بيوتات المربعة القديمة كما اتذكرها

  

      بيوتات المربعة القديمة كما اتذكرها

    

                      

               بقلم/ نوري جاسم المياحي

  

عندما يتقدم الانسان بالعمر وتفرض عليه الوحدة والانكفاء على نفسه نجده يسرح في عوالم عديدة وربما متناقضة من الذكريات ..فيها المفرح ومنها المحزن وحتى بعضها يشعره بالخجل او الندم ومنها ما يثير الحسرة في النفس ...على فوات فرص لم يسعده الحظ باستغلالها ...والطابع المميز لهذه السلسلة من الافكار والذكريات هو الطابع العشوائي وغير المنظم ...ولا سيما عندما يحاول توثيقها بكتابتها كما يحدث معي الان ...

ومن غريب الصدف نراه انه قبل ان يبدأ بالكتابة يتخذ قرار مع ذاته انه سيختصر الكتابة الى اقل ما يمكن لكي لا يمل القارئ ولكن عندما يبدأ بالكتابة يصطدم بأن  الافكار في ذهنه تتراكض وتتسابق الى درجة انه يحتار ايها يختار ...واعتقد ان الكثير من كبار السن يشاركونني بهذا الرأي ..

كما ان الكاتب في البداية يستهدف الكتابة كي يقرأها الاخرون ..ولكن عندما يجد نفسه وقع في فخ الاطالة والاطناب وهو يعلم ان القارئ ولاسيما هذه الايام ليس لديه مزاج (خلك ) للقراءة الطويلة ويفضل ان يقرأ السطر او السطرين او يكتفي بقراءة العناوين ...عندها يحاول الكاتب أقناع نفسه بانه يكتب لنفسه وليس للآخرين ..فان قرأوها وشاركوه احزانه وافراحه وحتى افكاره فهم متفضلين وان لم يقروها فهو ليس اول او اخر من تهمل كتاباته ..عندها يشعر بالرضا عن نفسه ..

من الحقائق المفروضة على الانسان انه غير مخير في وجوده في هذه الحياة ...فلم اسمع او أقرأ يوما ما ان احد سأل قبل ان تحمل به امه ...هل ترغب ان تخلق وتأتي للدنيا ؟؟؟ وأجاب بنعم او لا ... وانما الجميع خرجوا للحياة كناتج عرضي لعلاقة جنسية حميمية بين الرجل والمرأة او الزوج والزوجة سواء كان هذا الاتصال شرعيا عن طريق الزواج او غير شرعي عن علاقة جنسية عابرة وخارج اطار الزواج ...وبالحاليتين ...يولد هذا الطفل ولا يعرف اي مستقبل ينتظره ...

وهنا يكمن السؤال المحير ... لماذا يخلق زيد  من الناس محظوظ ومدلل وفي فمه ملعقة من ذهب ؟؟؟ وبنفس الوقت يولد عمر من الناس  ...ومكتوب عليه العذاب والتعاسة والشقاء طيلة حياته ...منذ اللحظة الاؤلى التي يفتح عينيه على النور ...اليس هذه مفارقة غريبة ؟؟ ومن الظواهر التي تلفت النظر وتثير التساؤل ؟؟ ...ولكنها تبقى هي الحقيقة المرة سواء رضينا ام أبينا ..

ومن الملاحظ ان كل الاطفال الذين يولدون ويتركون ارحام امهاتهم ...نجدهم يصرخون بالبكاء في اول لحظات الخروج من رحم الام ...وبالتأكيد كلنا نعلم ان ظاهرة البكاء هي حالة مصاحبة للآلام او الحزن ...وفي حالات نادرة جدا تصاحب مواقف مفرحة ... والحقيقة الثابتة هي ان الجنين لا يعرف متى واين وكيف سيولد  او المستقبل الذي ينتظره ؟؟؟...واين سيعيش وكيف سيعيش ؟؟ وهذا ينطبق على مليارات البشر الذين ولدو وعاشوا وماتوا ومنذ بدأ الخليقة ..مما يثبت صدق مقولة ابو العلاء المعري ...عندما قال ( هذا ما جناه عليه ابي وما جنيته على احد ) ...

ولو انني لا اتفق حرفيا بالمطلق مع هذه المقولة ...وانما كان المفروض ان يقول ( هذا ما جناه علي امي وابي ) لان الاثنان شاركا في انجابه ...لان حمل المرأة لا يتم الا باجتماع الرجل والمرأة ليحدث الحمل .. وبقرار مشترك بينهما بالرضا والتراضي كما يقال ..او بالغلط او بالاغتصاب ..

قد تكون هذه المقدمة الطويلة نسبيا هي مدخل لما اريد ان ادرجه ادناه من ذكريات العمر الطويل ...قد يستفيد منه اناس لم يولدوا بعد وليس من اجل الذين ولدوا وعاشوا ورحلوا وتركوا الحياة بلا اثر يذكر ...والغريب هذه الحالة تنطبق على مليارات البشر ...وفي كافة اصقاع الارض ...ولدوا وعاشوا وماتوا ..وكانوا اعزاء عند ذويهم ودخلوا الى نفق النسيان بعد حين من الدهر ..و النسيان سنة من سنن الحياة  ... وهي هبة مريحة للبشر ...

وكم من اب وام واولاد وبنات وحبيب وصديق غادروا الحياة ونساهم اقرب الناس اليهم  كما نسي من سبقهم ..الا ما ندر ممن يترك اثر يخلده التاريخ كالفلاسفة امثال سقراط وافلاطون وغيرهم من الخالدين  ...وهذه عبرة وحكمة وللآسف لا احد يفهمها ..فلا هم عند الاغلبية من البشر سوى السلطة والمال والجاه وكثير من هؤلاء لا يباليان حقق ذلك عن طريق الظلم والقتل والجشع والسرقة وينسون ان الحياة كعفطة العنز كما وصفها الامام علي ابن ابي طالب ..لا تستحق هذا الجهد وهي زائلة حتما ..

واليوم في العراق وبعد مرور عدة عقود عشناها نجد ان الكثير من معالم الحياة الاجتماعية قد تبدلت ولاسيما في العلاقات الاجتماعية بين مكونات وافراد المجتمع الواحد مثل مجتمعنا العراقي والى درجة تثير الالم والحسرة وحتى الاشمئزاز في نفس كل من عاش تلك العقود وانا شخصيا احدهم ...فمجتمعنا كانت تسوده مكارم الاخلاق والعلاقات الانسانية في اروع حالاتها ومع مرور الايام اندثرت واصبح لا احد يعرف معنى العيب والكل وللأسف الشديد وباسم الدين يشوهون القيم والاخلاق ...وعندما كنا صغارا كان احد الدروس ( ان كنت لا تسنحي افعل ما شئت ) ...وبما ان عدم المستحى كان يعتبر عيبا وعارا ...فكان المرأ يفكر الاف المرات قبل ان يقدم على عمل ما خاطئ ومشين ...ولو اردت ضرب الامثال والقصص لعدم الخجل او المستحى هذه الايام لاحتجنا الى مجلدات لكثرتها ...

سأتحدث عن طفولتي والهدف بسيط  ليس لغاية شخصية وانما لكي اعطي وارسم صورة مبسطة لما وعيت عليه قبل 78 سنة عندما ولدت في محلة من محلات بغداد القديمة وبين أناس وعوائل عايشتها وكيف كانت ملامح وعلاقات المجتمع البغدادي البسيط  أنداك و الذي عشته شخصيا واقارنه بما اصبح عليه اليوم وكيف تحولت فسيفساء  مكونات المجتمع الرائعة والمتعايشة المنية على الاحترام وعلى المحبة والاخاء والتعاون ... (انطلاقا من قاعدة أحب لأخيك ما تحب لنفسك ) وليس كما يحدث اليوم ( اقتل اخيك واستولي على ماله وعرضه ) ...

ما يحدث اليوم من اهدار للدم العراقي باسم الطائفية وباسم الدين والمحاصصة لا اعتقد ان هناك مثيل له عبر التاريخ وبوجود العولمة المتحضرة ... الى ان اصبحت اليوم ..الجار يقتل جاره بحجة انه ينتمي الى دين اخر او قومية اخرى وحتى لو كانوا على دين واحد وكتاب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة فاذا بهم احدهم يذبح الاخر ويستبيح  حرمةعرضه وماله ...

وحتى الطفولة لم تبقى لها حرمة ...اما الرحمة والعطف على الضعفاء والفقراء والمرضى فقد اختفت كليا كما عهدناها سابقا .. وحل محلها الحقد والكراهية والجشع ...وكأن هناك ايادي خفية ملعونة ومخطط عالمي حاقد على البشرية والانسانية جمعاء ويستهدف ابادة الخير في النفوس ...وفي قناعتي الشخصية انهم يستهدفون جميع مكونات الشعب العراقي وبدون استثناء لأي مكون منه واعتقد انه سياتي يوم في المستقبل يتحول البشر الى وحوش تأكل بعضها البعض ... السكان يزدادون والطعام يقل ...حيث كل المؤشرات تشير الى ذلك ...هناك انحدار اخلاقي وقيمي على مستوى العالم اجمع وليس على مستوى العراق فقط او العرب والمسلمين فحسب ...

فبالآمس كانت اللحمة الاجتماعية طابعها المتميز هي المحبة والتالف والاحترام والتعاون والتآزر بين العوائل ولا فروقات بينها  بسبب الدين او الطائفة كما أتذكر النسيج الاجتماعي في محلتنا العزيزة المربعة

حيث كا ن الجميع يردد ويطبق القول القائل (ان الله اوصى بسابع جار ) او (جارك ثم جارك ثم جارك ...ثم اخاك ) ...اي ان الجميع عبارة عن عائلة واحدة بغض النظر عن الدين او الطائفة ..

هذه الاقوال المأثورة كانت دروس تعلم للأطفال والتي كانت شائعة على السن الناس لم تحدد دين او جنس او طائفة للجار وللأسف نساها الناس او تناسوها عمدا...ومن مهازل اليوم المبكية والمحزنة  ...أن نجد مدن كاملة او محافظات احتكرت لطائفة او قومية معينة ... الشيعي يخاف السكن بالأنبار والسني يخاف السكن في كربلاء ...

محلة العامرية في بغداد حكرا للسنة ومحلة الشعلة او العطيفية حكرا للشيعة ...فأي عار الحق بالعراقيين بسبب المحاصصة الطائفية اخزى من هذا العار الطائفي ؟؟؟...والادهى من هذا أن بعض الحقراء والحاقدين على العراقيين يطالب بأقاليم طائفية وعنصرية ...يريدون اقليم سني او شيعي او كردي ...ويتناسون بكل صلافة الروابط الانسانية النبيلة والوشائج الاجتماعية والعائلية التي تربط بين بني العراق التاريخية ...

في زمن العولمة ..ففي اوربا يلغون الجوازات بين دول الاتحاد الاوربي ونحن بالعراق يمنع العربي من دخول اقليم كردستان الا بكفيل وأقامه بينما كان العراقي يتنقل بين دول المنطقة كسوريا والاردن والحجاز على البعران ولا حدود تمنعه ..

من احدى هواياتي المطالعة ولا سيما ما يتعلق بتاريخ مدينة بغداد ...والتي اعتز باني ولدت في ربوعها ولي من الذكريات الجميلة عنها ...وقد لا يصدق البعض انني لم اعش طويلا في محلة المربعة ...فقد ولدت عام 1939 وتوفي والدي 1949 ... وانتقلت للعيش مع اخي بعيدا عنها عام 1950...اي كل المدة التي قضيتها في محلة المربعة هي حوالي احد عشر سنة ..

                           

ومن الجدير بالذكر ان ما يسمى اليوم بالمحافظات كان يسمى بالألوية ولم يكتفوا بذلك حتى التسميات غيرت ... ومثال على ذلك ...محافظة واسط اليوم كان اسمها لواء الكوت وذي قار كان أسمها الناصرية وهكذا ..ونظرا لقلة الخريجين في تلك الالوية ومتوفرين في بغداد العاصمة لهذا في تلك الحقبة من الزمن كان من الشائع تعيين موظفي الالوية (المحافظات ) من خريجي الكليات وهم قلة وبالذات من اهالي بغداد لأنها كانت المدينة الاكثر حظا في تأهيل الموظفين وتأمين الخريجين من الكليات قياسا الي بقية المدن ...وبما ان اخي كان خريج كلية الحقوق وموظف في الكمارك فكان ينقل من لواء الى اخر وحسب متطلبات الدائرة التي ينتسب اليها ...

 وبما انني كنت احد افراد العائلة الذين يتبعون اخي اينما ينقل وعندما نقل الى الكوت كنت في الصف الخامس ابتدائي وسكنا في بيت قديم ملحق بدائرة الجمرك الذي يفصلها عن نهر دجلة الشارع الضيق فقط ومن الجيران الذين لازلت اذكرهم بيت الشبوط وبيت ابو حسين السماك والذين يعملون صيادين للسمك ...

وكان هذا الشارع يعتبر الوحيد وبمثابة كورنيش المدينة حيث بامتداده الى جهة اليمين تصل الى سدة الكوت الذي كان يطربني سماع صوت هدير الماء عبر السدة وانا اقف متفرجا فوقها ومنظر الاسماك التي تتطاير وتحول لون الماء الى اللون الاسود ...

اما اذا سرت باتجاه النهاية اليسرى من الشارع فتنتهي عند مضخة ماء ضخمة كبيرة جدا بنظرة الطفل ويحيط بها جدران خربة (كما كنت اتصورها ) وهي منصوبة على النهر لسقي البساتين المجاورة والتي لم ادخلها وفي بعض الاحيان كنت اعبر الشارع لأسبح في البرك الصغيرة المحصورة في المنخفضات الرملية على شواطئ نهر دجلة الرملية ( اطبش ) كما يقال وكي لا اغرق بالنهر ..او العب بصيد السمك بطريقة الاطفال البدائية ( خيط وبراسه شص صغير وتبدورة بطل  ) ..

اما اللعبة المفضلة عندي في البيت فكانت هي الدخول الى غرفة مليئة بالأوراق والملفات الخاصة بالجمرك والقديمة جدا واعتقد انها من زمن العثمانيين والمبعثرة على الارض والتي تعود الى سنوات قديمة وكانت هوايتي هي رفع الطوابع القديمة من الاوراق وجمعها ومعظمها كان يحمل صور سلاطين العثمانيين ...وأذكر جيدا ان بقائي في مدينة الكوت لم يطل اكثر من سنة لان اخي نقل منها الى قضاء النجف ..

وعندما نقل أخي الى قضاء النجف وهي مدينة صغيرة قياسا بما هي عليه اليوم وابرز معالمها كما تذكرها مرقد الامام والسوق والمقبرة والمستشفى وبجواره ملعب كرة القدم والذي هو عبارة عن هدفين من البواري المثبتة على الارض في ارض فضاء رملية وبالقرب منها متوسطة السدير  ... واذكر ان جارنا في الدار واعتقد انه دار موظفين حكومي لان الدولة في ذلك الزمان كانت توفر لموظفيها السكن اللائق والرخيص ( اي اخو البلاش كما يقال ) واذكر ان الضابط المسؤول عن امن النجف ضابط شرطة برتبة ملازم ثاني واصله من راوه...لأنه كان يسكن الدار المجاورة لدارنا خلف المستشفى ...

وكنت أنذاك في الصف السادس الابتدائي وداومت في مدرسة الملك فيصل الثاني الابتدائية (المبنية حديثا والتي تقع في طارف المدينة القديمة ) والواقعة في منطقة الجديدة والتي فيها مناخة الابل وتعتبر محطة لراحة قوافل الابل التي تنقل التجارة عبر صحراء النجف...ومن المناظر التي اتذكرها هي بيت مبني حديثا كنت اراه عندما اذهب للمدرسة واتذكر انه يعود لاحد السادة امن ال الرفيعي والذي كان صديقا مقربا لأخي ولا ادري لما بني وحيدا ومنفردا في تلك الباحة الواسعة...واكيد اصبح اليوم من اغلى الاحياء بالنجف ...فما كان في خارج المدينة آنذاك اصبح اليوم في مركز المدينة ...

ومن ذكرياتي التي لا انساها في هذه المدرسة كان معنا طالبا من العائلة المعروفة نجفيا (الشمرتي) وكان صغيرا بالعمر ولكنه يحضر للدوام بالمدرسة وهو يرتدي العباءة والعقال وهذا المنظر كان يثير في نفسي الاستغراب لأننا في بغداد لم نتعود على هذا اللباس وفي حين كنت انا البس نصف بنطلون قصير يثير استغراب النجفيين ويعرفون انني بغدادي من لبسي هذا  ...

وفي موقف بقي مطبوعا في ذاكرة طفولتي وحتى يومنا هذا ان معلم الدين المعمم وفي درس الدين كان يطلب منا جلب سجادة للصلاة عليها ...فيبادر الطالب الشمرتي الى فرش عباءته للصلاة عليها ..وكذلك يفعل بقية التلاميذ النجفيين ...اما انا الطالب البغدادي ...والمتميز عنهم بلبسي بنطلون قصير كعادة اهالي بغداد ...ولا اجلب معي سجادة للصلاة عليها ...فكان عقابي علقة (بسطة ) بخيزرانة تستخدم لضرب الحمير ...هذا التصرف القاسي من المعلم جعلني اكره الصلاة ودرس الدين وكل المعممين ...ولم اؤدي الصلاة الا بعد ان خفت بريق الحياة ولذتها وبهرجها بعد ان كبرت واديت فريضة الحج وتركت لذائذ الحياة الدنيا  غير رجعة والتفت الى تنقية وتصفية حساباتي للأخرة ..

وبعد ان تخرجت من السادس الابتدائي التحقت بمتوسطة السدير وكان لي بينهم اصدقاء متميزين اتذكر الان  اسماء بعضهم امثال طاهر عجينة وعلي عجينة وعقيل حداد وعلى البغدادي ...واذكر ان احدهم من بيت الصفار كان يعطيني منشورات لاتحاد الطلبة والحزب الشيوعي العراقي بالرغم من انني كنت صغيرا و كنت في الصف الاول المتوسط وان دل هذا على شيء فيدل على ان الشيوعيين وبالرغم من محاربة العهد الملكي لهم كانوا نشيطين وجيدي التنظيم ويهتمون بالتوعية العقائدية وبسن مبكر ...وهذا ما تعلمه منهم البعثيون فيما بعد في السنوات اللاحقة ولو انهم عجزوا عن مجاراة الشيوعين في الجانبين العقائدي والتنظيمي وحتى النضالي من خلال ملاحظاتي لسلوكية الحزبين الشيوعي والبعثي ...ولو ان التاريخ اثبت فشل الحزبين وكل الاحزاب الدينية اللاحقة في تحقيق اهداف الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ....للأسف الشديد

وكانت هذه اول التفاته لي على ما يسمى بالسياسة وانا في الصف الاول المتوسط ...ومن سوء الحظ رسبت في هذه المرحلة وخجلا من نفسي وزملائي عدت الى بغداد لأعيد المسيرة في متوسطة الحريري فاجتزت الصفين الاول والثاني وخلال هذه المرحلة تعرفت على صديقي المرحوم احمد العزاوي  والذي اصبح فيما بعد بعثيا قياديا من جماعة سوريا وانشق على بعثيي بغداد واغتيل في دمشق رحمه الله كطريقة قذرة ومتبعة في عالمنا العربي و الكوري الشمالي في ماليزيا الاسلامية لتصفية كل من يخرج عن طاعة ولي الامر ...

وخلال هذه الفترة نقل اخي من كمارك النجف الى كمارك الناصرية وفي عام 1955التحقت به ثانية وداومت في اعدادية الناصرية وهناك تعرفت على الاصدقاء الذين اتذكر اسناء بعضهم مثل محمد المنشد وابراهيم عبد علي وتحسين السوز وكثيرون غيرهم لا مجال لتعدادهم واتذكر جيدا كم كنت معجبا بالشاعر ورسام الكاركتير المبدع (آنذاك ) قيس لفتة مراد .. عندما كنا نلتقي في احد مقاهي الناصرية الشعبية وانقطعت اخباره عني منذ عام 1957 عندما فصلت من المدرسة لأسباب سياسية وغادرت الناصرية ولم ارجع اليها ثانية وحتى يومنا هذا ... وعدت ثانية الى بغداد لالتحق في السنة الثانية وبعد ثورة تموز في ثانوية الكرخ واستفدت من الزحف الذي اكرمنا به الزعيم الراحل والكريم عبد الكريم قاسم ...بعد ان قطعت عهدا على نفسي ان اكمل دراستي مهما حصل ...وهذا ما حصل فعلا ...

هذه الذكريات العابرة والسريعة قد لا تعني الكثير للأخرين ولكني اسطرها كأفكار ومعظمها ضبابية والكثير من الاسماء والاحداث قد نسيتها ولكن ادونها لفترة من حياتي وحياة الاخرين استغرقت عدة عقود وكثير من شخوصها غادروا الحياة بشرها ومرها ...ولم يبقى منها سوى ضباب الذكريات .. وبالتأكيد سألحق بهم قريبا عاجلا او اجلا ولكن متى وكيف واين فلا اعرف بالضبط ...

من خلال مطالعاتي التاريخية لتاريخ بغداد الحديث واكثر ما اثار اعجابي واهتمامي هو الجهد القيم والمتميز للمؤرخ العراقي القدير الدكتور عماد عبد السلام رؤوف تحت عنوان ( بيوتات بغداد القديمة في دراسات المؤرخين المحدثين )..والمنشور في شبكة الآلوكة

وانصح كل من يهمه قراءة التاريخ ان يطلع على المنشور اعلاه كما فعلت انا شخصيا واستفدت منه واقتطف نتف قصيرة جدا منه ومنها ما يلي ...

((وعلى الرغم من ازدهار كتابة التاريخ في بغداد في القرن الثاني عشر للهجرة؛ فإن أحدًا من المؤرِّخين لم يُدَوِّن لنا قائمةً بأسماء الأسر البغدادية التي عاصَرها، فضلاً عن أن يتحدَّث عن تاريخها، وهكذا بِتْنا لا نعلم مَن سَكَن في هذه المدينة إبَّان القرون المتأخِّرة؟ وما هي أصول أولئك الذين سكَنوها؟ وما طبيعة نشاطاتهم الاقتصادية، واتجاهاتهم الفكرية.. إلخ؟))

وعليه انا سأدرج بعض المعلومات السريعة عن عوائل عرفنها في اربعينيات القرن العشرين وسكنت في محلة المربعة التي وصفها احد الكتاب في كوكل بمقالة نشرها تحت عنوان (محلة الاكابر التي تحولت الى مزبلة) ويقصد بها محلة المربعة ...وكتب اخر يقدر عدد بيوتها بستين بيتا ولكي اختصر ذكرياتي عن عوائل المحلة وهي كما يلي:

1-بيت المختار الحاج ناجي الحيدر وبعد وفاته انتقلت المختارية الى ابنه مهدي وكان له ابن اخر اسمه صالح وعنده ابن  من عمري تقريبا واسمه صاحب وانتقلوا في الخمسينات الى الكرادة الشرقية وسكنوا فيها

2-بيت اخ المختار واسمه الحاج علوان الحيدر وايضا انتقلوا من المربعة في الخمسينات وسكنوا الكرادة الشرقية

3-وحسب المعلومات التي سمعتها ان مختاريه المربعة انتقلت في الستينيات الى داود المسلماني

4-وكان جيران لنا ومستأجرين احد البيوت التي يملكها ابي وهي عائلة ارمنية كانت معروفة باسم الزوجة وهي انجيل (ام اليس )

5-بيت عائلة مسيحية مصلاوية كما اعتقد ودارها تقع خلف دار ابي وكانت تعرف ببيت الياس ليراتو واصبحوا فيما بعد من التجار المعروفين بتجارة الادوات الاحتياطية للسيارات في السنك كما سمعت ...

6-وكان هناك بيت كنا نسميه بيت ابو (النبكة ) او بيت عبودي ويسكنه اخوان هما الحاج باقر والحاج حسن

7-وكان هناك شخص معروف ومتميز ويظهر ولاسيما في عاشوراء ويتفانى في خدمة موكب عزاء المربعة الحسيني واسمه الحاج محسن دبش ويسكن بالقرب من سينما الزوراء ولاسيما في الاشراف على عملية الطبخ ...

8-وكان هناك بيت متميز بموقعه ويقع على فضوة المربعة ومالكه وساكنه معروف باسم الحاج حسين وكان لديه معمل حدادة لعمل الشبابيك والابواب

9-وكان يجاور دار الحاج حسين بيتين  لليهود احدهما يسمى بيت عكوبي وهما اخوان هاجرا في عام 48 الى فلسطين المحتلة وتركوا بيوتهم خالية ومهجورة

10-وكان الي جوارهم بيت كبير مؤجر الى عائلة مسيحية يملكه الحاج احمد محمود من بيت مريزة ومنه مفرز ويوجد محل صغير لآوتجي (مكوي) كان يشغله شخص يسمونه (محمي) علي ومشتقة من كلمة احماء والسبب في هذه التسمية انه كان يستخدم الفحم في تسخين واحماء الاوتي ( الة الكوي ) ومن الصبح لليل هو يحمي الاوتي ويكوي الملابس لأفندية المحلة

11-وفي المقابل وعبر الدربونة التي يقع في ركنها بيت الحاج حسين يقع دار تسكنه عائلة مسيحية تسمى بيت شمعون وعنده ولد اسمه فريد هاجر الى امريكا في الخمسينات وتخرج طبيب وعاش هناك ولحق به اختاه واسمهما كلير وفريال وتزوجتا وعاشتا هناك ...اما الاخت الثالثة واسمها نللي فبقيت في بغداد وخلفت ابناء واحفاد وتركوا المربعة في الستينات وسكنوا بالأحياء الحديثة آنذاك في قناة الجيش بعد انشاءها من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم ...

12-وكان الى جوارهم بيت تسكنها عائلة هندية (من الديانة الهندوسية ) وكانت تعرف باسم ابنهم الصغير بيت ام جيان وكانوا يملكون محلات اراك سبورت للتجهيزات الرياضية الواقع في شارع الرشيد وهو من اشهر المحلات التجارية آنذاك في بغداد وكان يشاع عن العائلة انهم يتبركون بالسبح او الغسل بالحليب ...ولست متأكد من دقة الخبر ..

13-واذا دخلنا الى الدربونة المذكورة فتتفرع منها دربونة اخرى ويقع فيها بيت جليل المبيضجي ...ويبدوا انها مهنته كانت له وهي تبيض قدور النحاس واعتقد بأحد مركبات الفضة في سوق الصفافير المشهور انذاك  ... ولديه ولد اكبر مني وقد اكمل تخرجه من الكلية ...

14-وفي هذه الدربونة يقح بيت الحاج حبيب زوج عمتي وهو من التجار المعروفين في تجارة السجاد الايراني ( الزوالي ) وهو والد المعلم عزيز الذي خلف زيد واستشهد في حرب الثمانينات وخلف اربع بنات كلهن خريجات كلية واحداهن الدكتورة ندى ...وايضا والد المحامي عبد الكريم والذي كان يعمل موظف حكومي كمدير نفوس والذي خلف ولدا واحدا واسمه رائد ومن ابناء الحاج حبيب الاستاذ فؤاد وحصل على شهادة الدكتوراه في البكتريولوجي من امريكا في الستينات والذي لم يخلف احدا من زوجته الامريكية ومات قبل سنة عن عمر ناهز 85 سنة قضى معظمها في التدريس في جامعات امريكا ...وكان الحاج حبيب من ملاك العقارات وصاحب مكتبة عامرة كنت استعير بعض القصص منها ..

15-وفي مقابل بيت الحاج حبيب كان بيت عبد الكريم النجار وهو والد كل من عبد الباقي والدكتور فؤاد النجار ...وهو صاحب اشهر محلات بيع الموبليا في شارع النهر ...ومن الجدير بالذكر ان الدكتور فؤاد ايضا هاجر الى امريكا في الخمسينات ...

16-وفي نفس الدربونة يقع بيت المرحوم مجيد محمود وهو ايضا من بيت مريزة ووالد كل من المرحوم غسان والاستاذ الرياضي الدكتور عبد الوهاب والضابط المتقاعد ضياء وعلي وكان صاحب محل كماليات في شارع الرشيد ومجاور لعراق سبورت وفي الخمسينات ترك محلة المربعة بعد ان اشترى دارا في الكرادة الشرقية ...وايضا كان يملك عدة بيوت في المربعة

17-كما كان يسكن المربعة ايضا الحاج احمد محمود من بيت مريزه وكان من اولاده ابراهيم وكان صاحب محل كماليات في شارع الرشيد مقابل فندق السندباد والذي خلف ولدين احدهما عدنان ويبلغ من العمر حاليا 83 سنة ويعيش في تركيا وكان مديرا في احدى دوائر الدولة والاخر دكتوراه واسمه عصام ويعيش في روسيا  هو وعائلته من زوجته الروسية

18-والى داخل  الدربونة كانت تسكن عائلة تعرف ببيت شحم وعرف فيما بعد كما سمعت من ابناءها الحاج فاضل شحم ..

19-وفي نهاية الدربونة تتسع نسبيا وتعرض و اذكر كان يقع فيها بيت الحاج سلمان حسين وهو ايضا  من بيت مريزة ... وكان تاجر لبيع البريم زات والطباخات النفطية واللوكسات في شارع النهر ...وايضا اشترى دارا في الكرادة الشرقية وترك محلة المربعة في الخمسينات ...وهو والد كل من داود (وكان موظفا في السكك ) وعلي والدكتور هادي (دكتور وهاجر الى انكلترة) والمرحوم الاستاذ حسين (المدرس في الاعدادية الشرقية في الكرادة ) والذي خلف ولدا واحدا اسمه علي  وعدة بنات وكلهم خريجون ومهاجرون خارج العراق

20-وفي الدربونة الثانية المتفرعة من فضوة المربعة كان يقع بيت الشيخ الجليل ابراهيم الراوي والد الوزراء احمد ونجيب الراوي وكانت تقام فيه مجالس الذكر المعروفة وسمعت انه كان صديقا للحاج محمود من بيت مريزة الذي كان يحضر ويقال انه حتى كان يشارك بالشعيرة مع بقية الحضور ..

21-واخر من سأذكره هو بيت والدي الحاج جاسم وهو ايضا من بيت مريزة ومعروف بأبو نصيف والبيت بشناشيله الجميلة مطل على الفضوة وفيه كان الوالد  يقيم موكب عزاء المربعة في عاشوراء والذي توفي عام 1949وخلف نصيف والذي هو ايضا اشترى بيتا في العطيفية الثانية في بداية الخمسينات وهو تاجر وصناعي وخلف ستة اولاد خمسة بنات وكلهم خريجي كليات  ومنهم الطبيب الدكتور منير والمهاجر في المانيا من الخمسينات واياد والمهاجر الى بريطانيا منذ الستينات والدكتور موفق المهاجر الى كندا بعد السقوط ووالد كل من المحاسب المتقاعد زكي والضابط المتقاعد مظفر والمهندس الزراعي المتقاعد عباس اما اخي الاخر فهو عبد الامير وقد تحرج من كلية الحقوق 1949 وخلف ثلاث اولاد وثلاث بنات ومنهم حامل شهادة الدكتوراه في الكيمياء احسان والمهندس المعماري غسان الذي يعمل في قطر والصيدلي قحطان كما خلفني وانا اصغر اخوتي واخواتي الثلاث ...  والكبيرة ايضا هي مهاجرة وتعيش مع اولادها واحفاده في المانيا ...

وبوقفة تاملية عند نموذج العوائل المذكورة اعلاه و التي كانت تسكن محلة المربعة بالأربعينات نجد فيه المسلم والمسيحي واليهودي وحتى الهندوسي والطابع المميز لعلاقات العوائل مبنية على الاحترام والمحبة والعيش المشترك وطبعوا بطابع الثقافة والوعي ولهذا نادرا ما تجد احد ابناء هذه العوائل لم يكمل دراسته الجامعية او هاجر الى الخارج ...وكم يؤلم ويحزن من يقارن مجتمع بغداد ايام زمان وعلاقات مجتمعنا هذه الايام المبنية على التعصب الطائفي والديني الملعون والذي زرع الحقد والكراهية ونشر الرعب والخوف ...سؤال اردده مع نفسي ...ما الذي غير شعب العراق الى هذه الحالة المأساوية وما ذنب الاطفال والاجيال القادمة وما ينتظرهم من مستقبل مجهول ومظلم ؟؟؟ العراق هو نفس العراق والشعب نفسه لم يتغير ...علتنا ومأساتنا هي في الانظمة الحاكمة التي تغيرت والساسة الفاسدون والفاشلون من انصار المحاصصة الطائفية هم المجرمون الحقيقيون بحق هذا الشعب المظلوم ..

اللهم احفظ العراق واهله اينما حلوا او ارتحلوا ....

الگاردينيا:أهلاً بالأستاذ القدير / نوري جاسم المياحي في حدائقنا ..ننتظر جديدكم.

  

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

698 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع