حين عزمت على كتابة انطباعاتي عن المعالم الثقافية والفنية الغائبة في بغداد والتي كانت زادنا الروحي وضرعنا الذي ننهل منه الجمال والابداع ؛ قررت مع نفسي ان ازور ماتبقّى من أثَر لها وأمرّ على اماكنها وربما اطلالها واكتب عنها ما يعتور في نفسي واتذكر ايام الفتوة والصبا وملاعب الشباب الباحث عن المعرفة والفن الراقي .
لااخفيكم انني بكيت بكاءً مرّا عندما وقفت على طلل محلات چقماقچي المنزوي في اخر شارع الرشيد وعلى بعد بضع خطوات من مدخل شارع ابي نؤاس ، تطلّعت من خلال الزجاج الامامي للمبنى الذي كان غائما بسبب التراب ومغلقا بمشابك حديدية لكني استطعت ان ارى بوضوح آلة الكرامافون الرابضة على احد المناضد وقد علاها الغبار الكثيف ويبدو ان لا احد قد همّ بفتح المكان منذ عدة سنوات بسبب الصدأ المتراكم على الاقفال والاتربة والاوساخ التي طغت على الاجهزة المتبقية في المحل والتي لم تمتدّ اليها ايدي العناية منذ امدٍ طويل جدا لكنني اصررت على طبع قُبلة على ضريح تلك الموسيقى والغناء الذي أطربنا وأسعدنا يوما ما ، وكانت قبلتي من وراء زجاج المبنى غير انها لامست كل مشاعري وحرّكت كل شجوني واعادتني الى بيتنا القديم وطاولة ابي الذي وضع كرامافونه تماما كالذي اراه الان وانا اتطلع الى مثوى جقماقجي وقبره المنسي وتساءلتُ مع نفسي ؛ ما الذي تفعله اسطوانة جقماقجي امام القفزة الهائلة في عالم التسجيلات بدءاً من الكاسيت الى البلوتوث مرورا باقراص السي دي سوى ان تقبر نفسها منزويةً في اخر شارع الرشيد وتتطلع الى مياه دجلة باكية ناحبة،وقد عافها مريدوها الاوائل وصارت نسيا منسيا ؟؟
وللحديث عن تأريخ شركة جقماقجي نذكر ان بداية تأسيسها كانت العام /1918 ولكنها لم تكن تتخصص بالفن والموسيقى والغناء اول الامر ؛ انما كانت تقوم باستيراد بعض المواد التي لها علاقة بالغناء والموسيقى وبيع اسطوانات شركة "بيضافون " دون القيام بعمليات التسجيل التي برعت بها لاحقاً ...
ثمّ تطورت وقامت ببيع الحاكي ( الكرامافون ) الذي يعمل بواسطة تدويره باليد لكي يواصل الكلام او الغناء مما نسميه في العراق بلهجتنا الدارجة " التكويك " واجزاء اخرى من الاجهزة الكهربائية البسيطة التي وصلت العراق في اول عهده بالكهرباء كما قامت باستيراد الاسطوانات التي توضع وتركّب على الحاكي وعلى نطاق واسع والتي بدأ الغرب بصنعها من الحجر وهو الابتكار الاول في عالم صناعة الاسطوانات حيث الحجر الاصمّ الصلد يتفتق ويصدر الحانا عذبة وشجية ترخي الاعصاب وتبعث السعادة والهناء والاسترخاء والخدر في النفوس...
فلا عجب ان جذوة الجمال وحرارة الشدو يصهر حتى الصوان ويجعله يقطر عذوبة واغانيَ شجية مثلما فطرَ قلب مالك الشركة الحاج فتحي جقماقجي وجعله يعشق الغناء والوتَر الساحر وهو الذي كان قد تمرّس باصلاح وصيانة الاسلحة القاتلة الفتّاكة يوم كان يعمل في الجيش العثماني يقوم بادامة وصيانة البنادق والمدافع والمسدسات البدائية الصنع
فهذا المنعطف في حياته نحو مواطن السحر والجمال جعله يستثمر ماعنده من مال ليتجه الى صناعة الموسيقى وبثّ الغناء والشدو وترك ادوات القتل والدمار والموت ليعيد الى الناس الحياة والبهجة والمسرات ، كيف لا وهو ابن الموصل الحدباء ومن منبت ابراهيم الموصلي عبقري الغناء والالحان الخالدة
وصاحبنا فتحي جقماقجي هذا شدّ رحاله الى بغداد مع اسرته ليعيد اليها شيئا من العصر الذهبي يوم كان زرياب يصدح مع مغنيات بني العباس ويملأ الاركان غناء يلهب الروح ويرعش البدن وسرعان ماذاع صيته واقبل الناس على شراء اسطواناته وعمل على تأسيس استوديو خاص به في منطقة البتاويين وكان هذا الاستوديو اكثر سعة وتقنية من الاستوديو الصغير الذي أنشأه اول الامر في ( عقد النصارى ) وتم استئجاره بالتعاون مع احد مهندسي الصوت العاملين في دار الاذاعة العراقية وهو السيد ناجي صالح وبصحبتهما الموسيقار المبدع جميل بشير بعد ان فتح محلا صغيرا في منطقة الحيدرخانة العام/ 1948 ويجذب اكثر المطربين ويسجل اغانيهم باسطواناته التي كانت تباع بكميات كبيرة .
ومن ذلك الاستوديو صدح صوت مطربي بغداد مثل محمد القبانجي ورشيد القندرجي وسليمة مراد وزكية جورج ومنيرة الهوزْوز وانصاف منير ورضا علي وناظم الغزالي وغيرهم الكثير مما يصعب حصرهم كما سجّل اغاني مطربي الريف العراقي امثال...
داخل حسن ومسعود العمارتلي وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم ولميعة توفيق ووحيدة خليل وزهور حسين و...و...
بالرغم من ان العراق كان سبّاقا للكثير من الدول العربية وغير العربية في التأسيس المبكر لدار الاذاعة اللاسلكية وانتشار موجات الراديو وسماعها في اكثر بقاع بلاد الرافدين حتى البعيدة منها والذي كان لايخلو من نشر العديد من الاغاني والموسيقى الى السامعين في اوقات متفرقة بالاضافة الى الاخبار والتمثيليات الاذاعية والنشاطات الاخرى لكنه لم يكن بديلا ومنافسا لشركة جقماقجي وعجز عن تحويل انظار الناس اليها بل كان شريكا وفيا لها في تغذية ارواح السامعين وفتح آفاق عقولهم وتنويرهم...
لم يكتفِ العمّ فتحي بجمع مطربي العراق ونشر ابداعاتهم الغنائية وكان ولداه نجم الدين وعبد الله هما جناحاه الطائران الى القاهرة وبيروت ودمشق وحلب بين حين واخر ليجلبا احدث الاسطوانات لاشهر المطربين من مصر وسوريا ولبنان والتي كانت تلك الاسطوانات الحجرية تطبع في اليونان وبعض دول اوروبا بعد ان يتم تسجيل الاصوات في تلك المدن اولا ثم ترسل الى الخارج لاجل طبعها .
واتذكر ابي يوم كان يقصد بغداد وبحوزته اسطوانات سيّد درويش ومحمد عبد الوهاب وام كلثوم وفريد الاطرش واسمهان وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب ووديع الصافي وحليم الرومي مع تلاحين الاخوين رحباني المجددين لروح الغناء العربي وقتذاك ، ليس هذا فحسب بل اهتمت شركة جقماقجي بتسجيل اصوات خيرة المنشدين وقرّاء القرآن الكريم والموشحات ويندر جدا ان يخيب سعيك حينما تطلب اسطوانة منه حتى للمطربين قليلي الشهرة حتى ان دار الاذاعة العراقية كثيرا ما كانت تستعين بها حينما لم تجد في ارشيفها - رغم سعته – عند تقديم بعض برامجها الغنائية كما كانت مرجعا لطلبة المعاهد الموسيقية كمعهد الدراسات النغمية اذ كان خزينها الموسيقي هائلا وتحتفظ بأندر التسجيلات غير المتداولة
وقد شهدت تسجيلات جقماقجي تطوّرا ملفتا للانظار بعد ان آلت ادارتها الى السيد سمير الحفيد الوفيّ للجد فتحي جقماقجي بسبب تعلّقه بالموسيقى الغربية وبالاخص الكلاسيكية منها الى جانب الموسيقى الشرقية والعربية على الاخصّ ، ففي الثمانينات بدأنا نسمع السيمفونيات الباهرة للعمالقة...
باخ وبيتهوفن وهايدن وجايكوفسكي وأخذتنا السوناتات الى عالم آخر لم نألفه من قبل ولم تعتدْ عليها اسماعنا فصرنا نهيم ببحيرة البجع والف ليلة وليلة وحلاّق اشبيلية ومعظم سيمفونيات صانعي الموسيقى الغربية بعد شيوع عالم الكاسيت الصغير وانتشار اجهزة التسجيل حيث واكبت هذه التطورات في اتساع الثقافة الموسيقية ولم تعد تقتصر على النخبة وكانت شركة جقماقجي في الصدارة لمواكبة تلك القفزات السريعة في نشر الابداع الموسيقي على اوسع نطاق
ونظرا لاهمية هذا الصرح الفني الذي حفظ الكثير من الكنوز الغنائية منذ تأسيسها المبكر فقد عرضت الحكومة الكويتية اواسط السبعينات شراءها وقدّمت مبالغ مغرية للغاية للسيد سمير جقماقجي لكنه رفض هذا العرض وفضّل عدم اضاعة تلك الثروة الموسيقية الهائلة باعتبارها إرثا حضاريا موسيقيا يخصّ العراق عموما وعائلة جقماقجي بالاخص .. وفي اواسط التسعينات من القرن الماضي بدأ النزع الاخير يدبّ في اوصالها ولم تعد تقف على قدميها امام السيل العارم من دكاكين الموسيقى واتساع ثورة الكاسيت بغثّها وسمينها فتمّ اغلاقها وتصفيتها . والحق انها كانت بمقدورها ان تستمرّ وتواصل عطاءها لولا الاهمال المتعمد من لدن القائمين على حفظ التراث الموسيقي العراقي الاصيل بمقاماته والذي أرسى اسس الموسيقى العربية وتعلّم منها كبار موسيقيي العرب والموسيقى الشرقية عموما
اجل سفحت دمعة حرّى يوم زرت اطلال شركة جقماقجي وانا اقوم باعداد هذه المقالة وبكيت قبلها أيضا يوم احتلت بلادي العام/2003 ونهبت آثارها ولا اعلم هل سأبكي ثالثة على اثَرٍ عزيز ضائع في مقبل الايام في هذا الزمن الوغد العاثر ، من يدري !!؟
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع