دور السينما في الديوانية... امبراطورية غابت عنها الشمس
بقلم:ثامر الحاج امين
رئيس أتحاد أدباء الديوانية
منذ ظهورها في مطلع القرن الماضي كواحدة من وسائل التعبير الفني، لم يقتصر دَور السينما على تقديم المتعة للجمهور فحسب، انما حملت على عاتقها مهمة التثقيف والتربية والتوعية وأسهمت بشكل فاعل في نشر القيم الانسانية والتعريف برموزها، كما شكلت رافداً ثقافياً مهماً، ومؤسسة اجتماعية لها رسالتها التي جمعت المعرفة والمتعة وجسدت قدرة الانسان على صناعة الجمال والابداع، وكانت بحق، جسراً حقيقياً بين ثقافات الشعوب المختلفة، ولانغالي في وصفنا لها بـ”الامبراطورية”فهي قوة جبارة في تأثيرها وسيطرتها على قلوب أجيال عديدة حيث تحكمت في توجيه اراداتها وتهذيب ذائقتها وبلورة وعيها.وبعد مرور قرن
على بداية نضج السينما ومسيرتها الطويلة، ننظر اليوم بأسى، الى واقعنا الذي غابت عن سمائه هذه النجمة التي كنا نهتدي بضوئها في تلمّس طريق الجمال وبناء الوعي.
السينما نافذة ثقافية
لقد تعرضت السينما لدينا في العقدين الأخيرين، الى أشكال مختلفة من العداء وذلك نتيجة النظرة القاصرة للسلطات التي قامت على ادارة البلاد وعدم ادراكها لأهمية هذا الرافد المعرفي والثقافي لحياتنا عموماً، وهذا العداء في السابق، أخذ طابعاً خفياً غير مباشر، تمثل في تهميش دور العرض السينمائية وابعادها عن المساهمة في اثراء الحياة الثقافية، وكذلك من خلال تشجيعها على تقديم عروض هابطة تسيء الى الدور الحقيقي للسينما الهادف للنهوض بذائقة وثقافة المشاهد.
اما بعد التغيير عام 2003 فلم يصبح حالة السينما بأحسن من سابقه، انما الحال ازداد سوءاً، وشراسة حيث أخذ العداء طابعاً صريحاً ومباشراً، تمثل ذلك في الغلق التام لدور العرض السينمائية، واضطرار اصحابها لتحويلها الى مخازن ومحال لبيع الاثاث وغيرها بسبب التهديد المتواصل بالتصفية من قبل جهات متطرفة، وهذا الموقف قاس جداً لاتستحقه هذه النافذة الثقافية، فليس بمنصف من يتنكر لفضل السينما وتأثيرها على ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي، فقد اسهمت في خلق اجيال من المبدعين، كان للسينما الفضل في تكوينهم الثقافي والابداعي، وذلك من خلال دأبها المتواصل على تقديم روائع الأدب العالمي عبر عقود طويلة من العمل والانتاج. كما ليس بخاف على الكثير، دورها ومساهمتها الفاعلة في التعريف بالرسالات السماوية ورموزها وتأريخ الشعوب ونضالاتها ضد الظلم والطغيان.
لذا فمعاداة السينما ومحاربتها بذريعة الافساد، أمر يثير التساؤل والاستغراب، فالسينما فن راق يقدم مادته لجمهور واسع مجتمعاً في صالات خاصة، لهذا الغرض لذا هذه الخصوصية تقلل من استغلال هذا الفن بالشكل الذي يخشاه البعض، واذا كان هناك من خشية أن يتحول دَور السينما سلبياً، فلم تعد لهذه الخشية من مبرر بعد ما اصبحت التقنيات الحديثة والمتنوعة قادرة على توفير المحظور وايصاله الى غرف نومنا دون أن تكون هناك سلطة قادرة على منعها إلا سلطة الوعي في حين تقدم السينما عروضها كما ذكرنا امام العلن وتحت رقابة الدولة والمجتمع، لذا بات من الضروري لمن ينظر لهذا الفن نظرة شك وارتياب، أن يعيد النظر بواقعية ويقرّ بأهمية أن تأخذ السينما دورها في التنوير وانضاج الوعي وتهذيب الذائقة لتسهم الى جانب القنوات المعرفية والثقافية الأخرى في صناعة الجمال ونشر الثقافة ذات المضامين الجادة. فخلال عقود طويلة من الفراغ الثقافي والترفيهي عاشتها مدينة الديوانية، كانت السينما فيها مصدراً أساسياً لثقافة أبنائها، حيث ظهرت في حياة المدينة عدد من دور العرض السينمائي، للأسف،اندثر الكثير منها وتحول الباقي الذي ظل قائماً الى محال تجارية.
بشرى بدء العرض بانطفاء الأضواء
تعود بنا الذاكرة الى واقع السينما في المدينة خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي التي يمكن أن نطلق عليها سنوات الوعي ومارافقها من سلوكيات، عرفت بها تلك الصالات ومنها عدد من التقاليد المتحضرة التي عكست حالة الوعي الذي ساد الحياة في تلك الفترة، ومنها قيام الصالات وقبل عرض الفيلم بتقديم الأغاني ذات المفردات المهذبة والموسيقى الرائعة وأبرزها أغاني السيدة ام كلثوم وعبد الحليم حافظ، وقد تميزت كل صالة بمطرب من المطربين الكبار يرافق ذلك مناداة الباعة (حب، جكاير، علج)، ومنها ايضاً، ادارات السينما التي كانت على درجة عالية من المصداقية والاحترام لوقت المشاهد من خلال الالتزام بأوقات العرض والحجز للعوائل قبل الموعد حيث تجد العوائل مكانها في مقدمة الطابق العلوي وبشكل يوفر لها الاستقلالية عن مقاعد الجمهور وتسمى بـ"اللوج". وكانت بشرى بدء العرض تزفها انطفاء الاضواء وتعالي صفير الجمهور، الذي عادة ما يأتي من المواقع الشعبية في السينما الذي يسمى”ابو اربعين”اشارة الى سعر بطاقة الدخول لهذا الموقع وهذا الجمهور يظل طيلة ساعات العرض حريصاً على متابعة الفيلم ولايغفر لمشغل الفيلم أيّ سهو فهو سرعان ماينادي عليه بـ”اعور، اعور”في حالة اي قطع يرافق الفيلم، ولايعرف مصدر هذه الكنية، ذلك انه لم يكن من بين المشغلين من تنطبق عليه المفردة المذكورة، ويقال انها امتدت الى صالات العرض في دول عربية عديدة.
“سينما فؤاد”أول دار عرض
في مدينة”الديوانية”يعتبر عقد الستينيات وماتلاه من سنوات، هو العصر الذهبي للسينما، حيث شهدت وجود عدد ليس بالقليل من صالات العرض التي قدمت من على شاشاتها أروع الافلام ذات المضامين الانسانية وقبل هذا العقد بكثير، كانت اول دار سينما ظهرت في المدينة عام 1936 هي سينما فؤاد، وتقع في الجانب الغربي من الديوانية في موضع مقابل لتمثال الجندي المجهول في مدخل الفرقة العسكرية وبقيت قائمة حتى السبعينيات ثم هدمت، وقد انشأها السيد عبد المجيد صالح الفؤادي وكان نائباً عن الديوانية في مجلس النواب إبان العهد الملكي، ويشير الباحث حسين علي الحاج حسن انه (عند قدوم الوصي على عرش العراق الى الديوانية في شهر مايس من عام 1941 هارباً من مضايقات الكيلاني وضباطه المؤيّدين له واتخذ من دار قائد الفرقة عبد الهادي الراوي مقراً له رفع السيد عبد المجيد لافتة كتب عليها بيت الشعر التالي :
رفعت أعلام بشرى سينما آل فؤاد
ياوصي العرش أهلاً بك في هذي البلاد
أسرة”البو جمعة”ونشر فن السينما
لأسرة”البو جمعة”الكريمة، فضل كبير على الديوانية من خلال قيامها بإنشاء عدد من السينمات فيها، ففي البدء، كانت لها داران للعرض السينمائي، هما سينما زهرة الفرات 1954 التي تغيّر اسمها بعد ثورة تموز 1958 الى سينما الجمهورية الشتوي، وأخرى صيفية بنفس الاسم تأسست في نهاية الخمسينيات، تقع في الصوب الصغير من المدينة مقابل النهر، ويتذكر الديوانيون حادثاً طريفاً شهدته هذه السينما، ذلك انها عندما كانت تعرض فيلماً وفي أحد مشاهده، كان هناك مشهد حريق وقد صاحب المشهد تفاعل الجمهور بإطلاق الاصوات، مما دعا اهالي البيوت المجاورة للسينما الى تسلق السطوح ومشاهدة الحريق على الشاشة فسارعوا الى الاتصال بسيارات الاطفاء التي هرعت مسرعة الى السينما، وهو موقف يعكس الطيبة والعفوية وبساطة الوعي عند مجتمع المدينة آنذاك، ثم قامت هذه الاسرة في عام 1972 بإنشاء سينما ثالثة، هي سينما الخيام،
وكان من ابرز العاملين في هذه السينمات هم”جهاد عباده”الذي وبسبب عضلاته المفتولة وشاربه المتدلي كان يكنّى بـ”عنتر”الذي طغى على اسمه الحقيقي، وكذلك” خنياب” حارس بوابة السينماـ جناح الفقراء ــ بوابة ابو اربعين وهو سعر بطاقة الدخول آنذاك، للرجل البالغ والذين دون السن المذكور يلجأون للمشاركة كل اثنين ببطاقة واحدة، وكان خنياب حارساً أميناً وصارماً في تعامله، يذيق المشاركين ببطاقة واحدة المر والإذلال قبل السماح لهم بالدخول، ويصف الكاتب والقاضي ”زهير كاظم عبود”فراسة خنياب في تقديره لمن يستحق التمتع بامتياز النصف بطاقه بقوله (ثمّة تغيير لايدركه أحد حتى انفسنا، يراه خنياب بعينه الثاقبة من نظرة واحدة للزغب النامي فوق شفاهنا، فيمنع من وصل الى عمر المراهقة من الدخول الا ببطاقة رجل كامل الاحترام بأربعين فلسًا لاتنقص ولا تزيد، ولكننا كنا نستغرب لبوّاب سينما مدة عشرين سنة لم ير لقطة واحدة من فيلم سينمائي طيلة عمره، ولا يقسم الا بروح رجل اسطوري اسمه الحاج جمعة صاحب السينما الأول).
سينما الحمراء تخوض غمار المنافسة
ومن الشخصيات أيضاً، التي عملت في الترويج للسينما وللفيلم المرتقب عن طريق حمل اعلانها الجوال والمناداة (هاي الرواية باچر)
هو”حمزه السليت” شخصية بسيطة تقضي نهارها تجوب الأسواق والطرقات حاملة دعاية الفيلم على اكتافها والصبية تجري لاهثة خلفه طمعاً في الحصول على نسخة ورقية من دعاية الفيلم، واحياناً، كان الاعلان عن الفيلم، يتم بواسطة السيارة أو العربات التي تجرها الخيول”الربل”حيث يرفع مانشيت الفيلم عليها وتجوب المدينة مع عزف موسيقى لإثارة الانتباه، للأسف، اقتلعت هذه الصروح العالية من جذورها حيث تم تهديم الأولى والثانية، فيما تحولت الثالثة الى ورش واسواق.
وقد قدمت هذه السينما طيلة مسيرتها روائع الافلام الهندية ابرزها فيلم أم الهند، سنكام، وكذلك العربية ومنها فيلما الخطايا وعنتر وعبلة، الذي استمر عرضهما لأكثر من تسعين يوماً، وكذلك الحال مع فيلم مرحباً ايها الحب والافلام الايطالية ابرزها، فيلم إمرأتان لصوفيا لورين والقائمة تطول.
بعد غلق سينما فؤاد وكان اسمها الرسمي ”الحمراء الصيفي” في أوائل ستينيات القرن الماضي، قام السيد ابراهيم ابو عميمه، بشراء معدّاتها، لينشئ على ارض داره الواسعة المقابلة لنهر الديوانية، سينما شتوية حملت ذات الاسم وتم افتتاحها عام 1963 ..
وكان أول فيلم عرضته هذه السينما هو الفيلم العربي”ارض السلام”لعبد السلام النابلسي، ومازلت اتذكر يوم افتتاح هذه السينما، حينها كنا صبية محلة الجديدة القريبة من السينما نلعب مساءً، وجاءنا من يبشّرنا بافتتاح السينما والدخول اليها مجاناً، وهو تقليد سارت عليه السينمات، أن يكون اول يوم الافتتاح والعرض مجاناً، هرعنا اليها ونحن مبهورين بعالمها العجيب، ولأسرة البو عميمه الكريمة، فضلٌ في تنوير المجتمع من خلال تقديمها الجميل والانساني من الافلام الجادة، حيث تخصصت بشهريات شركة مترو غولدن مايرو، التي تعد اسطورة الانتاج السينمائي الامريكي، وكان من ابرز اعمالها فيلم ذهب مع الريح ودكتور جيفاكو وبن هور، وكلها جاءت بها سينما الحمراء وقدمتها لجمهور الديوانية.
مارلين مونرو وحجي باب الاصفهاني
في نهاية الستينيات، ظهرت سينما الثورة بعرضها الصيفي وقد انشأها السيد نجاح عبد الجليل أغا في شارع تجاري وحيوي مهم ولكنها في عام 1975 تحولت الى سينما شتوي جراء اقبال الجمهور على صالات العرض، وقد تخصصت هذه السينما بتقديم شهريات الأفلام لشركة فوكس القرن العشرين، حيث شاهدنا من على شاشة هذه السينما، افلام الممثلة مارلين مونرو وجين مانسفيلد، الى جانب افلام اخذت حيزاً في الوسط الشعبي، امثال الفيلم الايراني المدبلج ابو جاسم لر، وكذلك حجي بابا الاصفهاني، والسينما قائمة الى اليوم لكنها تحولت الى محال وورش خدمية.
في مطلع الستينيات وعلى أرض داره الواسعة والواقعة في مركز المدينة، انشأ السيد جليل الريس سينما غرناطة، وبدأت صيفية تخصصت بعرض الافلام العربية لاسماعيل ياسين وفريد شوقي، ومازال عالقاً في ذاكرتي مانشيت الفيلم العربي” رصيف نمره 5”لممثلته هدى سلطان وفريد شوقي، وكذلك باب الحديد لممثله ومخرجه الفنان يوسف شاهين، وفيلم الفتوة وغزل البنات، كما استغل مسرح هذه السينما لإقامة الحفلات خصوصاً حفلات بنات الريف، التي تضمنت عروضها الغناء الريفي والرقص، وقد شهدت ُعلى مسرحها غناء المطربة حمدية صالح وداخل حسن، الا ان هذه السينما لم تصمد طويلاً، فهي سرعان ما اغلقت ابوابها وتحولت الى مقهى ومحال تجارية، فهي بذلك كالشهاب الذي توهج وانطفأ.
للأسف أن هذه الحياة الضاجة بالمتعة والمعرفة، سرعان ماتوقفت حيث بدأ انحسار تأثير السينما في الحياة الثقافية والاجتماعية، بعد دخول العراق مسلسل الحروب في ثمانينيات القرن الماضي، وبدأ التدهور يطال كل شيء، فبعد أن كانت السينما مركزاً ثقافياً وتربوياً، أخذت وفي ظل غياب الرقابة وانشغال المجتمع بمصيره المجهول، تقوم بعرض الافلام الهابطة والمبتذلة، مما اعطى ذريعة لقوى التخلف، بأن تنادي بغلقها واعتبارها اماكن تشجّع على الفجور، وتمكنت من اطفاء ذلك النور الذي أضاء لنا الكثير من دروب الحياة المظلمة.
790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع