواك. فنردد كلنا: آمين بجاه الله واسماعيل آمين، ونبدأ بتناول الطعام. أول شيء شرب الماء وبعدها نأكل كسرة خبز شعير ونردد: الله يخلي صاحب البيت…آمين… بجاه الله واسماعيل… آمين. أو الله يخلي سعاد… آمين، بجاه الله وأسماعيل.. آمين. أو إنعام أو أسم أي واحدة من الموجودات، وجميعنا نردد آمين بجاه الله وأسماعيل.. آمين. ثم نأكل الدولمة وما موجود من طعام على المائدة، وبعدها نشرب الشاي وتنتهي الحفلة.
بقيت أحتفل بصوم البنات وأنا في الخارج ولكن كنت أشعل الشموع فقط في كل أخر أربعاء من شهر رجب، الى حين عودتنا لبغداد وبداية مسلسل الحروب التي أنستنا هذه التقاليد الجميلة.
صوم زكريا
أعتادت خالتي بهيجة زوجة الخال جميل الاورفه لي أن تحتفل بصوم زكريا، فتدعو الأهل والاقارب وتملأ الطاولة بما تحب النفس وتشتهي. أولها الهريسة اللذيذة والدولمة والزردة بحليب… الخ من أنواع الاكلات، ويمتد الصوم لغاية المساء. بعضهم يصوم صوم النبي زكريا بأن لا يكلم احداً (الصوم الخرساني) لمدة ثلاثة ايام. وكانت اختي نهاد تصوم هذا الصوم لا تكلم احدا ثلاثة ايام، وتبدأ بالكلام بعد الفطور.
وحين أفتتحتُ قاعة الاورفه لي في بغداد كنت أحتفل بهذا الصوم كل عام حتى أصبح تقليداً سنوياً. فيأتي الناس مع نذورهم وشموعهم…..
دروس على الة البيانو
ذهبت يوما، وأنا في الصف الثاني متوسط في الاربعينات، الى حفل أقامته مدرسة النجاح الاهلية بمنطقة الباب الشرقي، وفي الحفل شاهدت عازف بيانو أعجبني عزفه وكنت متلهفة الى لقاء هذا العازف، فقلت له: هل تدرس الموسيقى ايها الاستاذ؟
فرد بنعم وقال: وأسمي آلدو كاني وأنا أيطالي.
فرحت كثيرا بعد أن أخذت عنوانه، وذهبت الى والدي وأخبرته برغبتي التعلم على يد هذا الاستاذ فوافق فورا. وشجعت صديقاتي أنعام الاورفه لي وأقبال عبد المسيح جويدة على التعلم معي. وكنا نذهب معاً عنده ليدرسنا. وقال لي: يا وداد لديك أذن موسيقية ممتازة…. وطلب مني عدم عزف أي مقطوعة موسيقية بالسماع قائلا: سأبدأ معك ياوداد من الصفر توقفي عن العزف الذي تمارسيه وأتبعيني…
أقبلت على الدراسة معه بنهم وحب، بادلني هو الاخر التشجيع والتدريس بجدية. كنت أنجز كتب الموسيقى المفترض انجازها بأربعة شهور بشهرين فقط.. ولطالما كان يمدحني ويقول بفرح غامر: وداد.. وداد أنت تلميذة ممتازة وعظيمة.. صدقيني أنا تركت طلابا في البيت من أجلك…. أذ بدأ في القدوم الى دارنا ليدرسني. كان يستمتع بتدريسي، لأنه يرى ثمرة نجاحاته في وداد بشكل كبير للغاية. كان التشجيع سمة هذا الموسيقي المبدع، كان يقول عليك بالتمرين 8 ساعات باليوم كي تكوني عازفة درجة أولى وثابرت على التمرين ساعات، وبقيت تلميذته النشطة على مدى اربع سنوات.
أما صديقاتي فلم يستمروا في الدراسة لانعدام الرغبة لديهن، وباعتقادي أن الموسيقى تتطلب أولا أن يكون الطالب موهوباً، وهذه أهم فقرة فالموهبة من الله عز وجل، وثانيا ان يكون لديه حب كبير لها وصبر ورغبة ملحة كي لا يفشل بالنهاية كما فشل الكثير من الناس. وأتذكر عندما التحقت بمعهد الفنون الجميلة في الخمسينيات، كنت أشارك عازفة البيانو العراقية الشهيرة بياتريس اوهانسيان والجلوس الى جانبها أقلب لها صفحات كتاب البيانو ولكن مع الاسف تركت البيانو لفترة طويلة ونسيت، وكل شيء لا يمارس ينسى.
ثم ترك أستاذنا العراق راجعا لبلده وحزنا نحن تلامذته كثيرا على فراقه. كان أستاذا ممتازا يجهد نفسه في تعليم طلابه، ولما درست الفنون التشكيلية بالمعهد كنت أذهب الى قسم المقام العراقي عند الحاج هاشم الرجب وشعوبي ويعطوني جوزة واشاركهم وأعزف معهم ولقد أهداني شعوبي الة الجوزة وأحتفظت بها لمدة طويلة ولكن التنقل من مكان الى أخر لم يبق شيئا على حاله.
وداد الاورفلي
عن كتاب (سوالف)
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع