لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق..(عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر)
تمهيد : لكي تكون وقائع هذه اللمحات التاريخية أكثر وضوحا داخل إطارها الزماني والمكاني وجدنا بداية أن ننقل للقاريء واحدة من أحداث ذلك الزمان مما له علاقة بالمرأة، لكي نتعرف على واقع المجتمع آنذاك والأعراف السائدة فيه :
(بناءا على الطلب السلطاني الصادر عن دار الخلافة الإسلامية في إستنبول عام 1904 أراد والي بغداد عبد الوهاب باشا أن يشمل النساء في عملية الإحصاء السكاني، ومنح كل واحدة منهن تذكرة عثمانية (هوية أحوال مدنية) إسوة بالرجال. ولما شاع الأمر بين أهالي بغداد قامت قيامتهم لما يحتفظون به من تقاليد موروثة وعادات عربية معروفة معتبرين هذا الأمر الذي أقدم عليه الوالي يمس شرفهم ويحط من قدرهم وكرامتهم.
أهالي بغداد في احدى المظاهرات
فخرج الرجال من أهالي باب الشيخ والصدرية ورأس الساقية وفضوة عرب وبني سعيد والفضل ومناطق الكرخ يتقدمهم السيد أحمد أفندي النقيب ومعه رؤساء المحلات معلنين السخط والإستياء، تتقدمهم الأبواق والطبول والدمامات، مسلحين بالبنادق والمسدسات والسيوف والخناجر والقامات والهراوات، مع أهازيج شعبية وهوسات بغدادية، ليصطدموا مع الجندرمة قبل أن يقصدوا سراي الوالي الذي لم يخرجوا منه إلا بعد أن قرر تراجعه عن أمر التسجيل، فرجع الجميع يهتفون ويتغنون بتقاليد العرب المتوارثة).
أمدتنا هذه الرواية بصورة واقعية عما كان عليه مجتمع بغداد آنذاك، وعلينا أن نتصوّر الآن جسامة الأمر وخطورته بالنسبة لناشطي حركة التحديث ودعاة تحرير المرأة.
إن كفاح المرأة في العراق هو جزء من مسيرة تاريخية طويلة قطعتها المرأة في معظم بلدان العالم من أجل مناهضة التمييز الإجتماعي ضدها، فقد حفظت لنا الكتب والوثائق والمكاتبات والسير الذاتية لمؤرخين وسياسيين وأعلام فكر عراقيين العديد من القصص والوقائع التي أرخت لتاريخ الحركة النهضوية التي قادها المتنورون العراقيون لدعم عصبة من النساء العراقيات من أجل نيل حقوقهن المستلبة والتحرر من القيود التي فرضها الجهل الذي كان ينخر بجسد الأمة العراقية.
سوف نستعرض في بحثنا هذا بعض من فصول ذلك الصراع التاريخي الطويل وذلك الكفاح المرير الذي إمتد لأكثر من خمسين عام منذ طلائع القرن العشرين، بين دعاة التجديد وتحرير المجتمع من براثن التخلف لكي يواكب العصر الإنساني المتحضر، وبين المتعصبين وغلاة الداعين الى إبقائنا وإبقائها (أي المرأة موضوعة البحث) في العصور المظلمة، صراع تمكنت فيه قوى التحرّر والتحضّر والمدنّية من تحقيق الكثير من أهدافها، قبل أن تتوقف عجلة الزمن مرة أخرى وتهزم المدينة والمدنية بعد العام 1968، إثر إستيلاء زعيم ذو نزعات فاشية ويحمل قيم بدوية متخلفة على مقدرات بلد متحضر، ليدخل العراق مرة أخرى في سبات مظلم ولتدور – منذ ذلك الوقت والى اليوم - عجلات كل المفاصل الإجتماعية الى الوراء.
وحده التاريخ هو الفيصل ووحده من يسجل في صفحاته عِظم الأسماء التي تقف بوجه الظلامية والعفن الفكري والتخلف والجهل، برغم كل الظروف المساعدة على إبقاء تلك العلل الإجتماعية والأمراض الذهنية التي تحقق مأربا وقتيا هنا أو مأربا وقتيا هناك، ذلك أن ساحة العصر الإنساني الحديث لم تعد تتسع بعد الآن لمثل هذه الظلاميات.
سنعود في عرضنا التاريخي البسيط هذا الى مطلع القرن الماضي لنقف على بدايات ذلك الصراع، بين التخلف والتحضّر، والجهل والتنوّر، والعبودية والتحرّر، لنقف على أهم الوقائع التي أشرّت لموضوع تحرير المرأة ومنحها الحقوق الإنسانية.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الإستخلاف العثماني – الملقب آنذاك بالرجل المريض – على يد الإستعمار البريطاني!!، وفي وسط حراك سياسي وإجتماعي غير مسبوق بأكثر من إتجاه، بدأت قوى شبابية تنويرية متأثرة بالتطور والتقدم الذي أصابه العالم المتحضر بالتطلع الى خلع رداء الإنحطاط والتخلف الذي كان المجتمع العراقي قد إبتلى بهما على مدى قرون غير قليلة، ولما كانت المرأة هي أبرز وأوضح ملامح ذلك التخلف، فكان من الطبيعي أن تشكل موضوعة حقوقها محورا مهما في أنشطتهم.
عندما أعلن الدستور العثماني في تموز 1908 وأقيمت المهرجانات إحتفالا بهذه المناسبة خيّل للشاب الأستاذ في مدرسة الحقوق جميل صدقي الزهاوي إن الفرصة مؤاتية ليطلق أفكاره التحررية فنشر في جريدة المؤيد المصرية وتحت إسم مستعار مقالته الشهيرة حول ضرورة تحرير المرأة من عبوديتها، داعيا المحاكم الشرعية الى منحها حقوقها إسوة بالرجل مستشهدا بالآية القرآنية الكريمة (ولهن مثل الذي عليهن)، وما إن وصلت هذه الجريدة الى بغداد وإطلع عليها الأهالي حتى ماجت الأرض بأهلها، ولم نعرف من وشى بأسم الكاتب الحقيقي، ليتعرض الى ما تعرض إليه الزهاوي من إعتداء وهجوم عنيف من قبل خصومه ما دفع بـ (ناظم باشا) والي بغداد أيامئذ الى فصله من وظيفته تحت ضغط الجماعات المتشددة على الرغم من تراجع الزهاوي وإنكاره لتلك المقالة بعد إهدار دمه).
يصف المؤرخ خيري العمري حال المرأة في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين بقوله (كانت المنطقة غارقة في سبات عميق من الجهل، منكمشة على أعراف بدوية وقيم إجتماعية لا تكاد تعطي للمرأة أية قيمة إنسانية، بل كانت المرأة تعيش على هامش الحياة وراء جدران عالية من التقاليد وحواجز مرتفعة من العادات البالية، لا يسمح لها أن تطل على العالم إلا من خلال ثقب بباب أو برقع ونقاب، بل كانت المرأة (عورة) يجب أن تستر بستار كثيف من عبائتين وعلى الرجال أن يتحاشوا الإشارة إليها في مجالسهم خوف الفضيحة وخشية العار).
(كان عالم النساء في ذلك الزمان عالما مستقلا إستقلالا تاما عن عالم الرجال، كانت الحدائق العامة ولاحقا دور السينما والنوادي تحدد أياما معينة وأوقات خاصة للنساء مراعية في ذلك إسلوب الفصل الإجتماعي الذي كان متبعا، بل حتى البيوت كانت مقسمة بين ما يسمى بـ (الحَرَمْ) وهو مخصص للنساء وبين الديوان خانة وهي المخصصة للرجال).
كانت الدعوة الى السفور جزءا من مطالب إصلاحية عديدة كان دعاة النهضة والتجديد قد تبنوها دفاعا عن حقوق المرأة، وبرغم كل ما لاقته هذه الدعوات من مقاومة عنيفة لم يتمكن المتعصبون من وقفها، إذ سرعان ما تطورت الأوضاع الدولية والإجتماعية وزال نفوذ الخلافة العثمانية وإزدادت صلة العراق بالعالم الخارجي بحكم تطور وسائل الإتصالات والمواصلات.
في شباط عام 1922 أقام المعهد العلمي ببغداد مهرجانا شعريا عرف بأسم سوق عكاظ ورأى بعض منظميه أن تساهم الفتاة العراقية فيه،
فعارض ذلك بشدة رجل الدين المعمم عبد الرحمن الكيلاني النقيب رئيس الوزراء آنذاك لاسيما وإن الفتاة التي وقع الإختيار عليها هي حفيدة الشيخ أحمد الداود الذي درس على يده الأحاديث وأصول الفقه، فثارت ثائرة المتشدّدين ونظموا حملة للتنديد بالمعهد وهدر دماء القائمين عليه.
لعل حادث الإعتداء الذي كاد أن يتعرض له الشاعر معروف الرصافي في آذار من العام نفسه خير ما يعكس سطوة القوى المحافظة، ففي حفلة تمثيل قدمت على مسرح سينما (رويال) هاجم الرصافي المحافظين والمتعصبين هجوما عنيفا في معرض دفاعه عن حقوق المرأة بقصيدة طويلة من أبياتها :
لقد غمـطوا حق النسـاء فشــدّدوا
عليـهن في حَسَـبٍ وطول ثواءِ
ألم تَرَهُمْ أمســـوا عبيـداٌ لأنـــهم
على الذلِّ شبّوا في جحورِ إماءِ
أقول لأهل الشـــــرق قولَ مؤنبٍ
وإن كان قولي مُسْخِط السـفهاءِ
(وأقبحُ جهلٍ في بني الشرق إنهمُ
يُسـمون أهلَ الجهلِ بالعلماء)
وراحت جريدة دجلة تنظم حملة عنيفة ضد الرصافي وقام رجال الدين برفع المضابط وإصدار الفتاوى بتكفيره إلا إن الرصافي كان أوفر حظاً من الزهاوي إذ هَبّ أنصار التجديد الذين إزداد عددهم الآن الى نصرته ومعاضدته، لما لهم من الجرأة ما خفـف من وقع موجة التأليب ضده، رافق ذلك نشر الصحف للعديد من المقالات المطالبة بتعليم المرأة ورفع الغبنِ عنها.
يروي أحد أبرز المدافعين عن حقوق المرأة العربية المفكر اللبناني (محمد جميل بيهم) في كتابه فتاة الشرق، أنه زار بغداد عام 1923 فكلفه منتدى التهذيب إلقاء محاضرة عن حقوق المرأة، يقول (بيهم): وما إن شاع الخبر حتى خفَّ لزيارتي السياسي (ثابت عبد النور) ناصحا أن أتراجع عن ذلك خشية إغتيالي فلم أبالي بذلك وأصررت على إلقائها, فكانت محاضرة ناجحة ولاسيما أن حضور السيدات كان كبيرا، برغم الحظر الذي فرض عليهن.
بدأت الحركات النهضوية الداعية الى الثورة على الجهل والتخلف تنمو في العراق حاملة راية التحرر وداعية الى اللحاق بركب التطور الذي غزا العالم، وكان لابد للمرأة العراقية من أن تتأثر بتلك الدعوات سياسية كانت أم إجتماعية
، فكانت المرأة حاضرة مع أول ظهور لحركات التحرر في العراق التي حمل لوائها السياسي اليساري الرائد (حسين الرحال)، فمضت تتحمل مسؤوليتها الوطنية للدفاع عن الحقوق الإنسانية لمجتمعها بأكمله، قبل أن تبدأ المناداة بحقوقها وحرياتها أو تعمد الى تشكيل جمعيات نسائية خاصة بها أو منظمات مدنية تعنى بشؤون الأسرة،
كما تمكنت المرأة العراقية في العام 1923 من إصدار عدد من المجلات النسائية أبرزها مجلة (ليلى) التي رأست تحريرها (بولينا حسون) إحدى زعيمات النهضة النسوية العراقية.
إشتدت معركة السفور والحجاب وأصبحت أكثر ضراوة بعد حفل إستقبال ولي العهد الأمير غازي بمناسبة عودته من دراسته في لندن، فقد شاركت في ذلك الإحتفال مدارس بغداد، وكان من بينها لأول مرة طالبات ثانوية البارودية للبنات، تتقدمهن مديرة المدرسة الآنسة (معزز برتو)، فأقامت الأوساط المحافظة الدنيا ولم تقعدها وعلى رأسهم رجل الدين المتشدد (محمد بهجت الأثري), الذي كان الرصافي يلقبه (ببوليس السماء)، لكثرة الفتاوى التي كان يصدرها في كل صغيرة وكبيرة، ومعه رشيد عالي الكيلاني وسلمان الشواف وتوفيق الفكيكي والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي وآخرون، كما عهد داود العجيل رئاسة تحرير جريدته (البدائع) الى بهجت الأثري خصيصا لمواجهة المجدّدين، فإنبرت هذه تهاجم مديرة المدرسة وتعتبر العمل الذي أقدمت عليه خروجا على الفضيلة وتمردا على الآداب، وقال الأثري موجها خطابا نابي اللهجة الى دعاة تحرر المرأة :
(ألقوا حَبلَ نسائكم على غاربهن، ودعوهن سافرات ودعونا نفعل بهن ما نشاء، إن شئنا قتلهنّ أو إردنا وأدهنّ فلستم علينا بمسيطرين)!!.
فسارع الثائر المخضرم حسين الرحال الى الرد عليهم بجرأة وعنف ومعه عصبة من الشباب كالأديب مصطفى علي ومحمود أحمد السيد وسامي شوكت وعوني بكر صدقي ومحمد سليم فتاح، كما إنضمت جريدة العراق التي يتولى تحريرها رزوق غنام وروفائيل بطي الى جانب دعاة التحرر الآخرين، فكتب فيها سامي شوكت مقال جاء فيه : (إن المطالبين ببقاء تستر المرأة وأسرها يكون طلبهم منطقيا أكثر لو طلبوا إلغاء التعليم ورفع التهذيب والإبقاء على الحالة الهمجية للمجتمع).
كما كتبت إحدى سيدات بغداد مقالها تحت إسم مستعار (فتاة غسان) متهكمة من دعاة الحجاب قائلة : (يقول هؤلاء المستبدون إن البرقع والحجاب ليس معناه أسر المرأة، فأرجو من الرجال أن يجربوا ولو لإسبوع لبس البوشي والعبائتين)!! .
هناك حقيقة تاريخية فيها من الأهمية ما يدعونا الى الإشارة إليها، فقد جرت العادة لدى الكثير منا – كما هو الحال اليوم – الى التشكيك بدعوات التحرر والتجديد، وتوصيفها وتصنيفها بـ (مؤامرة) تستهدفنا، على وفق ما أصطلح عليه في القاموس السياسي بنظرية المؤامرة، أي إن كل دعوات التطور والتحرر ما هي إلا إستهداف لتراثنا وعروبتنا وديننا الإسلامي الحنيف، لكن الغرابة كل الغرابة أن نجد هنا أن المتشدّدين والمتعصّبين يستشهدون في معرض تصديهم لدعوات التحرر بالمسيحيين واليهود كمثال على الإلتزام بالحجاب والتقاليد المحافظة، فها هو (جميل المدرس) أحد أشد المناوئين للسفور كتب يقول:
(خذو العبرة من النصارى واليهود، هل نجد في مدارسهم الأناثية فرقٌ كشفية أناثية كما في مدارسنا، إن البنت اليهودية العراقية لا تسدل على وجهها نقابا خفيفا كالذي تلبسه اليوم أكثر البنات المسلمات المتبرجات، بل نقابا أخشن وأثخن)!!.
في 23/11/1924 وبينما هذه المعارك قائمة في الأندية والمحافل، وأخبارها وأحاديثها تدور في المقاهي والمجالس، إذا بنادٍ جديد يفتتح بإسم (نادي النهضة النسائية) تألفت هيئته الإدارية من (أسماء الزهاوي) شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي ونعيمة السعيد وماري عبد المسيح وفخرية العسكري زوجة الوزير جعفر العسكري)، فسارعت جريدة العراق الى الترحيب به معتبرة إفتتاح النادي إنتصارا لحرية المرأة.
إزدادت المعارك حدة بين أنصار التجديد وبين المحافظين المتشددين وأقبل الناس على الصحف التي أصبحت الآن ساحٍ لها، ووصلت المشادات الكلامية في أحيان كثيرة الى الإشتباك بالأيدي، ناهيك عن الشتائم وإطلاق النعوت والألقاب والصفات المزرية على المجددين.
وعندما أخذ دعاة تحرير المرأة ينادون على صفحات جريدة العراق بإلغاء المحاكم الشرعية وسن قانون مدني جديد ينظم الأحوال الشخصية على قواعد تساير العصر، طار صواب المحافظين لهذه المبادرة الجريئة وأخذوا يطاردون دعاة التجديد، تارة بالتهديد بالقتل وطورا بالإرهاب، فأضطر عدد من أنصارهم الى اللجوء للقضاء طالبين حمايتهم من المحافظين.
صار الملك فيصل الأول وديواني مجلس الوزراء ووزارة الداخلية يستقبلون يوميا وفودا لا تنقطع من المحافظين، ويصغون الى إحتجاجاتهم ويستلمون منهم المضابط التي تحث الحكومة على (تأديب) المجددين بحسب قولهم، فأوعزت مديرية المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية الى الصحف بالكف عن نشر المقالات التي تدعو الى التحرر والسفور، إلا إن تلك الإجراءات لم تمنع حسين الرحال من إصدار مجلة (الصحيفة) التي إستطاعت أن تهز الأوساط المحافظة وتزعزع القيم القديمة السائدة.
فقد عكست المجلة في أعمدتها اليومية أحدث الآراء في التاريخ والأدب والنظريات السياسية والإقتصاد وعلى صفحاتها تتبع الجمهور العراقي نهضة المرأة التركية والإيرانية واللبنانية والمصرية، ومن تلك المقالات نقتطف هذا المقطع للكاتب محمود أحمد السيد الذي يقول فيه :
(سنواصل مسيرتنا في سبيل الحرية الفكرية والحق والمثل العليا .. نحن أقوياء بأنفسنا أقوياء بأقلامنا، سنكشف قناع الرياء عن ميراث العصور المظلمة وسنزهق الباطل ونسحقه سحقا ونرفع للمرأة راية التعليم والتحرر الإجتماعي، وذلكم واجبنا الأكبر) !.
كان لهذه المجلة أثرها الكبير في تنبيه أذهان الناس وتثقيفهم والتمهيد لخلق مفاهيم حضارية جديدة، فنشط المجددون بشكل واضح، وإنضمت إليهم أسماء جديدة من المؤثرين مثل طالب مشتاق وكامل السامرائي وعبد الحميد رفعت وشاكر الأوقاتي وساطع الحصري ومحمد بسيم اذويب وغيرهم الكثير.
لكن المحطة الأهم في تاريخ نهضة المرأة العربية عموما والعراقية خصوصا هي إنبثاق مؤتمرات خاصة بالمرأة، ويعزى ذلك للنشاط المميز الذي تبناه المفكر اللبناني (محمد جميل بيهم) ضمن مساعيه الحثيثة للدفاع عن حقوق المرأة العربية، فتلقت زعيمة النهضة النسوية العراقية (أسماء الزهاوي) رئيسة نادي النهضة رسالة من السيدة اللبنانية نور حمادة رئيسة المجمع النسائي العربي بداية آذار 1929 تدعو فيها المرأة العراقية للتشاور من أجل عقد أول مؤتمر نسوي عربي، وقد دعتْ الزهاوي في ضوء ذلك عضوات نادي النهضة للإجتماع والمداولة في موضوع المؤتمر فضم الإجتماع بالإضافة الى عضوات النادي عدد كبير من السيدات الناشطات ومما قالته الزهاوي في الإجتماع (إن إجتماعنا هذا لهو دليل على أن الحركة النسوية المباركة في العراق صادقة لا يثبط عزيمة القائمات عليها معارضة الفئة الرجعية، إننا نسير في ظلمات التعصّب المخيّم على ربوع الرافدين ولكن الصبح آتٍ عن قريب وسنراه بعيوننا، صبحاً يفيض نوره على الربى والبطاح). كما إشتكت الزهاوي من عجز الحكومة عن مساعدتهن ضد القوى المتعصبة التي تصول وتجول وتهدد وتتوعد، معيبة عليها (أي الحكومة) الوقوف على الحياد في هذا الصراع الإجتماعي الصعب, وهو ما أرهب بالتالي النادي وأعجزه عن تسمية إمرأة عراقية واحدة لتمثيل العراق في هذا المؤتمر المنتظر (الذي تمنته نور حمادة أن يعقد ببغداد)، فإكتفى النادي بإرسال كلمة ألقيت بالنيابة عنه في أول مؤتمر نسوي عربي والذي عقد في العاصمة المصرية القاهرة.
إتسعت رقعة المؤيدين للتجديد والداعين الى إعطاء المرأة حقوقها وإزدادوا ثقة بأنفسهم، ومال إليهم رؤوف الجادرجي أستاذ القانون الدولي وحكمت سليمان أستاذ المالية وتوفيق السويدي أستاذ القانون الروماني، وأصبحت الصحف تنشر لهم كل يوم العديد من المقالات والقصائد المحرضة والمدافعة عن المرأة ومن بينها تلك القصيدة الشهيرة لجميل صدقي الزهاوي الذي أصبح في هذا الوقت شاعراً معروفاً والتي مطلعها :
أسفري فالحجاب يا إبنة فهرٍ
هو داءٌ في الإجتماع وخيمُ
كل شيء الى التجــدد ماضٍ
فلماذا يُقــــــــــرّ هذا القديمُ
لم يطل العام 1930 حتى ظهرت أصوات نسائية بأسمائها الصريحة تدعو الى منح المرأة حقوقها وتلمح علانية الى تحررها وضرورة إفساح المجال أمامها للدخول الى معترك الحياة فأرتفع صوت (رفعة الخطيب) يناقش الشريعة الإسلامية ما إذا كانت منعت السفور أم لا، وصوت الآنسة أمينة الرحال (شقيقة الثائر حسين الرحال) تدعو الى ضرورة إستقلال المرأة إستقلالا إقتصاديا.
وعندما دُعي العراق للمشاركة في المؤتمر النسوي الثاني الذي أتفق على إنعقاده في العاصمة السورية دمشق في تموز من ذلك العام، بذل السياسي المعتدل ثابت عبد النور جهودا كبيرة من أجل إقناع الحكومة بضرورة مشاركة المرأة العراقية في هذا المؤتمر حتى لا يظهر العراق امام دول المنطقة كبلدا متخلف لا يراعي تطورات العصر، فكان إن رشحت الحكومة الآنسة أمينة الرحال (والتي لم تزل طالبة في معهد المعلمات) ومعها الآنسة جميلة الجبوري لتمثيل العراق، فكان لكلمة العراق التي ألقتها أمينة الرحال صدى مميزا في أوساط المؤتمر.
المصدر/ المدى.. فاروق عبدالجبار البياتي
751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع