رحلتي الى بلاد المغتربين الكلدان
لم يكن يخطر ببالي يوماً أنني سأسافر الى بلاد هاجر اليها بعض من طلابي الذين كنت ادرسهم في ثانوية العروبة للبنين ببغداد قبل أكثر من نصف قرن من الزمن ، ومنهم أولاد عائلة البقال الكلدانية الآرامية، عادل وايوب وباسل .
الذين فوجئت بدعوتهم لي لزيارتهم في ديترويت بالولايات المتحدة الامريكية التي أصبحت مستقراً لهم بعد هجرتهم من العراق . كنت قد درستهم وأنا في التاسعة والعشرين من العمر ، وها هم يدعوني لزيارتهم وانا على اعتاب الثمانين بعد ان اطلعوا على صفحتي في الفيس بوك ، ليتواصل معي تلميذي النجيب عادل بقال ، فرحاً مستبشراً قائلا لي اننا طلابك الذين نفخر بك وبتعاملك الأبوي معنا يوم لم يكن هناك من يفرق بين دين ومذهب وقومية . لكن الزمن اضطرهم الى الهجرة ليصبحوا رجال أعمال مرموقين في مجتمع الكلدان العراقيين في ولاية ميشيغان بمدينة ديرويت الامريكية .
كم فرحت وهم يبثون لي مشاعرهم وحنينهم لبلدهم العراق ، ويستحضرون ذكرياتهم الجميلة في المدرسة وفي البيت والمدينة ، انهم متمسكون بعراقيتهم وإن كانوا قد غادروا بلاد الرافدين الى الأبد . كيف لا وهم يعتزون باصولهم الآرامية التي تعود الى الدولة البابلية الكلدانية وقائدها نبوخذنصر الثاني باني الجنائن المعلقة وبوابة عشتار الشهيرة في بابل . ولكي لا ينسى أولادهم وأحفادهم ، ومجتمع الكلدان عموماً تلك الانجازات الحضارية التي يفخرون بها ، فقد أقاموا متحفاً خاصاً لرموز تلك الحضارة البابلية ، وجناحاً يحكي قصة هجرة الكلدان العراقيين الى ديترويت ، الذين شقوا طريقهم خلال سنوات طوال من العمل المضني ليصل أغلبهم الى ما وصولوا اليه اليوم من مكانة متميزة في بلادهم الجديدة في ديترويت ، بلاد الكلدان المسيحيين الآراميين العراقيين ، الذين لم يعزلوا أنفسهم عن بقية العراقيين من المسلمين ، بل أسسوا لعلاقات جعلت منهم جميعاً مجتمعاً عراقياً متجانساً لا يفرق بين مسيحي ومسلم ، فالاستاذ شاكر الخفاجي والدكتور يوسف الكيلاني صديقان حميمان للاخوين عادل وأيوب بقال ، تربطهم جميعا ًالمحبة والاحترام ، وهم نموذجاً للعلاقات الرائعة داخل المجتمع العراقي في ديترويت. هذا المجتمع الذي أطلق أفراده على مطاعمهم ومحلاتهم أسماء عراقية اعتزازا ببلدهم الاصلي العراق ، فتجد في مطعم عشتار ومطعم زرزور ومطعم خلف ومطعم المسكوف ومطعم الباجة أشهى وأجود الاكلات العراقية .
وتمتاز الجالية الكلدانية التي تشكل الأكثرية في ولاية ميشيغان بصفات ذات طابع انساني في التكافل والتلاحم والتعاون ، ويظهر ذلك واضحاً في الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليمية والثقافية التي تقدمها مؤسسة الجالية الكلدانية التي زرتها بصحبة الاخ العزيز عادل بقال ومديرمشاريعها الدكتور عضيد ميري المعروف بكتاباته عن بلاد سومر واكد وبابل في المجلة التي تصدرها المؤسسة باللغة الانكليزية ، والذي تفضل مشكوراً فقدم لي شرحاً وافياً عن هذه المؤسسة التي شيدت بنايتها الجميلة بأموال المتبرعين من ميسوري الحال من أبناء الجالية الكلدانية ،
والتي زينت جدران قاعاتها وممراتها برسوم ومنحوتات بابلية تذكيراً للاجيال القادمة بتراث وحضارة بلادهم ، بلاد الرافدين . وتدير مؤسسة الجالية الكلدانية برامج خدمية متعددة ، بما فيها برامج لذوي الاحتياجات الخاصة يتم تمويلها بالكامل من تبرعات افراد المجتمع .مما يدل على الرقي والسلوك الحضاري الذي يمتاز به ابناء هذه الجالية العريقة في تاريخها وتراثها العراقي الأصيل .
ولكي يكون للكلدان المسيحيين الكاثوليك مكاناً خاصاً بهم وللقاءاتهم وفعالياتهم الاجتماعية ، فقد أسسوا نادي شناندوا الاجتماعي في ضواحي مدينة ديترويت ، وهو من النوادي المعروف ببنايته الفخمة وقاعاته الفسيحة الجميلة وحدائقه الغناء وساحات ممارسة الرياضة بكافة أنواعها ، فهو جزء من الهوية الكلدانية الامريكية ،الذي يجمع أبناء الجالية ويزيد من روابط العلاقات الاجتماعية فيما بينهم ، اضافة الى حرص ادارة النادي على جعله وسيلة للحفاظ على الذاكرة التاريخية والعادات والتقاليد التي نشأت عليها الجالية في العراق ، لكي تبقى الأجيال القادمة مرتبطة بوطنها هذا .
ليس هذا فقط بل وللكلدان الكاثوليك المسيحيين جمعية عريقة تحمل اسم العراق منذ تأسيسها في سنة 1943 وهي الجمعية الكلدانية العراقية الامريكية في ميشيغان ، وللجمعية بنيان شامخ في قلب مدينة وست بلوفيلد ، وهي واحدة من ارقى ضواحي ديترويت .
ومن أجل ادامة الصلة المباشرة بين افراد المجتمع الكلداني في ديترويت، ولاسماع صوتهم وتمتين علاقاتهم ،فقد تم تأسيس اذاعة صوت الكلدان باللغات الكلدانية والعربية والانكليزية التي لها حضورها بين افراد الجالية.
وفي تقديري فان أبرزظاهرة للتكافل الاجتماعي الكلداني المسيحي هو مشروع رجل الأعمال الاخ باسل بقال الانساني الخيري الكبير في رعاية وانقاذ العراقيين المسيحيين الذين شردوا بعد عام 2003 بسبب الاضطهاد الديني والطائفي في العراق ، فقد أسس هذا الرجل المعطاء ذو السجايا الانسانية الرائعة مشروع (تبني عائلة لاجئة ) ترعى وتتابع المهجرين في العراق والاردن ولبنان ، وصار لهذا المشروع منظمة مرخصة رسمياً لها فروعها وكادرها بحيث بلغت المعونات التي قدمتها للاجئين لحد الان 14 مليون دولار ، وهي تعمل من خلال مكتبها الرئيس في ميشيغان بكل جد ونشاط لتحقيق اهدافها النبيلة التي رسمها لها راعي المشروع الاخ باسم بقال .
ولكي يوثق تاريخ الجالية الكلدانية ونشأتها وكفاحها فقد قام الاخ ايوب بقال باصدار كتاب باللغة الانكليزية بعنوان (الكلدانيون في ديترويت ) عام 2014 ، ثم اعقبه بكتاب آخر عام 1918أكمل فيه ما بدأه في الجزء الاول . ولا شك ان هذا الانجاز العلمي له اهميته في تدوين تاريخ هجرة الكلدان من العراق الى الولايات المتحدة الأمريكية ، و تطور مجتمع الكلدان العراقيين فيها ، وما أنشأوه من مؤسسات ونواد وجمعيات اجتماعية ونشاطات اقتصادية ناجحة . ومما أعجبني في هذا الكتاب اسلوبه في الجمع بين الصورة والمعلومة في الصفحة الواحدة بحيث لا يمل القاريء منه ، بل يشوقه لقراءته كاملا ، وهذه ميزة فريدة من نوعها في التاليف والكتابة والنشر.
قبل سفري الى بلاد الكلدان الآراميين المغتربين العراقيين في ديترويت وسانتياغو ، حدثني دبلوماسي عراقي عن كرم ودماثة اخلاق ابناء الجالية الكلدانية ، لكن الذي لمسته وشاهدته مع عادل وايوب وباسم يفوق الوصف في اكرام الضيف واحترامه ، فكيف به اذا كان استاذهم الذي درسهم التاريخ قبل خمسين عاماً ، ليجدهم اليوم ينهلون من ذلك التاريخ بطباع وكرم حاتم الطائي ، بل يفوقونه في الوصف وأنا لا ابلغ بذلك مطلقاً. فشكراً لتلاميذي النجباء الأوفياء عادل وأيوب وباسل ونسيبهم سيفي الذين بذلوا كل جهدهم لاسعادي في رحلتي اليهم . ولن أنسى ما حييت وجوه آل البقال الممتلأة بشراً في ضحكات عادل وقفشاته، واهتمامات أيوب التاريخية وجديته ، وهدوء باسل وشاعريته، وحيوية سيفي وابتسامته . فلهم مني ولعوائلهم الكريمة كل المحبة والاحترام والاعتزاز متمنيا لهم ولجميع العراقيين المغتربين في ديترويت دوام التقدم والسعادة والسلام .
1180 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع