من تراث وفلكلور السليمانية /الطراز المعماري للقرية الكردية
المقدمة:
يصف المستشرق (ملنجن) البيت الكردي القروي: (يجب أن أعترف بأني لم انفر من هذا البيت، بل أعجبت به شكلا ومضمونا، وبدأت أدرك أن الشعب الكردي يتمتع بذوق جيد)، ويمكن اعتبار البيت الكردي (عمارة بالفطرة). وأضافت العناية الإلهية جمالًا خلابًا صعب الوصف، حيث تتزين المنطقة بالمناظر الطبيعية التي تُدخل البهجةَ بنفوس لسكان القرية، ويوجد كثير من القرى المتناثرة، ووهج الجمال يشع في مفاصلها، وتفوح بالعطر أزهارها، منها تعانق السحاب لما لها سحر جذاب وجمال أخاذ عندما تكون السماء صافية، والأجواء نقية، وسطوع البهاء يطل من بين جنباتها، ففي الليل تبرق أنوار قناديلها، وفي النهار تشدو طيورها المختلفة.
معظم القرى واقعة على سفوح الجبال وتشتهر هذه السفوح الجميلة التي تمثل لوحة فنية رائعة، فالسكان في قرائهم
يعانقون مهجة حفيف الأشجار المتراقصة، والأغصان المتمايلة، والثمار البارزة، وتنتعش روح القروي بصوت الرعد ولمعان البرق مع كل مداعبة ممطرة تتضاعف بهجة سكان القرى ويزداد ابتهاجها.
إن القرى الجبلية هي قرى عريقة، ضاربة في القدم، لاتزال تنبض بالمنازل القديمة، الواقفة والمتقاربة كتقارب قلوب سكانها، وهي التي بنيت من خامات البيئة، وبطريقة هندسية مرتبة، فالهيكل من الصخور أو اللبن الطيني، والأسقف من الأشجار، والحياة بسيطة، والمعيشة يسيرة.
والكردي في طبعه متواضع وزاهد ولا يميل للأبهة والتكبر، وانعكس ذلك على عدد الغرف التي يبنيها والتي لا تتعدى الغرفتان، بقدر احتياج أفراد عائلته.
يهتم القروي الكردي في بيوته الريفية بإيواء أنعامه خشية البرد والعواصف الثلجية أكثر من أي أمر أخر بحيث خصص لها مواقع ومساحات معتبرة في مسقط المنزل.
أما اليوم فلم يعد للقرية جاذبية، فأغلب سكانها نزحوا منها، واستوطنوا المدينة، رحلوا من أجل الرزق، وبسبب الوظيفة، على الرغم من توفر بعض مرافق الحياة الحديثة في القرية. لكن الحال بوجه عام محاصر بالإهمال، حيث لاتزال القرية تعاني من مشاكلها القديمة، كالطرق الوعرة، الضيقة، والمياه القليلة الصالحة للشرب، والصرف الصحي.
القرية الكردية تكون متوافقة مع طبوغرافية الأرض، ومع الوسط المحيط حولها، واستخدام المواد المحلية المتوفرة في البيئة المحيطة (طين، أحجار، سيقان وأغصان الأشجار) كذلك توافق مع المناخ على مستوى القرية باستخدام المنازل المتلاصقة، وضيق الطرق بين المنازل، وبالتالي الحماية من أشعة الشمس الحارة في الصيف والبرد وتساقط الثلوج في الشتاء، أما على مستوى المنزل الواحد داخل القرية فقد يتحقق ذلك في العزل الحراري باستخدام المواد المحلية سواء كان ذلك للجدران أو الأسقف باستخدام السقوف الخشبية وتغطيتها بالطين، وانعدام الفتحات الخارجية أو قلتها
وبالتالي تقليل أو انعدام كمية الإشعاع النافذ إلى فراغات المنزل.
كما أن التنقل بين الفراغات الداخلية للمنزل، للاستفادة بأفضل فراغ يؤمن الحماية من تقلبات المناخ البارد والحار،
ويتم استخدام الغرف نهارا، أما ليلا فيستخدم الفناء المكشوف للنوم ليلا أو فوق السطوح في الصيف.
المنازل القروية الكردية توفر الخصوصية، سواء على نطاق المنزل الواحد أو النسيج العمراني للقرية، حيث تنفصل الحياة الأسرية الداخلية عن المحيط الخارجي، وقد يساعد على ذلك انفتاح المنزل على الفناء الداخلي، الذي يحقق متطلبات الإنسان النابعة من الدين، لأن الفناء يصبح متنفسا ومطلا لمعظم حجرات المنزل، مما يساعد على حفظ حرمة المنزل وحماية سكانه من أعين الغرباء ، كما يوفر الفناء المكان الملائم لمزاولة الأنشطة الاجتماعية المختلفة، ويعمل على تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة، أو بين الأسر وبعضها ويوفر الخصوصية الكاملة لأهل المنزل لقضاء أوقات الفراغ ، ونجد للبيت الكردي نكهة خاصة صنعتها يد تلك البيئة صعبة المراس وأنعكس فيها إحساس مرهف بالجمال المحيط،والقرية الكردية تضم مجموعة من البيوت تصل في القرية الفقيرة منها حتى خمسة منازل، ويختلف الأمر في القرى القريبة من حياة المدينة، نجدهاالأكثر عددا وتنظيما بحيث يأخذ المنزل الكردي شكلا أكثر رونقا وجمالا،.ويمكن اعتبار البيت الكردي ينتمي الى (عمارة دون معماريين) بمفهوم العمارة الحداثة والتصانيف الأكاديمية.
المنزل القروي الكردي:
1. غرفة الضيوف: وهو المكان المخصص للضيوف ويتكون من غرفة تسمي (ديوان خان) وأحيانا يتكون فراغ الديوان خان من فراغين أحدهما مسقوف والآخر سماوي، وغالبا ما تكون منفصلة بمدخل خاص عن باقي عناصر المنزل وذلك لتحقيق الخصوصية، بينما يكون اتصالها المباشر بالمدخل الرئيسي المنزل. ويتم تهويتها من خلال فتحات تطل على الخارج أو فتحات صغيرة تطل على الفناء.
2. غرفة المعيشة (نيشتمان): تكون من غرف النوم والمعيشة أو غرفة الجلوس، في المنزل القروي بغرض الاسترخاء والاجتماعيات التي يمارس أنشطتها المختلفة هو وأفراد أسرته. وتُسمى هذه الغرفة أحيانًا بالغرفةِ الأمامية عندما تقع بالقربِ من المدخل الرئيسي في واجهة المنزل. وقد يُستخدَم مصطلح حجرة الجلوس أحيانًا بالترادف مع غرفة المعيشة، ولقد تمت صياغة مصطلح غرفة المعيشة في أواخرِ القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين. هذه الغرفة تعتبر الغرفة الرئيسة في البيت، فهي دافئة وصغيرة وبعض المرات يتناولون الطعام بداخلها.
3. الإيوان (هه يوان): الإيوان قاعة محاطة بثلاثة جدران فقط، والجهة الرابعة مفتوحة تماما للهواء الطلق، أو قد تكون مصفوفة بأعمدة، أو يتقدمها رواق مفتوح وتطل على الصحن أو الفناء الداخلي. واستخدام الإيوان قديما يرجع إلى ما قبل الإسلام حيث وجد في مملكة الحضر، وأستخدمها المناذرة بقرون عديدة.
4. الخدمات: وتتكون من دورة مياه وحمام ومكان للطبخ وغرفة الفرن وحوش للحيوانات، وتتجمع هذه
العناصر حول الفناء الرئيسي، أو حول فناء داخلي خاص بها وأحيانا يخصص لها مدخل خاص يؤدي إلى شارع جانبي.
5. الفناء الداخلي: يعتبر الفناء من العناصر الأساسية في المنزل، حيث يفتح عليه باقي عناصر المنزل، ومساحة جيدة، وغالبا ما يتم زراعة الفناء بالنباتات والأشجار، ويوجد السلم بالفناء وهو إما أن يكون سلم خشبي
متنقل أو يكون من اللبن يوصل القروي إلى السطح.
6. غرفة التبن: التبن وهو القش المتبقي من سنابل القمح، وميزتهُ أنه يتحمل الجفاف ويصلح علفاً للماشية. ويعتبر التبن وافر ورخيص الثمن وضئيل القيمة، بعكس غرفة الحبوب التي تضم الثمين من الغلة، وغرفة التبن متوسطة الحجم لخزن التبن بكمية كبيرة، يكفي لمعيشة الأغنام والحيوانات لمدة سنتين أو أكثر لأنه في بعض السنين تكون الحاصلات الزراعية قليلة، أو معدومة نظرا لقلة الأمطار أو الآفات الزراعية، فلا يحصد الفلاح شيئا أو يحصد كمية قليلة، وإذا رأى الموسم جيد في الربيع وسعر التبن غالي باع ما يزيد عن حاجته، ويعتبر من نفيس الأشياء التي يقوم القرويون مربو الماشية في كردستان بتخزينها.
7. مكان خاص للتنور، أو سقيفة: يصنع التنور من الطين الحر أي الصلصال حيث يحضر الطين ويخلط جيدا ويخمر، وتختلف أحجام التنور، فمنها الكبير ما هو للأغراض الإنتاجية التجارية ومنها الصغير للأغراض المنزلية. يركب هذا التنور في أحد زوايا الفناء وبجانبه تشيد مسطبة يستفاد منها في رق العجين قبل إدخاله التنور ولصق العجين على جدار التنور.
8. سقف الغرف (سه ربان)، هذا النوع من السقوف يشيد من جذوع الأشجار، وفوقها يضع الحصير أو أغصان أصغر حجما (داره دا)، وقش أو طبقة من الأوراق (جلوو) ثم طبقة من الأعشاب أو القصب
(زه ل)، ويطلى في أعلاها بطبقة من الطين المخلوط بالتبن (خشتي كال)، الذي يحدل بأداة ثقيلة خاصة أسطوانية الشكل وتتكرر هذه العملية بين مدة وأخرى، لضمان عدم نفاذية السقف للمياه بالإضافة الى عزل المنزل حراريا وكذلك تحمل الثقل الوارد من تراكم طبقات الثلج المتساقط بغزارة في تلك البيئة الباردة.
9. في زاوية من الفناء يوجد مكان مخصص للطبخ أو لخبز خبز الصاج تحت سقيفة، يوضع فوقه القدور الخاصة للطهي ويشيد من الطين الأحمر المخلوط بالتبن، بشكل دائري مفتوحة من الأمام، ارتفاعها نحو قدم واحد وعند الطبخ تحرق ربة البيت الأغصان الجافة، أو الأشواك التي يقطعونها ويخزنونها.
10. سقيفة أو غرفة في الشتاء تستعمل مأوى للماشية، وفي زاوية من الفناء وهذه الغرفة، فيها معالف لوضع التبن والشعير وتكون قريبة من غرفة التبن بالإضافة إلى مناهل الماء
منطقة هورمان:
منطقة جبلية، بيوتها حجرية رائعة تذهل المشاهد بأبوابها ونوافذها، ما يشكل منظرا فريدا يضاف إلى موقعها المرتفع. طريقة تشييد البيوت، يبنونها من الحجر وعادة توضع قطع من أخشاب أشجار التوت أو الجوز ضمن جدرانها، للحفاظ عليها وجعلها أكثر قوة ومتانة. وهذه أخشاب لها دورا في نظام العزل للمنازل المصنوعة من الحجارة فقط، التي توفر أيضا مقاومة البرد، وأن هذه البيوت يمكن أن تبقى عقودا دون أن يلحقها ضرر.
تتميز منطقة هورمان بنمط معماري فريد، بنيت بيوتها على سفوح جبالها بحيث يكون سطح البيت أرضية وممراً للبيت الذي فوقه وهكذا تأخذ شكلاً هندسيا ومعمارياً خاصاً وجميلاً تزينها السلالم والممرات الضيقة صعوداً ولا تتسع الممرات للمركبات.
وكافة مباينها تتألف عادة من طابقين وليس أكثرن والى جانب النمط المعماري الشائع في هورمان على شكل سلالم،
فمعظمها مكسوة بالأزهار والورود تضفي عليها بحلة نضرة ترمز في نفس الوقت هناك أشجار الجوز والبلوط المنتشرة حول المنازل، ويفتقر البيت الكردي القروي الى مجاري الماء أو مرافقه، ويجلب عادة الماء من النبع (كاني).
وبالنتيجة فأن كل البيئات المعمارية في كل الثقافات، جديرة بالدراسة والبحث، وتحتاج القرية الكردية إلى دراسة شمولية لعمارة وتراث القرية الكردية، التي كانت واضحة وجلية تعكس خصائص الإنسان الكردي الريفي، ومزاياه المادية والبيئية والاجتماعية، أما اليوم وبفضل المتغيرات التي حدثت للقرية انتشرت المباني الخرسانية وتشوهت عمارة القرية وتراثها، وأصبحت امتداداتها عشوائية تشابه تماما العشوائيات الموجودة في المدينة.
بحيث لا تمثل استمرارا طبيعيا لانعكاس المقومات البيئية والحضارية للمجتمع وأصبح الوضع المعماري في كثير من جوانبه بعيدا عن الواقعية حيث يتنافى وظروف وبيئة القرية فإن الأمر يتطلب دراسة ومن ثم المحافظة على تراث عمارة القرية الكردية، والحفاظ على التراث يتيح الفرصة لإن تصبح القرية ذات هوية تعبر عن هوية المجتمع الذي يسكن فيها.
1047 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع