رحلة مع الغجر في العالم
بلا أرض ولا هويّة، يقتاتون من السحر والرقص والعزف، الغجر شعبٌ هندي يغزو العالم.
الغجر هم أكثر شعب انتشاراً على الأرض، لا أصل لهم سوى عاداتهم وتقاليدهم، الغجر ليسوا أقلية، أو طائفة، ولا أتباع ديانة منسيّة، بل هم شعب يقال إن هجرتهم الأولى انطلقت من الهند، ثم انشطروا إلى جماعات، اتخذوا من الترحال مصيراً لهم، وانتشروا في كل أصقاع الأرض، مؤمنين أن كل الأرض هي وطنهم.
حددت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في العام 1992م، أن اليوم الثامن من نيسان من كل عام، هو اليوم العالمي للغجر، وذلك للتذكير بمعاناة الغجر حول العالم، وما يوجهونه من تمييز واضطهاد، إلى جانب التعريف بثقافتهم والاحتفاء بها، وللغجر أسماء مختلفة باختلاف اللغات والأماكن التي يتواجدون فيها، وهم من بين الشعوب التي تعرضت للاضطهاد من قبل الحكم النازي.
في أواسط القرن الخامس عشر (1440م تقريبا) وصلوا إلى مناطق المجر وصربيا وباقي بلاد البلقان الأخرى، ثم بعد ذلك انتشروا في بولندا وروسيا، واستمر انتشارهم إلى أن بلغوا السويد وإنجلترا في القرن السادس عشر الميلادي، كما استوطنوا في إسبانيا بأعداد كبيرة.
للغجر تاريخ طويل من المعاناة، حيث تعرضوا لممارسات عدوانية من الشعوب على مر التاريخ، حيث تم الترحيل القسري لهم، وعدم الاعتراف بهم كمواطنين في البلدان التي يقيمون فيها، حيث تم ترحيلهم من مناطق عديدة في أوروبا، ولم يقف الأمر عند ذلك بل أصدر ملك بروسيا عام 1725م، بقتل كل غجري يتجاوز الثامن عشر عاما.
وفى عام 1929م، تم صدور قوانين تلزم الغجر، الذين ليست لديهم مهنة ثابتة في ألمانيا بالعمل القسري "السخرة"، وقد طبق هذا النظام في عدد من الدول الأوروبية.
وعرفوا الغجر على حسب قانون نورمبيرج لعام 1935م بأنهم شعوب غير مرغوب بها، فكان يمنع عليهم الزواج من الألمانيات، كما صنفوا على انهم مجموعة منغلقة على نفسها، في فانوان 1937م، وهي تهمة تعد جريمة جنائية.
وكان لهتلر أيضا موقف ضد الغجر، حيث أنشأ مكتبا مركزيا لمكافحة خطر الغجر، وكانت الوظيفة الأساسية لهذا المكتب هي فرز الغجر الأنقياء من الغجر المختلطين، وقد تمت العديد من الممارسات العنصرية ضدهم في ذلك العهد، حتى وصل بهم الحال إلى وضعهم في زرائب، ذات سياج كما توضع البهائم، وسمح هتلر بقتلهم في المعسكرات المختلفة، بسبب الجوع والتعذيب، وأيضا وبسبب استخدامهم كمادة للتجارب، وكانت أكثر العمليات إبادة للغجر هو في نهاية الحرب العالمية الثانية حيث قتل منهم 15000 غجري من أصل 20000 كانوا يعيشون في ألمانيا.
وقد تسبب المفهوم العنصري الذي رسخ في عقلية المجتمع الغربي أن البشرة السوداء تعني التخلف والانحطاط والشر، وهو ما جلب كثير من المتاعب للغجر. فقد كانت البشرة السوداء التي يتميز بها الكثير منهم، علامة وسببًا في أن يصبحوا ضحايا لهذا التعصب، وحتى في آسيا كان هناك تفضيل للبشرة المائلة إلى الشقرة، وقد كتب الراهب “كورنريس في لوبيك” تقريرا عن الغجر في سنة 1417م وصفهم بأنهم أصحاب (أقبح وجوه سوداء. تلك التي تشبه وجوه التتار)، وقد أوضح أحد الأمثال الشعبية كيف أن الناس يقارنون بين الظلام والسواد وبين بشرة الغجري. فالمثل يقول (نفس الشمس تجعل الكتان أبيضًا والغجري أسودًا)، ويتداول الإيطاليين والهولنديين مقولة (أسود مثل الغجري).
وقد كان جهل الغجر بأصولهم وجذورهم، وعدم وجود روابط تربط بينهم وبين أي منطقة معروفة، عاملًا من عوامل إثارة الشكوك حولهم، وقد كتب أحد الكُتاب عنهم أنهم (جنس يهودي اختلط بعدد من المسيحيين المشتتين).
عندما ظهر الغجر لأول مرة في أوروبا، كانوا يشبهون المهاجرين من آسيا، وقد وفد الغجر في شكل جماعات صغيرة تضم كل جماعة عدد من الأسر، وقد كانوا يبحثون عن فرص للعمل، ولممارسة تجارتهم ومهنهم التي تخصصوا فيها، ولكن لم تتح لهم فرصة السكن في المناطق السكنية، كما أتيحت لغيرهم من المهاجرين، فقد ازدحمت كل المناطق بالمهاجرين من مختلف الأجناس، ولم تتوفر لهم أماكن إلا في المناطق المتطرفة الهامشية، وكان عليهم أن يبذلوا جهدهم لكي يجعلوا هذه الأماكن صالحة للمعيشة، ولممارسة حرفهم ومهنهم.
في العصور الوسطى ازداد شك وكراهية الغجر، وظهر ذلك في صورة معارضة شديدة للغجر من قبل الثلاث قوى الرئيسية في أوروبا، وهي الكنيسة والدولة ورؤساء النقابات الحرفية والتجارة، وأصبح الغجر يلقون رفضًا قويًا لم يحدث بهذه الدرجة في أي وقت مضى، وصدور القوانين ضدهم كان من أقوى التهديدات لهم، وقد أضاف تقلص مهنهم التقليدية أمام منافسة، وغيرة النقابات الحرفية الأخرى إلى مواجهتهم بصعوبات أخرى، ولم ينجح الغجر في أية حرفة عملوا فيها سوى العمل في المعادن والحدادة، وبعض الحرف الصغيرة الأخرى، وعملوا أيضا في حرفة صناعة الأوعية والأدوات، وفي الصرب تفوق الغجر على الحدادين المحليين وحلوا محلهم، لأنه ثبت أن ما يعملونه بأيديهم كان أجود مما يعمله غيرهم.
وقد أدت هذه الضغوط إلى أن يمارس الغجر بعض الجرائم، وأن يلجؤوا إلى الاحتيال، وقد كانت إقامتهم في المناطق الهامشية من البلد عاملًا من عوامل الشك فيهم، وقد أدت المنافسة الشديدة التي تعرضوا لها، إلى أن يفكروا في استخدام ذكائهم، وملكاتهم، لكي يستطيعوا العيش، وأن يمارسوا السرقات الصغيرة والكبيرة حينما يتمكنوا من ذلك، وقد كانوا يشبهون في أوضاعهم الشحاذين الدائمين، وبدأت تتكون في العقلية الشعبية صورة غير مرغوبة عن الغجر، وقبل أن تمضي خمسين سنة على دخول أول جماعات غجرية إلى غرب أوروبا، بدأت السلطات تتلقى شكاوى متزايدة عن الغجر، ووجد ملاك الأراضي أن الغجر يحاولون أن يلهوا المزارعين بصرف انتباههم عن عملهم ثم يسرقوهم.
وقد صاحب هذه الظواهر، شيوع كثير من الأقوال الشعبية، عن سرقات الغجر وعدم أمانتهم، ففي المجر ينتشر أحد الأقوال وهو (يمكنني أن أرى فيه غجري) ويعني أن صفة الاحتيال واضحة فيه، وظهر ت بعض الأمثال في روسيا تربط بين الغجر وبين السرقة مثل: (إن الغجري لا يسرق من مكان قرب معسكره)، (الغجري لا يسرق غجري).
وقد اتهموا في الدول الإسكندنافية بأنهم يتجولون في البلاد، يخدعون الناس بالكذب والسرقة والاحتيال، وأشار القانون البرتغالي بوضوح في نفس السنة إلى الكثير من الجرائم التي يرتكبها الغجر، وإلى العرافة التي يدعون معرفتها، والنقطة الهامة التي يجب أن نلاحظها أن فئة الغجر المنحرفة التي صدرت ضدها هذه القوانين كانت لا تتعدى عدة آلاف غجري، منهم الذين أصبحوا خارجين عن القانون، ولكن نظرًا لتعدد أعمال السلب، ونظرًا لأن حركتهم بين المناطق المختلفة أصبحت سريعة، فقد بدا للسلطات أن أعدادهم كبيرة وأنهم يوجدون في كل مكان.
والكنيسة شجعت مثل هذه القصص، أو على الأقل لم تحاول أن تتصدى لها. عندما قيل عن الغجر إن الله لعنهم لأنهم رفضوا أن يأووا العذراء في خيامهم، أثناء هروبها مع يوسف النجار والطفل يسوع إلى مصر، وقد حاول بعض الغجر التخفيف من هذه التهمة، بأنهم ادعوا أنهم كانوا في فترة تجوال طويلة قضوها مشردين كعقوبة لهم على اقترافهم هذه الجريمة. وهذا ما جعل هناك فرصة أكبر لتصديق القصة. وتتداول في إيرلندا قصة المسمار الذي صنع لصلب المسيح وظل متوهجًا لا يطفأ يطارد الغجري المتجول في كل مكان.
وفي نفس الوقت ساندت سلطة الإكليروس القوانين الصادرة ضد الغجر، وقد شاهد أعضاء مجلس كنيسة أبردين في إنجلترا سنة 1608م رجلين يبيعان اللحم والمشروبات للغجر، فكان عقابهما هو أن يركعوا أمام الناس قبل الصلاة يوم الأحد تكفيرًا عن خطيئتهما.
ولم يبدأ اهتمام الكنيسة بخدمة الغجر، والاهتمام بهم إلا مع بداية القرن الثامن عشر، وما اتسم به من طابع إنساني، فقد نظمت في إنجلترا أول إرسالية دينية عام 1815م، وقامت الطوائف البروتستانتية بإرساليات تبعت إرسالية إنجلترا، وقد بدأت في ألمانيا، وأقام قس كاثوليكي مدرسة للغجر في المجر عام 1850م.
وأكّد المؤرّخون والخبراء بشؤون الغجر أن إقليم البلقان هو الموطن الثاني للغجر، ويُرتّبون ويُصنّفون اللهجة الرومانية لغة الغجر على أنها لغة هندية، وهذا التأكيد على الدور المهم الذي لعبته أرض البلقان في تشكيل ثقافة ولغة الغجر ليس مجرد تعبير متفق عليه فقط، وإنما هو تعبير مبني على بحث علمي جاد خلال رحلتهم من أقصى الهند إلى وسط وغرب أوروبا.
استقرّ الغجر الرومانيون في شبه جزيرة البلقان لقرون عديدة، فيما بين القرنين التاسع إلى الحادي عشر الميلادي، وحيث أنهم بدأوا دخول غرب أوروبا خلال القرن الخامس عشر فقط، فلابد أنهم عاشوا في إقليم البلقان مدة خمسة قرون على الأقل، وكان لذلك تأثير واضح على تطور الخصائص الرئيسة للغجر كجماعة بشرية وعلى ثقافاتهم، بما في ذلك اللغة بالإضافة إلى أن أعداداً كبيرة من الغجر قد بقيت في البلقان مقيمين فوق أرض الإمبراطورية العثمانية وولاياتها، خاصة عند مراكز نهر الدانوب لمولدافيا، وبالتالي في الولايات التي أُقيمت داخل حدود الإمبراطورية السابقة للدولة العثمانية، وهي ولايات ظلّت على ارتباط بتلك الإمبراطورية، أمّا في العصور الحديثة فقد هاجرت أعداد كبيرة منهم عبر العالم، بما في ذلك ما يطلق عليه الغزو الكبير لطارقي النحاس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، شكلت موجات الهجرة من يوغوسلافيا السابقة في ستينات القرن العشرين حتى ثمانياته، كالهجرة إلى رومانيا التي أعقبت تغيرات عام 1989م في أوروبا الشرقية، وتلك التي يمثّلها اللاجئون في البوسنة وكوسوفو، وقد حملوا معهم آثاراً ملحوظة للتلاقح الثقافي واللغوي مع الشعوب الأخرى، التي سيطرت على إقليم البلقان.
ويعود أول ذكر للغجر في وثائق الضرائب للإمبراطورية العثمانية عام 1430م، وهو موجود في سجل التيمارز مسجل به 431 أسرة غجرية يمثلون 3.5% من جملة المُسجّلين بوجه عام، وتفيد وثائق محفوظة أن الغجر المسلمين، قد مُنعوا من الاختلاط بالغجر المسيحيين، وكان عليهم أن يدفعوا ضريبة أعلى لو وقعوا في ذلك، إذ على المسلم أن يعيش فقط بين المسلمين، وإذا خالف فعليه أن يدفع ضريبة الرأس، بنفس القيمة الضريبية المفروضة عليهم، والقراران متعارضان فالممارسات المعتادة على أيه حال، أن يقوم المسيحيون بسداد ضريبة أكبر من المسلمين.
واستمر استخدام الغجر في الجيش العثماني حتى نهاية القرن الثامن عشر، إذ يذكر راهب صربي في تقاريره السرية، التي كان يرسلها للجيش النمساوي عام 1737م، أن دفاع مدينة كوسوفو قد تُرك بأيدي الغجر، في حين قام الغجر بأداء دور في الدفاع عن كوسوفو ضد الغزاة النمساويين عام 1788م مرة أخرى، وقد عمل الغجر في ظل العثمانيين في العديد من المهن وخاصة الموسيقى.
في كل مكان يقوم الغجر بالعزف والغناء بسرور مستخدمين آلات الفيولين والأشبه بالآت السيمبالو والطمبورة، وكلها تشبه الجيتار ولكنها تحوي خمسة أوتار فقط، وكانت الآلة الموسيقية الأهم آنذاك الزورناس وهي نوع من آلة البورا، ثم آلات النقر (الطبول)، والتامبورين والوتريات وكان يرقص على موسيقاهم نساء يطلق عليهن (الشنجي)، وأحياناً كُنْ من النسوة اليهوديات، اللواتي كُنّ يقمن بتسلية الموظفين الأتراك، والتسرية عنهم (بالإضافة للرحّالة الأجانب) في الحانات والمنازل.
ولابد من الإشارة إلى وجود حرفة نادرة إلى حد ما، وهي مهنة تمارسها نساء الغجر في الإمبراطورية العثمانية، كن يشتغلن في مهن غير قانونية في مقاطعة روميليا وإسطنبول وصوفيا وفيليبي مقابل ضريبة مرتفعة يدفعنها لتقنين الأعمال المنافية للآداب تحت ستار قانوني.
وبعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908 م، تم تقييد سلطات أسرة السلطان في الإمبراطورية العثمانية بصورة ملحوظة، واتخذت البلاد طريق الإصلاح السياسي، مما انعكس على مصير الغجر، الذين مازالوا باقين ضمن حدود الإمبراطورية، وداخل ولاياتها التي خضعت لها ذات مرة في البلقان، وهاجر منهم الكثير إلى بلغاريا وغيرها.
المصدر
عربي بوست
تاريخ الغجرـ ايلينا ماروشيكوفا وفاسلين بوبوف.
أغاني الغجر هانزيكون فويكت
1254 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع