حسين مردان.. دكتاتور الأدب وبودلير العرب

     

   حسين مردان.. دكتاتور الأدب وبودلير العرب

  

  
 
                   

الشاب الذي جاء مشياً على الأقدام في نهاية الاربعينات من بعقوبة الى بغداد، وصار جزءاً من الرصيف، وبات يشكل ظاهرة غريبة من التمرد والرفض والاحتجاج والخروج على الأعراف الاجتماعية والسياسية في مجتمع الأربعينيات المتحفظ ، انه حسين مردان، ذلك الفتى العشريني الذي اتخذ من المقاهي والحانات والشوارع مأوى له، وكان كالعاصفة التي أقلقت الجوين الثقافي والأدبي وسرعان ما احتل مكانته في الوسط الأدبي الذي ضم البياتي والجواهري والسياب وبلند الحيدري، وجبرا ابراهيم جبرا، واسماء أخرى لها صداها الثقافي والشعري، كانت حياته بكاملها مغامرة كبرى، مثلما كانت كتاباته من شعر ونثر ومقالات وقصص تعبيراً عن هذه المغامرة، ومن الغريب ان هذا الفاتح الديكتاتور كما كان يطلق على نفسه، كان مزهواً بضياعه وتشرده وفقره وجوعه، واستطاع أن يكون طرازاً خاصاً في شعره وحياته على حد سواء، وسعى لأن يتفوق بسلوكه وفنه على كل ما حوله محققاً المكانة اللائقة لشخصيته الفنية في المغايرة لافي المسايرة، وكانت كتاباته المتحدية التي ألقت به في السجون قد أهلته للتفرد والشهرة، اذ لم تكن مهمته الكتابة بمعايير الأنماط الفنية الشائعة، انما كان يكتب ويعيش بنمط واحد ليكون متفرداً في ما يحيا ويحس، ولم يرتض أن يكون رجع صدى للآخرين، فكان شاعراً من دون الاتكاء إلاّ على النفس، ولم يكن سلوكه وشعره سوى تعبير عن شغفه بالحياة، كانت حياته حسب توصيف مقدم الندوة الناقد علي الفواز مليئة بزخم الحياة، ولأنه خرج على كل شيء من غير مبالاة بتقاليد مجتمع الأربعينات والخمسينات المتحفظ فقد تعرض كثيراً للاعتقال والمطاردات، لكنه ظل مليئاً بالكبرياء والاحساس بالعظمة! كان عالمه كثير الثراء، متنوعاً فهو الشاعر، والناثر، والمقالي، والناقد

                            

                      سيرة الشاعر

ولد في بلدة طويريج (الهندية - محافظة بابل - جنوبي العراق)، وتوفي في بغداد
كان والده عريفاً (شرطيًا) فتنقل معه حسب مقتضى وظيفته، فعاش حتى الخامسة في مدينة الحلة، ثم انتقل إلى قرية جديدة الشط - محافظة ديالى
أتم تعليمه الابتدائي في «بعقوبة» وترك المدرسة أثناء دراسته المتوسطة
اتجه إلى بغداد فاشتغل مصححًا ومحررًا في جريدة «الأهالي» (1952)، وحكم عليه بالسجن عاماً، بسبب ما نُسب إليه من نشر أشعار إباحية، ثم عاد إلى جريدة «الأهالي»، وبعد إغلاقها أشرف على الصفحة الأدبية في جريدة «الأخبار» ثم في «المستقبل»، ثم عمل محرراً في مجلة ألف باء..

      
 
آخر وظائفه في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون - قسم الشؤون الثقافية
كان اتجاهه يساريًا ماركسيًا، وقد انتخب عضوًا في الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين بعد انقلاب 14 تموز 1958 - وصار عضوًا في الهيئة الإدارية للاتحاد عام 1970
حين وُلد حسين مردان في عام 1927م، لم يكن يعلم أن سنة وفاته ستكون عكس سنة ميلاده، أي أن الـ (27) ستكوم (72)، وكيف له أن يعلم بما لا يعلمه إلا علام الغيوب..

    
 
نعم، في 4/10/1972م، غيَّب الموت حسين مردان، الذي كان يقـول: (أنا أعرف نهايتي، فغدا سأموت بسكون، كما تموت الأشجار القديمة في أعماق الغابات، سأموت إلى الأبد)، ويُضيف:

(إن الموت هو الدرب الوحيد الذي يصل إلى الهدوء)، غيَّبه الموت بعد أن وصل بعد خمسة وأربعين عاما من عمره المملوء بكل ما لا يسر، إلى (قمته الحياتية الصغيرة) التي قامت على ثلاث دعائم هي تسلُّمه وظيفة المدير الثقافي لإذاعة بغداد، واستقراره فيها امتلاكه بيتا بسيطا في منطقة البلديات ببغداد
تواصله مع القراء عبر مقال أسبوعي ينشره في مجلة (ألف باء) العراقية، التي كانت تصدر كل يوم أربعاء

ومن يبحث في سيرة حسين مردان وما فيها من أتراح وأفراح، يجد أن حياته قد مرت بأربع مراحل هي
ـ المرحلة الأولى: وتشمل السنوات الخمس عشرة الأولى من حياته والتي قضاها في قضاء طويريج التابع إلى محافظة بابل، وهو المكان الذي وُلد فيه وفتح فيه عينيه على أسطورة الحياة ضمن عائلة كادحة، وليس في هذه المرحلة ما يثير الانتباه
ـ المرحلة الثانية: وتشمل السنوات الخمس اللاحقة، والتي قضاها في مدينة بعقوبة، بعد انتقال عائلته إليها، وفي تلك المدينة عطَّر أنفاسه بروائح البرتقال والليمون، وكحَّل عينيه بمرأى نهرَي ديالى وخريسان، وقد برز في هذه المرحلة أمران مهمان هما

مشاركته في إحدى التظاهرات التي خرجت هادرة في بعقوبة استنكارا لمعاهدة بورتسموث عام 1948م، وإلقاؤه كلمة في المتظاهرين، وقد قال حسين مردان عن كلمته تلك: قمت أزرع الفضاء بجمل نارية، لا ينطق بها إلا من كان يحلم بشرف التفاف الحبل حول عنقه.. وهكذا أصبحت الخطيب الأول لتظاهرة ذلك اليوم
وبعد انتهاء تلك التظاهرة، راحت الشرطة تطارد حسين مردان فألقت القبض عليه وساقته إلى المحكمة
حبه من طرف واحد، وقد تحدث عن هذا الحب الكاتب صباح الأنباري في مقالة له بعنوان (حسين مردان.. شاعر الدهشة ورجل المفاجآت) نشرتها جريدة (العراق) العراقية في 29/9/2000م، ومما جاء في تلك المقالة: (لقد ظل حسين مردان طوال حياته وخلافا لما يظنُّه بعض الدارسين، مرتبطا بمدينة بعقوبة بحبل سري يشده إليها أبدا، ذلك هو الحب الكبير لفتاة أحلامه وبطلة قصائده ومحرِّكة وجدانه ومشاعره الجيّاشة.. المرأة التي أحبها من طرفه ولم تشعر بحبه يوما)، وجاء فيها أيضا: (أن مردان وهو على فراش المرض تمّنى زيارتها له ولو مرة واحدة، لكنها حتى بعد أن أعلموها برغبته في رؤيتها للمرة الأخيرة بخلت عليه بتلك النظرة، فمضى ـ أبو علي ـ وحيدا حزينا إلى العالم الآخر). وقد انتهت هذه المرحلة بذلك القرار الذي اتخذه حسين مردان والذي رسم مسارات حياته اللاحقة: (فجأة قررت هجر المدرسة، والمجيء إلى بغداد، كنت حينذاك في العشرين من عمري.. كتلة نار وسيوف، وتلقَّفني شارع الرشيد.. الفساتين الملونة والزجاج، وقلت لنفسي: من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي نحو قمة الجبل، وكانت الدهشة تشدُّني من كل جانب حتى وصلت مقهى الزهاوي

 

  

ـ المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي تبدأ بمجيء حسين مردان إلى بغداد وتمتد حتى بلوغه الأربعين من عمره، وتغطّي هذه المرحلة عشرين سنة من عمره، وهذه المرحلة مليئة بالضجيج الإعلامي وبالحركة في مختلف الاتجاهات وبالنشاط الشعري والأدبي الكثيف
ـ المرحلة الرابعة: وتشمل السنوات الخمس الأخيرة من حياته، والتي تميزت بالاستقرار النسبي، والتي وصل فيها إلى ما سميناه بـ قمته الحياتية الصغيرة

     

          حسين مردان..في الحياة والشعر

كان حسين يقول عن نفسه: (أنا ديكتاتور الأدب والشعر)، وكان يُقال عنه إنه وريث بودلير والخليفة لشعر الغزل العباسي، وكان يوصف بأنه أمير التشرد والكبرياء، وبأنه رجل الضباب ورجل المفاجآت، وقد وصف نفسه قائلا: (أنا رجل الشارع المتشرد الجائع، المتطرف في الشعر والحياة)، وتطرُّفه في الشعر والحياة تمثَّل بالوجوه الآتية:

ـ الوجه الاول بمضمون قصائده، خاصة الأولى منها، التي رآها المجتمع جريئة على نحو غير مسبوق
ـ الوجه الثاني ما سمّاه بـ (النثر المركز)، الذي كسر به تقاليد الوزن والقافية المعروفتين في الشعر العمودي.
ـ الوجه الثالث: سلوكه العام في المجتمع، وهيئته العامة له من شعره الطويل، وتشرُّده وتسكُّعه واعتماده على الآخرين في العيش اي صعلكة بأمتياز
كان حسين مردان يُكنّى بـ (أبي علي)، ومن المعروف أن كل من اسمه (حسين) في العراق يُكنّى بـ (أبي علي)، ومردان لم يكن له ولد، لأنه لم تكن له زوجة أصلا
ولقد أحيل حسين مردان إلى المحاكم في حياته ست مرات، فهل هناك شاعر عراقي أحيل إلى المحاكم بهذا العدد من المرات غيره ؟
كانت المرة الأولى بسبب خطابه الذي ألهب حماسة المتظاهرين في بعقوبة عام 1948م، والمرة الثانية كانت بسبب مجموعته الشعرية (قصائد عارية)، والمرة الثالثة كانت بسبب قصيدته (اللحن الأسود) التي طبعها في كراس خاص وصدرت عام 1950م، وقد صادرت الحكومة ذلك الكراس، أما المرة الرابعة فكانت بعد انتفاضة الشعب العراقي عام 1952م، وكانت تهمته رفض النظام الحاكم، وفي هذه المرة أعتقل وجرى تقديمه إلى المجلس العرفي العسكري، فحُكم عليه بوجوب عدم نشر كتاب جديد لمدة عام، وأُطلق سراحه بكفالة.
أما المرَّتان الخامسة والسادسة فكانتا بسب افكاره ويروى عن حسين مردان أنه قرأ ما يقرب من مئة ألف صفحة من الفلسفة الماركسية، استعارها من الشيوعيين الذين كانوا يشاركونه السجن..

  

ولا بد من الإشارة إلى أن حسين مردان قد أصدر بعد (قصائد عاريـة) و(اللحن الأسود)، مجموعته (صور مرعبة) عام 1951م، وتضمَّنت المجموعة نوعا من النثر أطلق عليه تسمية (النثر المركز)، وفي عام 1953م، أصدر مجموعته (الربيع والجوع) وهي نثر مركز أيضا، وفي منتصف الستينات أصدر مجموعته (الدنيا تنّور)، ثم جاءت بعدها مجموعتاه (طراز خاص) و (الأرجوحة هادئة الحبال
والذي يقرأ ما كتبه حسين مردان ستواجهه هذه الصرخات:

لن أحترم العالم ما دام هندبوس منكسر العينين
التراب وحده يفهمني
أليست حياتنا شريعة للغاب ؟
أنا بقايا وحشية الغاب
ويصرخ حسين مردان عبر شعره العمودي قائلا
وطني لو أنَّ الشعرَ يردعُ طامعا
ويردُّ كيدَ المغرضينَ ويزجُرُ
لنظمتُ أنفاسَ السعيرِ قصائدا
تشوي جلودَ المفسدينَ وتنثرُ
وطني وكلُّ يدٍ تريدُ لكَ الأذى
فاسلمْ ـ فداكَ الخائنونَ ـ ستُبترُ

ومن الأمور الأخرى التي تُذكر عن حسين مردان أنه كان عضوا في الهيئة التأسيسية لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وأن صوته قد صدح بعد ثورة 14تموز 1958م في قاعة اتحاد الأدباء عبر قصيدته(نبوءة الشعر)، وأنه كان من الشعراء الذين ألقوا قصائدهم في مهرجان المربد الشعري في دورة انعقاده الأولى عام 1969م والتي عُقدت في البصرة، وأن قصيدته التي ألقاها في ذلك المهرجان قطفت تصفيقا منقطع النظير من أيدي الحاضرين

      

           حسين مردان والشعراء الرواد
 
وُلد حسين مردان بعد ولادة نازك الملائكة (التي وُلدت عام 1923م) بأربعة أعوام، وبعد ولادة كل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري (الذين وُلدوا جميعا عام 1926م) بعام واحد، وقبل ولادة شاذل طاقة (الذي وُلد عام 1929م) بعامين، وهذا يجعل عمر حسين مردان مقاربا بشكل كبير لأعمار رواد الشعر العربي الحديث في العراق، ولكن يبدو أن (المشتَرَك) الوحيد بين حسين مردان والشعراء الرواد كان عمره المقارب لإعمالهم، أما سوى ذلك فليس سوى الاختلاف، الذي يمكن إجماله بالوجوه الآتية

ترك حسين مردان الدراسة، في حين ذهب الشعراء الرواد إلى دار المعلمين العالية لإكمال دراستهم فيها، ومنهم من ذهب إلى ابعد من ذلك مثل نازك الملائكة التي درست اللغة الإنكليزية في المعهد الثقافي البريطاني ببغداد ودرست اللغة الفرنسية لعدة سنوات

    


اختار حسين مردان طريق التشرد، فأصبحت المقاهي والشوارع والساحات العامة أحضانا له، في حين اختار الشعراء الرواد طريق الالتزام عبر العائلة والوظيفة وبناء الذات والاهتمام بالمستقبل

      
 
وجَّه الشعراء الرواد عنايتهم نحو الشعر الحر، واتخذوا من مهمة ترسيخه ووضع علاماته الفارقة قضية لهم، ودافعوا عنه بكل الوسائل، وبشَّروا به عبر مجموعاتهم الشعرية الأولى، وهكذا أصدرت نازك الملائكة مجموعتها (شظايا ورماد) عام 1949م التي ضمَّت قصيدتها الحرة الأولى (الكوليرا)، وكانت قد أصدرت قبل ذلك مجموعتها (عاشقة الليل) عام 1947م، وأصدر بدر شاكر السياب مجموعته(أساطير) عام 1950م، وكان قد أصدر قبل ذلك مجموعته (أزهار ذابلة) عام 1947م التي ضمَّت أول قصيدة حرة له (هل كان حبا؟)، فيما أصدر عبد الوهاب البياتي مجموعته (ملائكة وشياطين) عام 1950م، وأصدر شاذل طاقة مجموعته (المساء الأخير) عام 1950م، أما بلند الحيدري فقد أصدر مجموعته (أغاني المدينة الميتة) عام 1951م
أما حسين مردان فلم يكن معنيا من قريب أو بعيد بالشعر الحر وبما كان يشغل بال الشعراء الرواد، بل كان له طريقه الخاص الذي سار به من الشعر العمودي إلى النثر المركز مباشرة دون المرور بالشعر الحر، وهذا ما لم يفعله أحد غيره، مع ملاحظة أن حسين مردان كتب الشعر الحر ولكن بدرجة قليلة جدا


          قصائد عارية..والأدب المكشوف

                
 
قصائد عارية كانت المجموعة الشعرية الأولى لحسين مردان، وقد صدرت عام 1949م، وتُعدُّ هذه المجموعة أشهر مجموعاته الشعرية على الإطلاق، وقد أعيد طبعها في بغداد عام 1955م، وقد نقلت لنا الصحف اليومية العراقية مؤخرا خبر صدور طبعة جديدة لتلك المجموعة عن مكتبة (الأمل) البغدادية، بعد سبعة وخمسين عاما من صدور طبعتها الأولى
ولا تأتي شهرة (قصائد عارية) من المحاكمة الشهيرة التي أجريت لها ولشاعرها وحسب، بل من جرأتها في البوح بما لم يبح به غيرها وبقدرتها على تجاوز السائد من التقاليد في المنظورين الشعري والاجتماعي، الأمر الذي لم يعتد عليه القارئ في العراق
لقد أُلقي القبض على حسين مردان بعد صدور مجموعته الشعرية هذه، وأحيل إلى المحكمة بتهمة محاولة إفساد المجتمع ومخالفة الآداب العامة، وقضى في السجن بسبب ذلك (سنة طويلة) هي المدة التي استغرقتها التحقيقات وجلسات المحاكمة، والمحكمة التي تولَّت قضية(قصائد عارية) كانت محكمة جزاء بغداد الأولى، التي عقدت جلستها الأولى حول القضية في 26/6/1950م، وقد قررت المحكمة بعد ضبط إفادة (المتهم) وإفادات الشهود،تشكيل لجنة مختصة من كبار أدباء العراق لغرض دراسة (قصائد عارية) وتقديم تقرير حولها، وجاء في تقرير اللجنة المشكَّلة: (إن الأدب المكشوف فن كبقية الفنون.. وإننا لنجد في أسواق العراق والعالم والبيوتات العراقية الراقية في العراق وغير العراق من أنحاء العالم تماثيل عارية وصورا لأجسام عارية، نحتها ورسمها نحاتون ورسامون عالميون، فهل في كل ما ذُكر مخالفة للآداب العامة ؟
وفي 9/7/1950م،عقدت المحكمة جلستها الثالثة والأخيرة حول (قصائد عارية)، وقررت فيها الإفراج عن الشاعر ومجموعته الشعرية
ولو ألقينا نظرة إلى (قصائد عارية) لوجدنا أن جميع قصائد تلك المجموعة كانت من الشعر العمودي، وقد وضع حسين مردان في بداية هذه (القصائد العارية) الإهداء الغريب الآتي
لم احب شيئا مثلما أحببت نفسي، فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب، إلى الشاعر الثائر والمفكر الحر، إلى حسين مردان، أرفع هذه الصرخات التي انبعثت من عروقه في لحظات هائلة من حياته الرهيبة
لقد لقَّب حسين مردان نفسه في إهدائه هذه بالألقاب الآتية: المارد الجبار، الثائر، المفكر الحر، ووصف نفسه بالملتف بثياب الضباب، ووصف شعره بالصرخات، ووصف حياته بالرهيبة، فيا له من إهداء
يقول حسين مردان: فجأة رميت بـ ـ قصائد عارية ـ إلى الشارع، فاهتزَّ كل عمود في بغداد

فضلا عن ذلك وظف حسين مردان المفردة الشعبية في قصائده وجعلها اساسا في قاموسه الشعري لما فيها من فنية وواقعية ولتعميق الصورة وجعلها اكثر دينامية واقصر الطرق لايصال الفكرة الى ذهن المتلقي.. وهذا يعني انه يريد ان يؤكد اصالته وشعبيته وانتمائه الى بيئته... كقوله
بسيول ضحكتها الطليقة
وبلون وجنتها الانيقة
فبكل منعطف حديقة
اصباغها.. من ذيل (نفنوف) خفيف
وقوله
و(شيف) من البرتقال
تشب على ثلجه الحرق
وقوله: وانت يا انت
يا فوهة (التنور).. يا اختي

                                     

                  في الذاكرة العراقية

يبقى اسم الشاعر حسين مردان محفورا في ذاكرة الشعر والنقد العراقيَّين، وقد كُتب عنه الكثير منذ وفاته وحتى يومنا هذا، ولو استعرضنا أبرز الكتابات التي تناولت شعره وشخصيته، لخرجنا بالحصيلة الآتية

أصدرت مجلة (الأديب المعاصر) العراقية التي تصدر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، في عددها المرقم / 4 لسنة 1973م، ملفا عنه شارك فيه أبرز شعراء العراق ونقاده
نشر الناقد والباحث باسم عبد الحميد حمودي دراسة عن سيرة حسين مردان وأدبه تحت عنوان (حسين مردان.. ذاكرة جيل مضى)، نشرتها مجلة (الأجيال) في عددها الرابع لسنة 1973م، ثم طُبعت في كتيب خاص في السنة نفسها، ومما جاء في تلك الدراسة: (أن فترة السجن التي قضاها حسين مردان بعد صدور ـ قصائد عارية ـ و ـ اللحن الأسود ـ قد حوَّلت تفكيره تدريجيا إلى جانب الشعب، ولكنه ظل قلقا مهتما بالإنسان الفرد، مصورا حالات سقوطه، ثم اصدر مقالاته في النقد محاولا هدم قديم الشعر.. ليتحوَّل بعد ذلك إلى الجماهير مصدرا ـ الربيع والجوع ـ و ـ رجل الضباب ـ و ـ رسالة من شاعر إلى رسام ـ بعد أن بلغ الحد الثوري أقصاه في منتصف الخمسينيات
وقد حفلت هذه الدراسة بالعديد من المعلومات عن حياة مردان وشعره، ومن تلك المعلومات ما يأتي
ـ إن جماعة أدبية كان اسمها (الوقت الضائع)، وهو مأخوذ من اسم رواية لمارسيل بروست، قد أرسلت في عام 1946م عددا من أعضائها إلى بعقوبة، بحثا عن حسين مردان، ومن أولئك الأعضاء: القاص والرسام نزار سليم والقاص عبد الملك نوري والقاص عدنان رؤوف، وقد التقوا بمردان الذي أُعجب بثقافتهم وسعة اطلاعهم، ومن ساعة اللقاء تلك قرر مع نفسه أن مكانه في بغداد وليس في مكان آخر..

  
 
ـ إن الجواهري التقى حسين مردان وأظهر له أسفه لمصادرة ديوانــه (قصائد عارية) ولمحاكمته، وعرض عليه مساعدته ألا انه رفض، وكان حسين مردان يعلن أمام الجميع (عدم إيمانه بعبقرية الجواهري بصورة مطلقة)، وقد توَّج ذلك بمهاجمة الجواهري عبر سلسلة من المقالات النقدية
ـ إن شخصية حسين مردان كانت واحدة من شخصـــيات رواية (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان الخمسة، واسمه في الرواية شريف
أصدرت مجلة (الأقلام) العراقية في عددها المرقم / 11 لسنة 1984م، ملفا عنه أيضا، شارك فيه أدباء وشعراء آخرون..

               
 
أصدر الدكتور علي جواد الطاهر عنه كتابا نقديا تحت عنوان (من يفرك الصدأ ؟ أو حسين مردان في مقالات له ونثر مركز وشعر: 1968ـ 1972م)، وقد صدر الكتاب عن دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، عام 1988م، ومما قاله الدكتور الطاهر في كتابه: إن للمقالة المردانية حظها العالي من الإبداع.. وحظ لصاحبها الذي يميزه في تاريخ المقالة العربية فضلا عن العراقية
لقد أنصف الدكتور الطاهر في ذلك الكتاب حسين مردان أيما إنصاف، حين أعطى صفة (المردانية) لمقالات حسين مردان، وكان ذلك اعترافا بالتميز لا على صعيد المقالة العراقية وحسب بل والعربية أيضا
كتب الناقد عبد الجبار عباس دراسة بعنوان (قصيدتان من تراث حسين مردان)، نشرتها مجلة (الأقلام) العراقية / العددان 11و12ـ كانون الثاني 1989م، ومما جاء في تلك الدراسة (يبقى لحسين مردان في ـ العالم تنور ـ وـ الربيع والجوع - و - صور مرعبة ـ انه أديب طليعي يستجيب لروح العصر في نزعةٍ إلى تجديد النتاج الأدبي، يصبح به أشد انفتاحا على الحياة المعاصرة رغم اغترابه عنها وأعمق جذرا في العالم الحضاري الحديث رغم ظهوره أمامنا بمظهر من يشكو من استلاب شخصي
قام الدكتور محمد حسين حسيب بإعداد سيناريو مسرحي وثائقي متميز عن حسين مردان، تحت عنوان (شاعر الضباب)، وقد قامت كلية الفنون الجميلة في جامعة بابل بتقديم ذلك السيناريو في عرض مسرحي متكامل عام 1999م
كتب القاص والروائي أحمد خلف دراسة عن حسين مردان، جاءت تحت عنوان (حسين مردان: رجل الضباب)، وقد نُشرت في جريــدة (الزمان) الدولية على حلقتين بتاريخ 18 و20/1/2004م، كما أُعيد نشر هذه الدراسة كاملة في المجلد الثقافي الدوري لجريدة(الزمان) الدولية / ألف ياء ـ الإصدار الثالث ـ كانون الثاني 2005م، وقد أشار خلف في بداية دراسته أنه عمل في الإذاعة والتلفزيون (القسم الثقافي) مع حسين مردان منذ مطلع عام 1969م وحتى وفاته، وأنه اطَّلع خلال تلك الفترة على الكثير من خصوصياته، ومما جاء في تلك الدراسة: (إن حسين مردان ما كان له أن يغادر بلدته ويأتي إلى بغداد ما لم يضع في رأسه حلما طريا أراد له أن ينمو ويكبر ألا هو حلم الشاب الذي يريد غزو بغداد بالشعر والثقافة والأفكار الغريبة
كُتبت عن حسين مردان قصائد وكلمات لأدباء وشعراء عديدين، منهم: عبد الوهاب البياتي، سعدي يوسف، رشدي العامل، فوزي كريم، ماجد السامرائي، طراد الكبيسي، محمود الظاهر، عبد الرضا علي، حميد الخاقاني، رياض قاسم، وآخرون
الإنتاج الشعري
- صدر له الدواوين التالية: «الأرجوحة هادئة الحبال» - بغداد - مطبعة الرابطة (د.ت)، و«أغصان الحديد» - شركة التجارة والطباعة - بغداد (د.ت)، «طراز خاص» - المكتبة العصرية - صيدا، بيروت 1967، و«قصائد عارية» - دار المشرق - بغداد 1950، وطبعة ثانية في بغداد، عام 1995، و«نشيد الإنشاد»: قصيدة من قصائد الحب في الأدب القديم.. ليس على غلافها بيانات، وقصيدة «اللحن الأسود» - مطبعة الرابطة، بغداد)

الأعمال الأخرى
- أصدر عدة مؤلفات وصفها بأنها «نثر مركز» - تحمل عناوين مختلفة: «صور مرعبة» - بغداد 1951، و«عزيزتي فلانة» - بغداد 1952، و«الربيع والجوع» - بغداد 1953، و«هلاهل نحو الشمس» - شركة التجارة والطباعة - بغداد 1959، وأصدر عدة دراسات نقدية: «مقالات في النقد الأدبي» - المطبعة العربية - بغداد 1955،
 
والأزهار تورق داخل الصاعقة - وزارة الإعلام - بغداد 1972، وقد جمع علي جواد الطاهر مقالات حسين مردان (في مجلة ألف باء) وقدّمَ لها، ودرس فن المقالة عنده، وفنه الشعري، في دراسة أبرزت نشاطه المقالي، ونثره المركز من خلال كتاب «من يفرك الصدأ؟» - دار الشؤون الثقافية، بغداد 1988
طراز خاص عنوان أحد دواوينه، وهو بصْمَتُهُ غير المألوفة في الشعر الحديث، إذ تتعدد اتجاهات التمرد والرفض في شكل القصيدة، في لغتها وصورها، في مساحة المسموح به من تجاوز المواضعات الأخلاقية، مع هذا هو شاعر متميز، جريء الصورة، يقتحم عالم القارئ دون استئذان، ويجبره على مشاركته الإعجاب بغرابة التشكيل، حتى وإن خالفه في جرح النبيل والجميل.
 لشعره مستويات من أنساق النظم الموزون المقفى، والموشح، والتفعيلة، وحتى نثره المركز... إنه طراز خاص بحق..
   
المصادر /مقالات متنوعة عن الشاعر حسين مردان
 مقالة الاستاذ  كاظم حسوني

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع