ذكريات طريفة للدكتور مصطفى جواد عندما كان معلما في وزارة المعارف..
تخرجت في دار المعلمين الابتدائية سنة 1924 اي اربع وعشرين وتسعمائة والف ميلادية معلما ابتدائيا وعينت في مدرسة الناصرية الابتدائية وكان مديرها يومئذ السيد عبد المجيد زيدان وكان رحمه الله متشدداً على المعلمين فتآلب عليه جماعة منهم وكنت فيهم، وخلال تلك السنة اصدر الاستاذ هاشم السعدي رحمه الله (مجلة المعلمين) ببغداد وبدأت انشر فيها شعري ومما نشرته فيها التوجه نحو الاثارة والدعاية لمحمد ابن عبد الكريم الخطابي ايام محاربته الفرنسيين بالمغرب،
وفي السنة الثانية من تدريسي بمدرسة الناصرية الابتدائية عينوا لها مديرا فضا غليظ القلب فوقع خلاف بيني وبينه في مبدأ العطلة الربيعية وانتهى الامر بنقلي الى مدرسة السيف الابتدائية بالبصرة بعد عطلة الربيع، واذكر ان مديرها يسمى جاسم شوقي، وبقيت في البصرة النصف الاخير من السنة ثم تشبثت بعدة وسائل لنقلي الى مديرية معارف بغداد فنقلت الى الكاظمية في مدرستها الابتدائية وكنت ادرس اللغة العربية وفروعها المقررة للابتدائيات، الا في البصرة فقد اجبرني المدير ان ادرس الحساب فقبلته على كره مني لاني اكره الرياضيات، وان كنت ناجحاً فيها بامتحاني في دار المعلمين الابتدائية نجاحا باهرا، ثم نقلت من مدرسة الكاظمية الى مدرسة ديلتاوا الابتدائية وكان فيها مدير متشدد ايضاً فتغلب عليه جماعة وزاد الخلاف بسعاية معلم متجسس، ثم اختارني استاذي يوسف عز الدين الناصري لتحرير وزارة المعارف فنقلت الى بغداد وكان المسيطر على شؤون الوزارة يهودياً انكليزياً يرأس قسما من الاستخبارات الانكليزية بالعراق اسمه ( سمرلي ) وله اتباع على رأيه في الوزارة ...
وكان مدير المعارف انذاك الاستاذ الجليل سامي شوكت، وقد جاء يوماً اليه احد كبار رجال الدولة واحسبه جعفر باشا العسكري رحمه الله راجياً منه ان ينقل الى مكاني الاستاذ الشاعر الشهير محمد مهدي الجواهري لانه كان يدرس العربية في المدرسة المأمونية وقد كان الطلاب يؤذونه اذى شديداً فنقلت الى وظيفته وهي تدريس العربية في المأمونية، فالفيت اكثر طلابها من ابناء ارباب الدولة وعلى غاية من قلة للادب فشددت عليهم واعدتهم الى السبيل السوي، وفي اثناء اقامتي ببغداد للتدريس بالمدرسة المذكورة نشرت التاريخ المسمى غلطاً ( الحوادث الجامعة والتجارب النافعة) المنسوب الى ابن الفوطي،وهو اول كتاب صدر لي سنة 1932،
واخذت انشر في مجلة (لغة العرب) لصاحبها الاب انستاس الكرملي اللغوي المشهور وبدات اعالج النقد، وخلال ايام تدريسي بالكاظمية اخذت اكتب المقالات في مجلة العرفان اللبنانية، وانشر شعراً سياسيا في جريدة العراق، وشعراً اجتماعياً في جريدة العالم العربي، ونشرت قصصاً في جريدة النهضة البغدادية لامين الجرجفجي رحمه الله احد زعماء الثورة العراقية يومئذ، ورأيت ان راتبي الاول بقي كما هو مع الخفض العام وجدت فرصة لاكون معلما في مدرسة اليسوعيين الجديدة لانهم وعدوني باعطائي 200 روبية كراتب شهري، ثم احس بعض رجال المعارف الاطياب بعزمي على ذلك فمنعني وعاهدني على نقلي الى الملاك المتوسط وزيادة راتبي المالي، فعدلت عن عزمي وعينت مدرسا في المتوسطة الشرقية سنة 1932 اي اثنتين وثلاثين وتسعمئة والف ميلادية وبقيت فيها وداومت النشر في مجلة ( لغة العرب ) نشرا ونظما، وساعدت الاب انستاس الكرملي على تحرير المجلة مجاناً، ثم ان وزارة المعارف صارت الى السيد عبد المهدي المنتفجي و كان يقرأ الكثير من مقالاتي ففتح هذا الرجل الطيب باب البحث العلمي بعد ان كان مقصورا على ناس باعينهم.
فدخلت في البحث العلمي سنة 1934 اي في الرابع والثلاثين وتسعمئة والف ميلادية ورسم لي التخصص بالاثار في اميركا فوجدت الطريق طويلاً والمعهد قصياً بعيداً جدا، وقد تزوجت وانا معلم في الكاظمية سنة 1928 ميلادية وولد لي طفلان فغيرت وجهة بحثي العلمي الى فرنسا وارسلت الى القاهرة لاكون مستمعاً في كلية الاداب، واتعلم مبادئ اللغة الفرنسية فذهبت الى القاهرة وقضيت المدة المقررة وتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية، وكنت قد نشرت قبل ذلك للاب انستاس الجزء التاسع من (تاريخ الجامع المختصر وعيون التواريخ وعيون السير) لابن الساعي المؤرخ البغدادي المشهور، ونشرت قصيدة في فلسفة الوجود في مجلة (المقتطف)، وشاركت بقصيدة في احياء ذكرى شوقي بالقاهرة، وفي سنة 1934 ميلادية سافرت الى باريس واردت الدخول في كلية السوربون من جامعة باريس فلم تلق شهادتي في مدرسة دار المعلمين الابتدائية منهم قبولاً، فاستعنت بمستندات علمية اخرى وترجمتها الى الفرنسية، وساعدني ايضاً شيخنا الاستاذ لويس ماسينيون المستشرق الفرنسي المشهور فقبلت في كلية السوربون لغرض اعداد شهادة الدكتوراه فاخترت موضوعا تاريخيا عنوانها (سياسة الدولة العباسية في اواخر عصورها) وقبل ان اتم عملي كانت مدة التعهد وهي ثلاث سنوات قد انتهت..
فأوعز الدكتور فاضل الجمالي وزير الخارجية آنذاك باعادتي للتدريس ببغداد بعد أن أمضيت ثلاث سنوات في باريس ادرس في جامعة (سوربون)، لكنني عدت من دون أن أكمل رسالتي الدكتوراه لكونه اي الجمالي كان يكره شهادات الدكتوراه في وزارة المعارف وبعد عودتي الى بغداد عرضت شكواي على رئيس الوزراء الذي كان يومئذٍ جميل المدفعي رحمه الله وعرضت عليه غبني ايضا على الشاعر الكبيرالاديب الذائع الصيت محمد رضا الشبيبي رحمه الله وكان آنذاك وزير المعارف فوافقا على تجديد التعهد بعثتي لمدة سنتين أخريتيين وجددته فسافرت الى باريس مرة أخرى عودا على بدء وأكملت رسالة الدكتوراه اي اطروحتها كما يقولون واعلنت الحرب العامة الاخيرة فلم تتهيأ لي مناقشتها ولا طبعها ولا تزال مخطوطة غير مطبوعة ولا مترجمة، ولما رأينا ان هجوم الالمان الجوي على باريس قد بدأ أيقنا بان الحرب ستطول والبقاء في فرنسا جدا خطر وسيئ العاقبة، فعدت الى العراق بالقطار مع افراد من الطلاب العراقيين قبل اعلان ايطاليا الحرب بايام، ووصلت الى بغداد وبقيت اشهراً من غير تعيين لاني نقدت كتابا مقدما الى بعض الوزراء الذين لا يقدرون طلب الحقيقة العلمية حق قدرها، بعدها عينت في دار المعلمين العالية مدرسا او معلما او استاذا التي تسمى اليوم كلية التربية وذلك في سنة 1939 ميلادية ثم دعيت لخدمة الاحتياط فسأموني وسأمتهم حتى تخلصت وعدت الى للمحاضرات في الدار المذكورة .
في العام 1942 دعيت لتعليم ( الملك) الصغير فيصل الثاني اللغة العربية ابتداءً من القراءة الخلدونية و كان اهمل تعليمه للغة العربية وامروني بتعليمه لمدة سنة واحدة فبدأت بتدريسه في السنة السابعة من عمره وعلمته القراءة والكتابة، واذكر عندما قرر اهلوه دراسته في انكلترا امرت والدته رحمة الله عليها وكانت خير امرأة في الاسرة باستصحابي اليها فلم استطع الاباء وكنت اود جاهدا ان اجعله ملكاً يشبه صغار الملوك الذين قرأت سيرهم في التاريخ الاسلامي فاعجبتني وكان مترددا في طلب حاجاته المدرسية وكان يشكو من ذلك، وقلت له ذات مرة انت ملك فقل لهم هاتوا كذا وكذا فلا يستطيعون رفضه، فلما قال لهم بلهجة الاّمر هاتوا كذا وكذا، قالوا له ليس اسلوب كلامك ، فمن علمك هذا النوع من الطلب، وهو لضعف ملكة الاستقلال في نفسه، قال لهم الذي علمني ذلك هو مصطفى جواد فحقدوها علي واعادوني الى التدريس في دار المعلمين العالية في آخر السنة الدراسية الاخيرة خوفا من تربية روح الاستقلال بنفسه .
وكنت لما بدأت تدريبه (يقصد الملك فيصل الثاني ) وطلبت بعدها نقلي الى مديرية الاثار لصعوبة الجمع بين تدريسي في دار المعلمين العالية وتعليم الملك الصغير،فنقلت الى وظيفة ملاحظ فني ثم رايت سوء الادارة فيها وبقاء راتبي المالي على حاله، فرجعت الى دار المعلمين العالية وبقيت فيها الى ان انشئت جامعة بغداد وسميت انذاك كلية التربية وما ازال في عداد اساتذتها وان كنت مقعدا في مرض عضال.
المصدر:المدى
(عن تسجيل صوتي بصوت مصطفى جواد)
528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع