زهرون عمارة صائغ الملوك والسلاطين
الكثير من الشخصيات العراقية هي عبارة عن مشروع روائي متاح للجميع ،ومايمنحك حبكة السرد في الولوج الى مفردات حياتهم هي كمية الذهول الذي يحيطك حين تتناول العطاء الذي قدموه والجهد المبذول بالاخلاص لمنتجهم مهما كان نوعه وتعددت روافده ،والسؤال الاكبر والاكثر اثارة كيف استطاعوا ان يحافظوا على قمم سيادتهم للانجاز حتى آخر اللحظات من سني اعمارهم، رحلوا لكنهم احياء اكثر من الاحياء انفسهم،ناموا ولم يموتوا واحلامهم تردد الى يومنا هذا ما قاله المتنبي العظيم :
انام ملء جفوني عن شواردها.....ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
نعم شواردهم وشذراتهم تبوح لنا وعلى مر الزمان حكايات تكاد تكون اسطورية لسلاطين كبار في مجال ابداعاتهم،ليجبروا القاصي والداني والنخبوي والبسيط والملك والعامة بالحديث عنهم
زهرون الملا خضر عمارة والملقب بـ (زهرون عمارة) صائغ الملوك والسلاطين والشخصيات الكبيرة سواء في العراق او في العالم العربي واوروبا وتركيا، لتجد مقتنياته مقرا مهيبا لها في متحف اللوفر وغيره من المتاحف الاوروبية ،وتفاخرت بفنه العديد من الصحف الاجنبية والعربية، كيف تدخل عالم هذا الرجل من غير مساند وداعم من عائلة هذا الرجل؟ خاصة وان جميع الاخبار تشير الى ان اغلب ابناء هذه العائلة المندائية قد هاجرت العراق لكن الصدفة وحدها تقودنا الى احد احفاد زهرون في محل صغير يقع في احدى مناطق بغداد من خلال قطعة صغيرة كتب عليها سبتي زهرون، لنعرف منه ان جده زهرون ولد في جنوب العراق لأب يدعى الملا خضر وسمي بالملا رغم ديانته المندائية لورعه وتقواه وقبره موجود الان في منطقة الزبير ويزار من قبل اهل البصرة ،لكن والكلام للحفيد حسام سبتي زهرون ان جده زهرون سكن مدينة العمارة وعاش فيها طيلة ايام حياته ووافاه الاجل فيها وقبره موجود فيها وكذلك بيته ،لذلك تجد اسم (عمارة) طغى حتى على اسم والده ليصبح لقبا لجميع افراد عائلته ، ومن ذرية واحفاد الملا خضر والد زهرون عالم الفيزياء واول رئيس لجامعة بغداد عبد الجبار عبدالله وغيرهم من الشخصيات
يدعي الموت هربا من السلطان
السلطان عبد الحميد الثاني
وعن الاسباب التي جعلت من الناس ان تلقبه بصائغ الملوك يقول حفيده حسام بعد ان ذاع صيته في البلاد لعمله المتميز في عالم الصياغة ،كثر عليه الطلب من الداخل وبالتحديد من الولاة العثمانيين، وفي سبيل ارضاء سلطانهم قاموا بتكليفه بعمل منحوتات وحلي وخواتم للسلطان ، وان من اهم الشخصيات التي كلف بصياغة اعمال لها هو السلطان عبد الحميد الثاني بتكليف من الوالي العثماني في العراق ،مبينا انه عمل له في البداية آركيلة من الفضة وشمعدانا ودلالاً من الفضة ، واواني للحلويات، وسماور من الفضة وقناني ماء الورد، وبعد ذلك توالت عليه الطلبات من قبل حريم السلطان لغرض ان يصنع لهن الحلي والمجوهرات ، فضلا عن الولاة العثمانيين في اغلب البلدان العربية، ولكثرة الطلبات عليه سواء من السلطان او الولاة وحتى الشخصيات العامة المهمة في الدولة كان يعمل تحت يده الكثير من الصاغة الكبار من اقربائه ، وهذا ماجعل السلطان عبد الحميد يرسل بطلبه لغرض الاقامة في قصره وتنفيذ مايريد وهذا مادعاه الى ان يوصل رسالة من خلال الاقرباء بانه قد توفي حتى لايذهب الى هناك، متحاشيا العمل مع السلطان مبررا ذلك بانه سيقيده ويحد من موهبته الفنية فضلا عن كونه له مسؤوليات كثيرة فقد كان مختار الطائفة الصابئية وممثلها في الدوائر الرسمية ويرعى مصالحها وبيته مفتوح للجميع لحل مشاكلهم ، وهو رب اسرة مكونة من ثلاث زوجات مع الاطفال والاخوان والاخوات والاقارب، فضلا عن تفرغه للصياغة وهذا ماجعله يترك فكرة السفر
الملك فيصل وملكة بريطانيا
بعد الاحتلال الانكليزي للعراق اصبح زهرون صائغ الملوك والامراء والساسة الكبار سواء من داخل العراق او خارجه كما يبين حسام ومنهم الملك فيصل الاول والملك غازي والجنرال مود، ومن خلال تكليفه من جميع هؤلاء صاغ للملكة اليزابيث والملك ادور عدة تحف وهدايا فضية تتباهى بها المتاحف الاوروبية الى يومنا هذا ، ويضيف الحفيد ان زهرون صاغ لوزير الحربية البريطاني ونستون تشرشل علبة سيكار من الفضة بتكليف من الجنرال مود ،وقد رسم على وجهها صورة تشرشل رافعا يده وفي الوجه الاسفل صورة المدمرة البريطانية فكتوريا ،وكذلك صاغ عدة تحف فضية لفاروق ملك مصر ، ويعد زهرون اول من ادخل الالوان او ماتسمى بالمينا الى العراق بواسطة فرن الصياغة الذي قام باستيراده من الهند، مضيفا ان زهرون شارك في عدة معارض خارج العراق وبدعوات من تلك الدول مثل فرنسا وبريطانيا وتركيا وايران والعديد من الدول الاوروبية ، وله تحف فنية محفوظة في تلك الدول
لؤلؤ امراء البحرين
اعمال زهرون الان تعرض في المزادات العالمية الكبرى كأية اعمال فنية ذات قيمة كبيرة، وعمله يعرف من قبل الخبراء في هذه المهنة من بين الاف الاعمال لبصمته الخاصة في العمل، واوضح حسام ان اغلب امراء وملوك الخليج في ذلك الوقت كان صائغهم الاول زهرون ، بل انهم حين ينوون الزواج وخاصة من امراء البحرين كانوا يأتون باللؤلؤ بكميات كبيرة ويعطونها لزهرون من غير عد او وزن ويطلبون منه ان يعمل لهم قلادة او اقراطا واساور من اللؤلؤ،
مملحة من اعمال زهرون
ويروي حفيده ان والده اخبره انه في احد الايام جاءه احد عماله الذي رزق بمولودة وطلب منه ان يصنع اقراطا لطفلته من لؤلؤ احد امراء البحرين فقام بتوبيخه وطلب منه ان يستأذن من الامير في طلب ذلك لانه صاحب المادة ،وحين جاء الامير لتسلم مصوغاته روى له زهرون تلك الحادثة ،اندهش الامير وقال له يازهرون المال مالك ونحن نثق بك ثقة عمياء فلماذا حرمته من هذا الطلب البسيط، وقام باهداء العامل مايريد من اللؤلؤ الفائض، وهذا دليل امانته التي اشتهر بها ، مبينا ان زهرون كان لايتكلم اثناء العمل بينما شقيقه هرمز كان كثير الحديث وصاحب نكتة ، لذا تجد في نهاية النهار ان انتاج زهرون من التحف اضعاف ماينتجه هرمز وبقية الصاغة من العائلة
نور الشريف
ورث المهنة بعد زهرون اولاده حسني وسبتي والكثير من افراد العائلة مثل (اسمر) و(ناجي) وغيرهما ،و حسني مثلا نال شهرة واسعة واشترك في احد المعارض التي اقيمت في باريس والعديد من الدول الاوروبية والاسيوية وقام بصياغة العديد من التحف لسياسيين كبار في حكومات قاسم وعارف وحتى شعار البنك المركزي العراقي قام بصياغته ، وكذلك بالنسبة لولده سبتي الذي دخل الى محله في الثمانينيات من القرن الماضي كما يقول حفيد زهرون الممثل المصري نور الشريف وزوجته بوسي وابنتهما مي التي هي مخرجة الان وصاغ لهم والدي خاتما للممثل ولزوجته اقراطا ولابنته قلادة، ومن الشخصيات الاخرى التي صاغ لها والدي الممثل العالمي انطوني كوين حيث صاغ له ميدالية وسوارا في سبعينيات القرن الماضي، اما بالنسبة له فقد صاغ للعديد من الشخصيات السياسية ،فمثلا صاغ لجون بايدن بتكليف من مسؤول عراقي رفيع المستوى مسلة حمورابي وكذلك للسيد عمار الحكيم ايضا مسلة حمورابي بحسب قوله..
شارك بصياغة اول الدساتير
الحديث عن السير زهرون كما يحلو ان يخاطبه ملوك وامراء اوروبا يطول ، لان الرجل مسك اكثر من تفاحة ذهبية بيد واحدة، وحين تشاهد المطرقة والسندان اللتين كان يستخدمهما زهرون بعمله تذكر قول نيتشه ليست الاعالي هي التي تخيف بل هي الاعماق ،بالتاكيد ولكنها تخيف باهميتها فكلما اوغلت بتاريخ اي مبدع او رائد في اي نوع من الابداع تجد مايخيف ويدهش من حيث الاهمية ، فزهرون عمارة فضلا عن كونه صائغ الملوك والأمراء والمشاهير فهو رسام ونحات ويجيد التحدث باربع لغات وهي العربية والانكليزية والتركية والفارسية بالاضافة الى اللغة المندائية ، وهو من مثل طائفته في صياغة اول دستور للدولة العراقية وينتسب اليه العديد من العلماء والادباء والفنانين،ومايحضرنا منهم والكلام لحفيده ابن اخيه الشاعر والصائغ عباس والد الشاعرة لميعة عباس عمارة ،ومن نسله ايضا الشاعرعبد الرزاق عبد الواحد ، والفنانة سهام السبتي، واحد احفاده عالم الرياضيات و مدير البنك المركزي في السويد وغيرهم من اعلام الفكر والعلم والادب والفن
من السومريين الى زهرون
وختاما نستطيع القول وحسب ماتشير اليه جميع الدراسات ان فن الصياغة اختصت به طائفتان فقط وهما اليهود والصابئة ، وهو موروث سومري ومايؤكد ذلك هو اكتشاف القبور الملكية في أور التي ادهشت المستكشفين والمنقبين من خلال الحلي والمجوهرات التي عثروا عليها في تلك المقابروالآثار، والصياغة هي فن قائم بذاته ومعناها اعطاء المعادن النفيسة قيمة جمالية من خلال الاشكال والزخرفة ونوعية العمل ، وجميع الدلائل التاريخية تشير الى ان اشهر الصاغة ليس في العراق فقط وانما في العالم هم الصابئة ويتربع على عرش هذا الفن هو الصائغ الراحل زهرون الملا خضرعمارة، الذي لم توثق حتى ذاكرة حفيده تاريخ ولادته ويوم وفاته ، لكنه الى يومنا باق كفنان كبير تروي تحفه الفنية الرائعة لمسات الابداع لهذا السومري الكبير
ألا يستحق زهرون الذي حفر بأنامله أجمل التحف الفنية، التفاتة من قبل القائمين على الفن نصبا يخلده في وسط مدينته العمارة؟
المصادر:
مقالة السيد يوسف المحمداوي عن الصاغة
1266 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع