" سيمفونية الحنين لبغداد مقطوعة جميلة بلوحات الماضي بكل اشكالها ومقتنياتها"
تغمرك في المقهى حالة متناغمة من المشاعر والألفة عندما تجمعك بروادها، لا تدري لم تشعر، كأن الزمان الماضي مازال بذكرياته المتنوعة راسخا في الذاكرة، و تتلهف المشاعر بين الحب، والحزن، والبهجة، واليأس والأمل!، ربما لسبب واحد نعرفه في الغالب نحن العراقيون هو الغربة، ولهذا عندما نلتقي بأصدقائنا، جزء كبير من المحاورة يتجه في استرجاع ذكريات الماضي والحنين الذي يأخذنا إلى بغداد برموزها الخالدة في شتى المجالات السياسية والعلمية والفنية والاقتصادية والادبية وغيرها، ان الحنين إلى الوطن يعبر تحديدا عن هذا الشعور بالدفء، بالثقة والأمن الوجودي المنبعثين من مكان بعينه، إلا أن اختزال الحنين إلى الوطن بالحنين إلى المكان لا يفي الظاهرة حقها، فالوطن ليس مجرد رقعة اقليمية بل أيضا حيز اجتماعي، لهذا يفهم الحنين إلى الوطن بأنه توق إلى الوراء، شوق إلى البيت، إلى الأمكنة والأشياء المألوفة وبالدرجة الأولى إلى الناس وربما يزداد هذا حاضرا في ظل الأحداث والعولمة الذي ادى الى التشابك الاجتماعي الكثيف، إذن يتم الإحساس بالحنين إلى الوطن غالبا حين نشعر بالخسارة، بفقدان الأشياء المحبوبة والمألوفة والناس والأمكنة، وخاصة في اماكن الهجرة، وهناك مثلا تجربة فريدة يعانيها حاليا الملايين من العراقيين والسوريين والليبين، الكثير ومنهم في الداخل ان في بلدنا كان كل شيء رائعا، حتى انه منتشر أكثر في أوساط الشباب وذلك يرجع لعدة أسباب.. منها أن الواقع الذي يعيشونه الآن لا يحمل السرور والطمأنينة إلى نفوسهم، ولذلك فاللجوء إلى حالة الحلم واسترجاع الذكريات القديمة هو هروب من الواقع، في ظل مستقبل يصعب التنبؤ به، وسط تخبطات سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية صعبة، لم اكن اتصور أن يوما سوف اكتب به الالم لما يحصل في بغداد، لم اكن اتصور أن بغداد التي سكنت قصائد شعراء الغزل والحب ستستفيق يوما على نيران الاحتلال وما حدث بعدها، بدلا من صوت زقزقات عصافيرها ودجلتها وبساتينها وامكنتها، وابداعات مثقفيها وعلمائها ومهندسيها وعزتها وكرامتها، الحنين الى الذكريات ترسخ في العقل من لحظات حفرت في ذاكرتنا كصور وحرصت على مخيلتنا بربطها بكل المشاعر الجميلة التي ترافقنا منذ الطفولة، ذلك الشعور الذي نهرب اليه كلما مررنا بصعاب في سنوات الحياة، ولكي نبدأ الكتابة في مباهج الحنين يتوجب العودة الى الجذور.
المدينة هي مرآة الحضارات وهويتها، وإنها علامة الازدهار والتطور، وإحياء مفهوم المدينة هذه، هو إحياء للقيم والمعايير التخطيطية للمجتمع ، إذ لابد من تأصيل القيم العمرانية التراثية في المدن المعاصرة، ومن إعادة تكوين القاعدة الأساسية للقيم المعنوية وتأصيلها في المجتمع عن طريق الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية والإدارية، ولهذا شكلت المدن لب الحضارة وجوهرها، وتميزت في العصور المختلفة بتخطيطها وعمرانها اللذين مثّلا قيماً ومبادئ ومعايير مثالية، فالمخاطبات التي تدور بين الناس في الأحياء، والكلمات التي تتردد على الألسنة في الشوارع والمنازل، هي التي عكست هوية المدينة ورقيها الحضاري بوضوح، ولابد لأي مدينة في العالم أن تستمد تراثها الحضاري من البيئة التي تنتمي إليها.
وها هنا فبغداد الأعز والابهى وهي سينفونية متكاملة تحمل في ثناياها عظم الموسيقى والرقي، فيها عدة لوحات من المآثر والأحداث والأبتكارات في كافة المرافق، لها وقعها الرنان في اذني،
عندما أسمعه أشعر بمعزوفة موسيقية تتناغم وسيمفونيات عظماء الموسيقى بيتهوفن وباخ وموزارت، وعبد الوهاب والسنباطي والرحباتي..، مدينة يتحدث الجمال بإسمها، وتطرب العصافير لأجلها، صورتها كصورة العراق قوية وحاضنة للجميع، ورائداة في كثير من القطاعات والمجالات التي قطعت فيها شوطا لافتا على رأسها العلم والاعلام والفن والعمارة التي مزجت بين الطابع الأوروبي والتراث العراقي، وكذلك الطب والزراعة، كما يشمل فضاء الحنين قادة وشخصيات تركوا إنجازات فارقة في السياسية والاقتصاد والأدب والفن، ولعبوا دورا مهما في التاريخ العراقي وانحازوا لمعاني الكرامة والمواطنة، لا أعلم ما الشعور الذي ينتابني!! العزة! الفخر! الحنين! عشق الثرى!، كم هو عدد العلماء والرحالون الذين مروا ؟ عندما انشأت بغداد ومدارسها ومساجدها والأضرحة والآثار، إنها تتكئ على قرون من الحضارات، لذلك أنجبت العديد والعديد من الكفاءات والعلماء والاختصاصيين في شتى الحقول، في النهاية أصل إلى جواب واحد: أن بغداد جمعت كل هذا لتكون أسطورة رسمتها بمخيلتي منذ الصغر.
من شرفات العمر كلها، أفتح نوافذ البصر جميعها وأنظر إلى بغداد والخيال والشوق يداعبني، وصوت حزين يهزني ويطرب سمعي ايتها المدينة الحنون:
اعيديني طفلاً يلعب في المحلة بحثاً عن سعادته، أعيدي أحاسيسي البدائية و أولى النبضات
أعيدي إليّ أشيائي و مدرستي
أعيديني شابا يلهو ويضع حكايات غرامية و يرسم أحلاماً تعجز الأيام دونها،
اعيديني اشم رائحة الشاي الممتزجة برائحة هذه المدينة العريقة بأزقتها وحاراتها، ومآذنها، وأصوات الباعة الجوالة.
اعيديني لاسبح في دجلتها، واتمتع بجراديخها.
اعيديني لأن اجلس في مقاهيها في كرخها واعظميتها وكسرتها ورشيدها وسعدونها وابو نؤاسها، لاتمتع بشايها وقهوتها واعجب واتحاور مع جلسائها السياسيين والمثقفين واصحاب الشعر والفن الاصيل.
اعيديني لأصلي في جوامعها ومساجدها واذهب مع اصدقائي الى كنائسها واديرتها.
اعيديني لأحتفل برمضان وطقوسه النبيلة وافرح مع العائلة بالعيدين: الفطر والأضحى، وامارس ما يتوجب من عادات وتقاليد تليق بقدسيتهم.
اعيديني لأحتفل مع اصدقائي بأعياد الميلاد والسهر في منطقة المسبح والعرصات بأنتظار بلوغ العام الجديد.
اعيديني لأذهب الى محلات الأرمن وشراء الباسطرما في الشتاء من ايدي ارمنية تجيد عمل الباسطرما والكيك واللبن الرائب.
اعيديني لأذهب الى أبو نؤاس لاتلذذ بمسكوفها وأتسكع في باراتها.
اعيديني لأذهب لدور السينما لمشاهدة الأفلام في مناطق الرشيد والسعدون والاعظمية والكرخ.
اعيديني لأحسب كم هي اعمدة وبنايات شارع الرشيد لأتلذذ بهذا الشارع العريق.
اعيديني اتلذذ أكلاتنا الشعبية في مطاعمها المتنوعة واكشاكها وعرباتها المنتشرة لبيع التكة والفشافيش.
اعيديني استمتع بالجلسات الجميلة في نادي الصيد والمنصور والهندية والعلوية والجامعيين والاطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والاقتصادين والضباط والمعلمين والاعلام والمالية والبنوك..
اعيديني لأتفرج مبارايات الدوري العراقي في ساحة الكشافة وجلوسي مع المتفرجين والجمهور اشجع فريقي المفضل وأحي لاعبي المفضل، واعيديني لأتفرج لعبة العراق وبنفيكا في ملعب الشعب وكذلك الدوري وكأس الخليج.
اعيديني أذهب إلى الأسواق الشعبية وإلى المتاحف بحثا عن ذاتي، أستمع إلى رنين الشاي في الحوانيت والدكاكين التي تشبه طفولتي، تلك المرايا التي تبسط أمام عيني كل ثقافة الأمس، الجذور والامتدادات، التعلق ببيت الحكمة فجر الأنوار.
اعيديني لأشاهد واتلذذ بالشناشيل والبيوت التراثية، وهل ظلت على رونقها ام اصابها التلف والتهديم!.
اعيديني لأصرخ ان في بغداد ساهم التعليم والثقافة والفن والرياضة والموسيقى وكافة المرافق الأخرى، إسهاماً فعالاً في تبادل التآخي الثقافي الحضاري وتوثيق الصلات وتقوية عرى المحبة والصداقة والمودة وتسهيل التعاون والتقارب بين الناس على المستوى المحلي في البلد الواحد.
اعيديني لأستعيد سماع الأغاني الوطنية والمقام والبوذيات والبستات، وأغاني الرعيل الأول من قدامى الفنانين.
اعيديني لأشم رائحة الورود والشبوي وشجر النارنج ، ورائحة ترابك الندي المبلل بالمطر.
اعيديني لألبس بدلاتي التي خيطها درباب وهاروت واحمد خماس...
اعيديني لاتلذذ بطعم كرصة الخبز من التنور، تناولك اياها المرأة وهي تشجر في الراشدية والفحامة عند التنزه هناك.
اعيديني لأزور بساتين بغداد واطرافها مع الاصدقاء وحلاوة البرتقال واللالنكي والنومي حامض الأخضر.
اعيديني لأذهب الى قناة الجيش او نادي صلاح الدين لأشارك وارقص في اعياد نوروز.
اعيديني لاسترجع ماكتبه الباحث فرانك ميرمييه عن "المدينة والكتاب" بدأ بعبارة "مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ، لأذهب الى سوق السراي ومكتبة الفلفلي ومكتبة مكنزي ومكتبة قاسم الرجب، لأقتني الكتب واستمتع بقرائتها، حيث فاتني اقتنائها او قرائتها في حينها.
اعيديني لاسترجع ماشاهدته من لوحات لمبدعي الرسم وفنانيه الكبار، والنصب والتماثيل لمبدعي العلم والمعرفة والشعر وقصص الف ليلة وليلة والحرية والجندي والأم..، والتي صممها ونفذها كبار فناني النحت في العراق.
إنقشيني صورة أبدية على جدرانك القديمة.
لو بقي الجواهري حيا لكتب أجمل من ''يادجلة الخير''، لو بقي حيا قليلا جدا لأبدع في الحزن والموت والعبث والتمزق، وام كلثوم وكيف اصدحت بصوتها العذب "بغداد ياقلعة الاسود ومنارة المجد التليد: ..، مايعيشه البغداديون كأن الرصاص مستقبلهم.
من لي ببغــــداد أبكيها وتبكيني؟ عبد الرزاق عبد الواحد دمع لـِبـغـــداد .. دمعٌ بالـملايـيــنِ من لي بـِبـَغــداد أبـكـيها وتـَبـكيـني؟ مَن لي ببغداد ؟ هذه قصيدة رائعة لا يمكنني الا وأن اقتبسها لجمال كلماتها ومعانيها وشموخها.
تلك هي مدينتي البهية بـإطلالتها القيمة والخالدة، بغداد التي تغنى بها الشعراء على القرون، نظموا القصائد بسحرها وجمالها، جمال الكلمات هو الحديث عنكِ، و ما يحصل الآن فيها، فإن استحضار الماضي هو نوع من العودة للفردوس، ما اجمل ان يحن الانسان لمدينته ووطنه مهما طالت بنا الغربة، وسوف يبقى حنين الشوق يلاحقنا، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
1633 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع