بناء "جسر مود" في بغداد ١٩١٨ القصة الكاملة
عندما وصلت القوات البريطانية خلال الحرب العظمى الى بغداد في صباح يوم ١١ آذار سنة ١٩١٧، وجدت ان الجسر الوحيد في مدينة بغداد قد تم تخريبه من قبل القوات التركية المنسحبة وغرقت معظم أجزاءه.
ولم يكن هذا الجسر الخشبي المتهرئ صالح للأستخدام على اية حال. فالجسر المتين والجميل الذي قامت بتشيدّه مدرسة الصنائع في بغداد وتم نصبه في زمن الوالي نامق باشا سنة 1902 كانت قد سحب الى جبهة القتال قرب نهر ديالى في سنة 1916 لإستخدام القوات العسكرية التركية، وعندما تراجعت القوات التركية من تلك المنطقة تم أحراق الجسر بالكامل لمنع القوات البريطانية من الإستفاده منه.
قامت قيادة القوات العسكرية البريطانية على الفور باستدعاء فريق الجسور الهندسي العسكري، لنصب جسر مؤقت، للحاجة العسكرية والمدنية المللحة، في ربط طرفي مدينة بغداد. في فجر اليوم التالي، 12 آذار 1917، بدأ تفكيك احد الجسور قرب سلمان باك ومن ثم سحبه شمالا الى بغداد، واصبح الجسر صالحا" للعبور منذ الساعة الخامسة من عصر يوم 13 آذار. لم يكن الجسر يفي بمتطلبات عبور القطعات العسكرية المستمرة، وقد صاحب ارتفاع منسوب نهر دجلة، بعد نصب الجسر، حصول مشاكل يومية من أصطدامات وقطع الكيبلات، وسبب ذلك غرق احد المهندسين العسكريين وفقدان بعض المدافع، أضافة الى انقطاع الجسر بشكل متكرر. لذلك تم في 6 نيسان 1917، نصب جسر جديد بدلا عنه، طوفاته أكثر متانة، مصنوعة من الحديد، كان قد نقل الى العراق من مدينة كوتا (Kotah) في الهند، لذلك أطلق عليه الأنكليز بعد نصبه، اسم جسر " كوتا "، أو الجسر الشمالي. بينما كان يطلق البغادة عليه أسم "الجسر العتيق" تمييزا عن الجسر الثاني الذي نصبته القوات البريطانية الى جنوب منه، والذي عرف فيما بعد، باسم جسر " مود " أو الجسر الجنوبي. فبسبب حاجة بغداد المتزايدة للنقل بين الكرخ والرصافة، خصوصا للمتطلبات العسكرية، قامت أدارة النقل المائي في الجيش البريطاني بعد بضعة أسابيع بنصب جسر جديد بين ضفتي نهر دجلة الى الجنوب من الجسر العتيق في فسحة شريعة سبع آبكار في منطقة رأس القرية من جهة الرصافة و بساتين الصالحية في جهة الكرخ. تم جلب هذا الجسر من كرمة علي في شمال البصرة وأكتمل نصبه في نهاية شهر حزيران 1917. وبذلك أصبح في بغداد جسران.
بناء جسر " مو د "
في صيف سنة 1918، أدركت الأدارة العسكرية البريطانية في بغداد، بأن جسور بغداد ليست مؤهلة لنقل الاحمال الثقيلة التي تتطلبها مرحلة الاعمار والبناء التي تشهدها المدينة مع نهضة الحركة التجارية وتسارع النشاط الاقتصادي والتغيرات الاجتماعية الكبيرة في البلاد. إضافة الى ان هذه الجسور اصبحت ضعيفة امام الفيضانات والحوادث المتكررة، ففي نيسان من سنة 1918، ضربت احد المهيلات فتحة الجسر الجنوبي، فجنحت بعض الطوفات (الدوب) بعيدا مع تيار الماء، ادى الى انقطاع الجسر عدة ايام. فتقرر بناء جسر جديد متين بدلا من الجسر الجنوبي واطلق عليه اسم جسر الجنرال مود، قائد الجيوش البريطانية في العراق، الذي كان قد توفي بالكوليرا ودفن في بغداد في تشرين الثاني سنة 1917.
تم تصميم الجسر الجديد لحمولة تصل الى 15 طن من وزن المركبات العابرة، وهو يفوق قليلا من ثقل اية مركبة مستخدمة في العراق ذلك الحين. بلغ طول الجسر 1260 قدم (384 متر) بين الدعامات الساندة على طرفي الطوفات البالغ عددها 31 طوافة مصنوعة من الحديد، طول الطوافة الواحدة 34 قدم و 6 بوصات، وعرضها 12 قدم وارتفاعها 4 اقدام. ويرسي على شمال الجسر وجنوبه مجموعة من العوامات الثقيلة، ويرتبط الجسر عن طريق طوفات الأطراف برصيف عائم يمتد الى ضفاف النهر. ترتبط طوافتي الاطراف بين دولفين خشبي مع مفاصل دوارة يمكنها بالحركة بشكل عمودي فقط، وذلك للسماح بارتفاع وانخفاض الجسر حسب منسوب المياه، حيث تسمح لحركة عمودية بمسافة 22 قدم تقريباً. وذلك عن طريق اثنان من العوارض الممتدة الى 62 قدم ترتبط بمفاصل دوارة وتجلس على مساند على ضفتي النهر. هذه العوارض يمكن رفعها وخفضها في خلال دقائق.
عوارض سطح الجسر الرئيسية التي تربط الطوفات مع بعضها ترتبط بينها بمفاصل، وهي عوارض شبكية تم انقاذها من الجسر القديم بعد تقويتها وتوسيعها لتناسب الجسر الجديد. صمم عرض الجسر لسير المركبات بأتجاه واحد بسعة 10 اقدام و 6 بوصات، تتبعها على الجانبين قيود خشبية بعرض 6 بوصات، تعزلها عن ممرات المشاة على الجانبين التي تكون بعرض 3 قدم لكل جانب لمرور السابلة. بذلك يكون عرض الجسر الكلي بين مشبكات السياج من الجانبين، 17 قدم و 6 بوصات.
في الطوافة الاولى لضفة النهر اليسرى (في الرصافة) هناك مفصل خارجي، يربط الطوافة الاولى عن طريق وتد بطول اربعة بوصات، وعن هذا الوتد يمكن تحريك 11 من طوافات الجسر لتجنح شمالا بعكس التيار. وترتبط الطوافة رقم 11 عن طريق أثنان من الاسلاك المتينة عبر عتلة ثابتة بعوامة تبعد حوالي 40 قدم اسفل الجسر، أحد هذه الاسلاك يمر من تحت الجسر الى اسطوانة الساحبة (Winch) على بعد 700 قدم اعلى النهر من الضفة اليسرى، والسلك الاخر يربط الطوافة بالاسطوانة الثانية للساحبة.
تعمل الساحبة بمحرك بخاري وكذلك بمرجل يعمل بالزيت، وتتمكن بذلك من فتح واغلاق الجسر بمدة لا تتجاوز الثلاث دقائق، وتسمح فتحة الجسر، بعرض 270 قدم، لمرور السفن والمراكب بشكل مريح وأمين.
لا بد من الاشارة الى ان جميع الطوافات المستخدمة والعوامات والعوراض والاعمال الحديدية والخشبية والاسلاك وكذلك المحرك تم بناؤها وجمعها من السوق المحلية في بغداد ولم يتم استيراد اي قطعة سواء من الهند او من بريطانيا.
تم انجاز الجسر في غضون بضعة شهور فقط، وأفتتاح في أحتفالية كبيرة يوم 7 كانون الاول 1918، وتضمن الاحتفال، عبور الجسر بوحدة مدفعية تحمل مدفع 18 رطل، عبرت الجسر بسرعة تامة.
كانت كلفة بناء جسر مود باهضة مقارنة بالجسور الاخرى التي بنيت في العراق، فكان المبلغ الاجمالي 8,42,000 روبية هندية اي ما يعادل 56,133 جنيه استرليني، بينما لم يكلف الجسر الشمالي (العتيق) مثلا، سوى 1,13,700 روبية هندية، ما يعادل 7,580 جنيه استرليني. لذلك رفضت دائرة الحاكم السياسي في بغداد دفع هذا المبلغ الكبير لدائرة النقل المائي العسكرية التي شيدت الجسر. اولا للكلفة العالية، وثانيا انه لم يتم استشارة الادارة المدنية حول موقع الجسر. فمكان الجسر كما ذكرت الادارة المدنية، كان يخدم القوات العسكرية اكثر مما يخدم السكان، فهو بعيد عن الحركة التجارية لاسواق بغداد، فكان يفترض نصب الجسر قريبا من المركز المالي والتجاري في بغداد، بين شريعة المصبغة التي تقع نهاية شارع البنوك من جهة الرصافة ومنطقة الكريمات في الكرخ. وبعد امتناع الحاكم السياسي من دفع الاموال، اضطرت الادارة العسكرية على فرض رسوم للعابرين المدنيين والبضائع، لغير القوات العسكرية، لاسترجاع كلفة بناء الجسر.
خلال العشرين عاماً من عمر جسر مود، منذ نصبه سنة 1918 وحتى أزالته في سنة 1938، حين شرع ببناء جسر الملك فيصل الثاني الثابت الذي افتتح في سنة 1939، تعرض الجسر الى العديد من الحوادث، خصوصا في فترة الفيضانات في بغداد. ومن أهم تلك الحوادث هو ارتطام طائرة البريد الهولندية بالجسر في سنة 1929. حيث أشتبكت الطائرة بمجموعة من الاسلاك فوق النهر وسقطت لترتطم بين الطوفات في منتصف الجسر، ادى الحادث الى مقتل احد الطيارين الهولنديين واصابة الاخر بجروح بليغة، وعند محاولة سحب الطائرة تقطعت الحبال فغرقت الطائرة وتضرر الجسر تبعاً لذلك.
المصدر: المدى
الكاتب:علي أبو الطحين
745 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع