مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء الحلقة السادسة
اكتشاف البيبسي كولا !!
كانَ زبائن السيد نصر الله يتوزعون على منازل عديدة في حالة نقص المكان في الفندق وخاصة في مواسم الزيارات وكانت إحدى العوائل الهندية المترفة قد احتلت إحدى هذه النزل.. كانت هذه العائلة لديها الكثير من الأولاد والبنات وطلبوا من الوالد اللقاء بنا أي أنا وشقيقي هاشم رحمه الله. زرنا تلك العائلة الهندية وكانوا على مأيبدو من الأثرياء وعندما حان وقت الغداء اكتشفنا أنواعا وألوانا من الرز لم نألفها من قبل كالبنفسجي والأصفر الزعفراني والأبيض والأحمر بالفلفل وبالسكر!! ثم قام رب العائلة بتوزيع قناني البيبسي على أفراد العائلة وكانت تلك المناسبة هي المرة الأولى التي نذوق فيها طعم الببسي... كان ذلك في عام 1952!! لقد أحسست منذ ذلك الوقت بالفوارق الاجتماعية والطبقية.. هناك أطفال في النعيم والعز وهناك أطفال في الجحيم والذل!! بغض النظر عن المكان والزمان!
يطغى النعيم بجانب
وبجأنب يطغى الشقا
فممزق ومضيع
في القصر أغنية
على شفتي الهوى
وفي الكوخ دمع
في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرع
وبجنب زق أبي نؤاس ضيع
رحم الله الشيخ أحمد الوائلي
الهجرة الثالثة
لم يكن الوالد راضيا بهذا الاستغلال البشع ففي حين ترتفع تكاليف المعيشة دون أي مواكبة في زيادة الدخل حتى بلغ السيل الزبى وهنا طالب والدي بزيادة طفيفة بمقدار درهم واحد في اليوم أي من خمسة دراهم إلى ستة! إلاّ أن السيد نصر الله رفض هذه الزيادة بذريعة الاضطرار إلى شمول الآخرين من العمال في حين وافق شريكه السيد جواد على منحه الزيادة تقديرا لإخلاصه وأمانته ولما يئس الوالد من هؤلاء الناس أصيب بخيبة أمل كبيرة مست كرامته وأفقدته صبره. لم تمض فترة طويلة على رفض الزيادة إلاّ واختفى الوالد فجأة من كربلاء. ذهبت لأسأل عنه زملاءه في الفندق فلم يعلموا به ثم ذهبت إلى السيد جواد الذي كان متعاطفا مع والدي استفسر عن الوالد فقال أنه قد سلمه مفاتيح "القاصة" وذهب إلى حمام البغدادي وهو حمام عمومي معروف في كربلاء ولم يعد له وجود! ذهبت أبحث عنه في كل حمامات كربلاء فلم أجد له أثرا, ثم ذهبنا نفتش عنه في المستشفيات ومراكز الشرطة في كربلاء فلم نجد له أي خيط يدلنا عليه... لم يعد لنا أي منفذ نذهب إليه بقينا إلى جانب الوالدة في الشقة الصغيرة بانتظار الفرج في معرفة أخبار الوالد! مضت الأيام كئيبة وحزينة حتى أطل الوالد علينا فجأة في ليلة قارسة البرد وهو يحمل إلينا كيسا كبيرا من الفواكه الغريبة: موز وبرتقال ولالنكي وتفاح! لم نكن نعرف من قبل هذه الفواكه, كانت تلك الليلة نقطة تحول كبيرة في حياتنا, فهي أول مرة نستمتع بها بمبيت الوالد معنا في الدار ولأول مرة نذوق طعم الفواكه الراقية. على كل حال المهم لا عودة للخلف رغم أن نصر الله وافق على الزيادة ولكن الوالد لم يعد يرغب في الاستمرار معهم.
قصة الفرار:
في تلك الليلة قص علينا الوالد عملية هروبه من كربلاء عبر الحلة وقد سلم مفاتيح القاصة إلى السيد جواد آل طعمة تحت غطاء الاستحمام! وبعد مساعدة بسيطة من أحد أصدقائه في الحلة توجه إلى بغداد حيث يقيم فيها أخوه من والده السيد محسن أصغر إخوته. هناك في بغداد استقبله شقيقه وعائلته بحفاوة وشجعه على الانتقال إلى بغداد سيما وأنه بحاجة إليه في العمل صباحا في دكانه القريب من داره حيث أنه مشغول في الصباح في الوظيفة إذ كان يعمل ممرضا في مستشفى الرشيد العسكري برتبة عريف, كان عمي محبوبا لدى الجميع في المستشفى وفي العيادة المتواضعة, كان دمث الاخلاق, كريم النفس, حسن الخلق, عاد والدي إلينا عالي المعنويات ترتسم على وجهه أمارات الرضا والتفاؤل بفضل دعم أخيه المعنوي وفعلا شددنا الرحال إلى بغداد وحزمنا إلحقائب إلاّ أن الاّقدار أخرت السفر! عندما سمع أخوه من والدته والمقيم معه في كربلاء منذ طفولته السيد صالح الحكيم عز عليه فراق والدي بالانتقال إلى بغداد! واقترح عليه عدة مشاريع من بينها فتح مخبز أو العمل في وظيفة حكومية....إلخ وكلها باءت بالفشل إلاّ مشروع مخبز التموين... واستحصال الإجازة وقد استغرقت هذه المعاملة أكثر من أسبوع حتى تم فتح المخبز.. فقد كانت نفقات الصرف على المخبز أكثر من الإيراد بسبب كثرة عدد العمال وقلة البيع رغم رخص الرغيف وجودته ومع ذلك كان نصيبنا في البيت استهلاك الخبز المحروق والتالف... حتى وصل المخبز إلى حافة الإفلاس فتركه الوالد ليتوجه إلى بغداد بعد عدة أشهر ّّفيما كان عمي محسن المسكين ينتظر قدومنا في بغداد حتى يئس منا!
الفصل الثاني
النزوح إلى بغداد
أخيراً قرر الوالد حزم الحقائب والأمتعة وقرر السفر إلى بغداد فاستأجر باصا خشبيا كبيرا استوعبنا مع مستلزماتنا البيتية من فرش وألبسة وأوان إلخ وتركنا كربلاء صبيحة يوم بارد من شهر آذار 1954 ووصلنا بغداد ظهرا بعد أن عبرنا لأول مرة جسر الصرافية فالوزيرية ثم باب المعظم فشارع طه قبالة سوق حنون في الرصافة. كانت دار عمي تقع في الحيدرخانة بالقرب من دار المعلمات ولما كان الشارع المؤدي إليه ضيقا اضطر الوالد إلى استئجار عربة دفع لنقل أثاثنا إلى بيت عمي الذي فوجئ بقدومنا!! كان قد يئس من قدومنا وألغى إجرءات السكن والعمل وإذا به يجد نفسه أمام الأمر الواقع! كان استقبال عمي لنا باردا ويبدو عليه الامتعاض من تصرف والدي الذي لم يبلغه بالتغييرات التي حصلت ولا بموعد قدومنا. على كل حال تكدسنا نحن وأمتعتنا في الدار الصغيرة لعمي فكانت ليلة ليلاء حتى انبلج الصبح. كان الظرف حرجا جدا مما أدى بعمي إلى الطلب من والدي ترك الدار بأسرع وقت ممكن حفاظا على حسن العلاقة خاصة وأن زوجته قد هددته بترك الدار إذا ما استمر الحال على ما هو عليه. أمام هذا الموقف اضطر والدي للبحث عن أي مكان يؤينا فيه حتى وجد غرفة صغيرة في نفس المنطقة تكدسنا فيها سريعا.
منطقة الحيدرخانة في شارع الرشيد كانت بداية السكن عند وصولنا بغداد في خمسينات القرن الماضي... للأسف لم نطرد من الدار فقط وإنما طرد والدي من الدكان أيضا بحجة ضعف المورد وكثرة المصروفات. فكان على والدي في هذه الحالة أن يبدأ البحث من جديد عن العمل في بغداد وكيف يجد العمل وهو لا يحمل أي تحصيل دراسي وليس لديه رأس المال الذي يساعده في الكسب والارتزاق ولا يعرف من الحرف سوى تنظيف التبوغ وعمل السكائر الشعبية "المزبن" وهنا بدأت مرحلة جديدة من الكفاح من أجل لقمة العيش.
مجابهة الحياة مع والدي في بغداد
لقد تخلى الأهل في بغداد عنا وتركونا نواجه الحياة لوحدنا في مدينة كبيرة ونحن غرباء فيها, وليس لدينا المال الكافي للعيش لحين إيجاد العمل فاضطر الوالد إلى ممارسة مهنته في تنظيف التبوغ وعمل السكائر في أحد دكاكين التبوغ عند صبري "التتنجي" بالقرب من جسر "العتيق" من جانب الرصافة, الشهداء حاليا, بدأ الوالد العمل في الخان القريب من الدكان وكنت معه أراقب ما يفعل, كان رحمه الله يفتح رزمة التبغ الكبيرة "بالة" ويعزل القش عن أوراق التبغ فينبعث منها غبار كثيف خانق في ذلك المكان المظلم في الخان ثم يقطع هذه الأوراق إلى أجزاء صغيرة بحيث تدخل في جوف السكائر وهذه العملية كانت تستغرق النهار بأكمله مقابل دراهم معدودات, وأتذكر جيدا عندما كنا نخرج من هذا الخان في العودة إلى المنزل كان كل من في الشارع يرثي لحالنا من شدة الاصفرار على وجوهنا والغبار على ملابسنا وكأننا خارجون من القبور! استمر الوالد لفترة في هذا العمل عند هذا "التتنجي" وعند ذاك في الجانب الآخر من الجسر وأنا معه أساعده قدر استطاعتي في غلق رؤوس السكائر, ولما تعب الوالد من هذا العمل المضني والخطير على الصحة وخاصة على الرئتين والقصبات اضطر للبحث عن عمل آخر مستعينا بأهل الخير من الناس.... في هذه الأثناء أي في نيسأن 1954 تعرضت بغداد إلى الفيضان وكسرت السدة رغم محاولات الحكومة لدرجة أن الملك فيصل الثاني رحمه الله شارك في حملة إنقاذ بغداد وقد رأيته بأم عيني ينقل أكياس الرمل إلى شاطئ دجلة في منطقة "الشواكة" بالقرب من مقهى البيروتي في بادرة لتشجيع الناس على حماية بغداد من الغرق!
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/ayamwathekreat/21342-2016-01-17-23-47-04.html
المصدر:المشرق
762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع