النجف... مدينة الحزن وقوافل الزائرين
اشتهرت النجف بمساجد عريقة مثل مسجد الطوسي والهندي والترك والجواهري (أ.ف.ب)
تقوم المدن العراقية على خمسة مراكز، تتوزّع عليها "نطاق الحواف" كما في التخطيط الحضري والإقليمي، فمدن العراق غالبيتها قام على حوض النهرين العظيمين: دجلة والفرات، وأخرى تأسست على طرق القوافل التي توالدت للحاجة، وثمة مدن هي حواضر تاريخية تقوم على المخلّفات الأثرية، مثل بابل وأور وآشور، ومدن أخرى على الينابيع والعيون والبحيرات، مثل الرزازة والحبانية والثرثار.
مدينة النجف... دواعي التأسيس
يوجد نوعٌ خامسٌ من المدن تمتاز بخصوصية وحساسية مفرطة، وهي مدن المراقد الدينية الرئيسة، ومن أبرزها النجف، التي نمت على حساب جارتها اللصيقة الكوفة الأقدم، التي بناها العرب المسلمون، هي والبصرة والكوفة في 14 - 17 للهجرة، وقامت النجف بعد خمسين عاماً تقريباً بعد الكوفة، بعد دفن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب.
خصوصية النجف التاريخية
للنجف قصةٌ طويلةٌ، كونها كانت مركز الأديرة والرهبان الموحدين في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، وهي هضبة عظيمة تُحيطها المياه في العصور الغابرة لتشكّل بيئة مميزة نتيجة خصوصية جغرافيتها وتاريخها معاً، إذ قاومت هضبة النجف الغرق طيلة تاريخها رغم أنها تجاور بحر "الني" الذي جفّ.
من هنا جاء اسمها النجف حسب الروايات حولها، وفيها أقيمت الأديرة والكنائس في الفترة التي سبقت الإسلام، حتى إنّ هناك ما يقرب من خمسين كنيسة مندرثة بُنيت فوق هضبتها.
النجف... المدينة الشيعية الأهم بالعالم
حاضرها يشهد أنّها من أهم مُدن التشيّع العربي بالعالم التي تتوسط العراق الحضاري والسكاني، وتعدُّ النجف خامس محافظة من بين 18 في عموم العراق، وتتمحور حولها الثقافة العراقية العميقة والمثالية تاريخاً وارثاً ووقائع، بل هي النقطة الحرجة بين الثقافات العراقية كلها، قامت فيها مدارس الفكر والرأي والاجتهاد، ومدارس الحكم والسلطة معاً.
كل ذلك ولسبب مرجّح لأنها مدينة الخليفة الرابع للمسلمين الراشدين علي بن أبي طالب، فعلى أرضها تناحر التاريخ، واحتشدت السيوف وصولات الفرسان.
مؤسستان تقتسمان النجف
النجف اليوم مدينة تتقاسمها مؤسستان للسلطة والنفوذ والريع، الأولى تتمثل بالمرجعية العليا للشيعة بالعالم التي يتولاها علي السيستاني وابنه محمد رضا وكيل والده والقيّم على شؤون وشجون مؤسسة المرجعية الدينية والسلطة الثيوقراطية المعروفة، والثانية مدارس العلم والفقه والتجارة التي تمثلها أسر نافذة تاريخياً تتولى إدارتها وتجارتها وتصريف أموالها وعائداتها بتنسيق دقيق يعرفه الخاصة ويجهله العامة، يحاط بنوع من السرية والخصوصية والقداسة معاً.
سور النجف... الفاصل بين مجتمعين
مدينتان معنويتان تتحكّمان بالمجتمع النجفي، الحد الفاصل بينهما سورها التاريخي الذي ظل قروناً منذ العهد العثماني، حتى انكشافه إثر توسّع المدينة وتطورها السكاني بُعيد الحرب الثانية نهاية الخمسينيات، فكل ما يلامس مركز المرقد هو لأهل النجف، خصوصاً الأسر السليلة الحسب والنسب والمكانة والوظيفة الدينية والحضارية.
ويشاركهم وافدون جدد من علماء الدين الأعاجم وأسرهم من بلدان كثيرة، تقبّلهم المجتمع النجفي على مراحل وعقود ومصالح متنامية من التخادم والتنافع للشراكة في الاستزادة العلمية والمصاهرة، لكنهم ظلوا وافدين مرحباً بهم.
أمَّا الأسر العراقية التي قَدِمت إلى النجف، وجلهم من أبناء القبائل العربية، فظلّت قريبة من المقام للزيارة والتبرك وحماية المرقد ونجدته تاريخياً، النافذون منهم استوطنوها عن قرب، والآخرون سكنوا أحياءً حول السور بين الكوفة والنجف، ليكوّنوا مجتمعاً قبليّاً حضريّاً، للدرس والعيش ينهلون من مدارس النجف العلمية في الفقه واللغة والتجارة، ويسكنون في أحياء حديثة نسبياً.
أبرز الأسر النجفية داخل السور
أمَّا أبرز الأسر النجفية العربية (داخل السور) والمتواشجة في التعايش والتفاهم وهي الآن في تصاهر في بوتقة ثقافة يغلب عليها الطابع الديني والتقليد الاجتماعي في المأكل والملبس، بل حتى اللهجات المفخمة التي تأثرت بنطق الأعاجم في الاستهلال ومدّ الحروف، من أبرزها أسر: الصدر، وآل الحكيم، والسادة الصافي، وآل سيد سلمان والرفيعي، وأبو كلل، والحبوبي، وأبو طبيخ، وبحر العلوم، وكاشف الغطاء، وآل الجواهري، وأسرة شبر والمخزومي، وأسرة آل سميسم والجصاني، وشمسة وكمونة، ومحبوبة، وآل الحلي، وبيت الحلو، وجمال الدين، شعبان، الدجيلي، وشبر والشمرتي وجريو، وعجينة، والصراف، والأعسم الواعظ بيت مرزك، والشرقي والقزويني، والجزائري وشلاش، وغيرها من العوائل النافذة، تشاركهم أسر عربية قَدِمت من جبل عامل كآل مروة وشرارة وآل عسيران، وفحص، وآل الطفيلي، وآخرون.
وتتوزّع هذه الأسر على أربع حارات رئيسة حول المرقد هي: (المشراك، والبراك، والحويش، والعمارة)، ويتركز غالبية رجال الدين والعلماء وأساتذة الفقه في حيي (الحويش والعمارة) اللذين تحولا إلى حيّ للمكتبات، تمتد منه الجامعات الدينية الفقهية والبلاغية.
علماء النجف... ظاهرة الثقافة العراقية
وللنجف خصوصية في التعايش الديني التاريخي بين سكّانها، فقد وطنها أسر علمية قدمت من مشارق الأرض ومغاربها طلباً للعلم ورغبة في التوطين قرب مرقدها تحدوهم أمنية الدفن فيها في معتقد المباركة والسلام قرب أولياء ورجال دين أعلام من الصحابة ومن بين من استوطنها منذ مطلع القرن الماضي أسرة المرجع سيد أبو الحسن الأصفهاني، والزنجاني، والطبطبائي، والخوئي والبروجوردي، وآخرهم المرجع الأعلى علي السيستاني الذي قَدِم من سيستان وبلوشستان.
وأورد أحد النافذين من النجف، وهو من أسرة مرموقة، (أنّ هذا التدفق المتواصل على النجف من دون غيرها، إضافة إلى التشرّف بمقام الخليفة علي بن أبي طالب متأتٍ من مسعى طلب العلم والتبحّر بالفكر والمدارس الفقهية، ففي النجف تاريخ من العلماء العرب الأفذاذ منذ تأسست المرجعية الدينية على تاريخ المفيد والشريف الرضي، فإن التراتبية العلمية وصياغة مبادئ جوهرية بين العلماء لا علاقة لها بالأصل والقومية، بل بمستوى المعرفة والدراية بجوهر الفقه وعلومه، ونوع البحوث المتحققة، ورياديتها وقيمتها في حل المعضلات الفقهية، إضافة إلى الرؤية المتقدمة والجريئة في الفتاوى وتقديم الرسائل العلمية التي تخضع للحوار والمعاينة والنقد والمنهجية التي تعتمد الأصول الصحيحة، وتقديم الرؤية المتقدمة والتميز في الطروحات والاجتهاد والإحاطة الشمولية، التي تفتح آفاق الحوار وتطهير الذهنية المغلقة بحراك وشمولية واعتماد الدرس الذي هو حصيلة حلقات النقاش المستمر والمنهجي الذي يبدأ بـ"لواوين" الصحن الحيدري حول المرقد، حتى المدارس والجوامع الصغيرة والمساجد الكبرى).
مساجد النجف... مدارس للعلم والنفائس
واشتهرت النجف بمساجد عريقة، مثل مسجد الطوسي، والهندي، والترك والجواهري وسواها، وأخذت مسمياتها من بُناتها من الوافدين عليها الذين ينفقون أموالاً طائلة على النجف وشواغلها، وأبرزهم طائفة البهرة التي تقيم بالهند، التي تجلب بسخاء الثريات الذهبية والأبواب المرصّعة بالماس والجواهر لتُحلي مقام الخليفة علي بن أبي طالب، بل سعى ملوك وأمراء البويهيين والسلالات القاجارية للتبرع بتيجانهم وحُلّيهم لمرقد الخليفة الرابع في حياتهم، وحين وفاتهم امتلأت خزائن المرقد بمئات من تلك التيجان، كما فعلوا في كربلاء ومرقديها أيضاً، حيث تشهد المدينة انتعاشاً اقتصادياً حين يحل أمراء البهرة وهم محمّلون بالنفائس والأموال.
فقراء الشيعة... السؤال الأزلي
لم يتوان فقراء الشيعة من أهل النجف وسواها من مدن وقصبات العراق عن السؤال عن جدوى الخُمس ومآلاته؟ ولماذا لا يُنفق على فقرائهم ومدارسهم المتدنية المستوى ليغيروا في معادلة (سلطة مترفة لشعب جائع)؟!
المعروف أن علي بن أبي طالب عاش فقيراً، ناسكاً يضع الجمرة بيد أخيه عقيل بن أبي طالب حين طالبه يسأله حصة من بيت المال، ويقول له: "تألمت من جمرة، ولا تحسب نار جهنم؟!"، وهي حكاية يحفظها العراقيون جميعاً عن ظهر قلب.
"وادي السلام"... أكبر مقابر العالم
فقراء الشيعة يموتون كل يوم حتى امتلأت بهم مقبرة وادي السلام التي هي مدفن كل شيعة العراق من شماله إلى جنوبه، ووصية غالبية شيعة العالم وأمنيتهم أن يرقدوا بسلام في هذه المقبرة التي تطل على مدينة النجف، وتشكّل أكبر مقبرة موحدة في العالم، بل هي أكبر من مساحة المدينة نفسها في امتداداتها، وأضحت مزاراً، يؤمها الملايين من الناس ليتفقدوا موتاهم، ويتلوا عليهم الأدعية، ويرشوا على قبورهم الماء، ويوقدوا لهم الشموع!
معادلة ربما تبدو غير منطقية لحجم وكمية الأموال التي يمتلكها العراق، وعدد القبور التي يرقد فيها الفقراء المعدمون، وضحايا الانتفاضات التي شهدتها النجف وسواها من مدن العراق الذي يقول عنه شاعره السياب: (وكلَّ عامٍ حين يعشب الثرى نجوعْ ... ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ).
احتجاجات النجف داخل سور الانتفاضة الشعبية
شهدت النجف انتفاضة عارمة قام بها جيلٌ جديدٌ لم تتمكّن آليات المرجعية والبازار من ترويضه، ولا أن تغريه بالمناصب، أو تبقيه خارج أسوار الانتفاضة التي تشهدها البلاد في مدنه الشيعية، التي تطالب بإقصاء أحزاب السلطة ومحاربة الفساد الذي ينخر الجسد العراقي وتهدر ثرواته.
وحرق شباب النجف القنصلية الإيرانية مرات عديدة، ومزّقوا رمزيتها، ورفضوا التبعية الإيرانية التي يروّج لها بعض أعوان السلطة وميليشياتها، هذا الموقف كان مؤثراً كثيراً، لأنه على مرأى ومسمع من المرجعية التي لطالما أرادت أن تكون الأمور هادئة، وتُحسم سريعاً بتشكيل حكومة جديدة ومحاكمة الذين تسببوا بقتل العراقيين، وأولهم أبناء النجف، بينما تستمر السلطة وميليشياتها في التآمر والتنمر على التظاهرات من دون جدوى!
1106 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع