ذاكرة المدينة/طائرة شاكر نوح تحلق في سماء البصرة
كتابة :اسماعيل حسين
الاعداد الصحفي : محمد سهيل احمد*
مستلات
------- 1ــ / فكر شاكر نوح بصنع طائرة من واقع مشاهدته للطائرات في الافلام السينمائية الحربية التي كانت تعرض في دور السينما البصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية /
2 ــ / شاكر جرّب بشكل ميكانيكي حركة الجناحين حيث سيعودان لوضعهما الطبيعي بعد دقيقة من الطيران لتتخذ الطائرة مستوى ثابتا بارتفاعها عن الأرض
• الذكاء العراقي لا حدود له لكن للاسف لا رعاية له . وامثلتنا كثيرة على ذلك نذكر من بينها مؤسس جامعة بغداد العالم الدكتور عبد الجبار عبد الله الذي كان مصيره السجن بعد انقلاب 8 شباط ولم يطلق سراحه الا بعد تدخل العديد من رجال القانون ورؤساء العديد من جامعات العالم . والمهندسة العبقرية زها حديد التي كان ينبغي ان تحتضنها ذراعا الوطن بدلا من ان تذهب جهودها الهندسية الى شتى انحاء العالم المتقدم .
وموضوع هذه المادة تروي حكاية عالم بصراوي طموح من سكنة حي السيمر مع تجربته لابتكار نموذج لطيارة صغيرة بجهد ذاتي محض واليكم حكايته :
من نائب ضابط الى مخترع
ولد شاكر نوح عام 1920 في محلة السيمر . وفي شبابه عرف بنشاطه السياسي ابان حركة رشيد عالي الكيلاني حيث سجن لعدد من السنين قبل ان يطلق سراحه ليفتتح دكانا صغيرا لبيع الادوات الكهربائية اضافة لمهنة تأسيس الكهرباء للبيوت .لكنه مارس وطور مهنته في الكهرباء وخاصة عمل الاجهزة التي تتشابه مع اجهزة المعدات العسكرية بعد ان حفظ ذهنه صور جميع الاجهزة التي عمل عليها في الجيش . ومع مجيء السيارات الحديثة صنع شاكر نوح في محله قداحات للسيجائر ركبها في دشبول السيارة وكان عملا ناجحا لفت انظار متابعي مصانع السيارات من المشرفين على النواقص او الاجهزة الضعيفة الأداء وقطع الغيار غير المستوفية لمواصفات الطقس العراقي لاسيما وان بيت لاوي كان يبيع السيارات الشفروليه الامريكية بالقرب من السيمر على طريق بصرة ــ عشار. فكر شاكر نوح بصنع طائرة من واقع مشاهدته للطائرات في الافلام السينمائية الحربية التي كانت تعرض في دور السينما البصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، فازداد شغفه بالفكرة يوما بعد يوم واختمرت لديه فكرة صنع طيارة فأخذ يجمع قطع الكارتون المقوى من الحجم الكبير ويرسم عليها أجزاء الطائرة . وبعد فترة اخذ يقصقص الكارتون جامعا نموذج الطائرة مكملا النموذج بكل اجزائه .
صنع في العراق
كان يعمل وحيدا بصمت فوق سطح منزله في محلة السيمر كما قام بتلوين الطائرة بأزهى الالوان التي غلب عليها اللونان الابيض والاسود كاتبا على بدنها عبارتي Made in Iraq و(صنع في العراق )، ثم ركّب لها ثلاثة اطارات كان يدفعها للامام وللخلف على سطح منزله . وبعد اسبوع جمع القطع الكبيرة من مادة التنك
واخذ يرسم عليها كافة اجزاء الطائرة : أربع مراوح ثلاث عجلات واربعة اجنحة اثنان على اليمين واثنان جهة اليسار مع ضبط القياسات بالسنتيمتر . وبعد اكمال الذيل الأخير قام بتركيب الاجزاء المقصقصة وهي المرحلة الاخيرة من صنع الطيارة تقريبا . وبعد ذلك جاء ببطارية دراجة نارية نوع BS امريكية الصنع ثم قام بإيصال الكهربائيات المطلوبة من البطارية الى كل جزء يتطلب التوصيل اليه ، كما حرص على تحويل كهرباء البطارية من 12 فولت الى 80 فولتا من القوة الكهربائية بواسطة أجهزة مضاعفة
للطاقة الكهربائية الدقيقة الصنع ذات الكفاءة العالية ( تراس فورمن ) من الكنديسرات أي المكثفات وبعض اسلاك الراجستن. ثم قام بايصال الكهرباء الى المراوح الاربع ذات قطر العشرين سنتيمترا اثنان منها على اليمين واثنان على اليسار وبقياسات في غاية الدقة .اجل كان لكل ملليمتر دور حاسم في تحديد ابعاد واجزاء الطائرة . كما صنع جناحين مزدوجين الاول فوق الثاني بمسافة خمسين سنتيمترا . ويقول عبد الحسن عبد السادة المالكي ( ابو صبيح ) الذي كان احد شهود العيان على تلك التجربة الجريئة الفريدة من نوعها واصفا الطائرة قائلا : " كانت المراوح الاربع المانية الصنع واقدر طول الطائرة بـ 275 ستنيما أي بواقع ثلاثة امتار الا ربعا اما الطول القياسي بين نهاية الجناحين اللذين على اليمين والجناحين اللذين على اليسار بـ 150 سنتيما أي 150 تقسيم 3 يساوي 50 سنتيما طول الجناح الايمن و 50 طول الجناح الايسر ، اما قطر بدن الطائرة فكان 150 سنتيما وبهذا يكون المجموع 150 سنتيما " ويواصل ابو صبيح ملاحظاته ذاكرا : "ان شاكر جرّب بشكل ميكانيكي حركة الجناحين حيث سيعودان لوضعهما الطبيعي بعد دقيقة من الطيران لتتخذ الطائرة مستوى ثابتا بارتفاعها عن الارض . لقد جهز كل شيء في صمت اذ لم يكن ثمة شيء يشغله حتى صخب الاطفال لانه لم يكن متزوجا حينها . نظف سطح المنزل ليجعل منه مدرجا للطيران وهدم سياج السطح الشمالي الشرقي لتخرج منه الطائرة في زاوية بعيدة عن اعمدة الكهرباء "
يوم الانطلاق
يتحدث جعفر عبود الذي شهد عملية اطلاق الطائرة عن ذلك اليوم الفريد من ايام صيف تموزي لاهب قائلا : " في حوالي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم الحار وبالذات في عام 1949 انطلقت طائرة شاكر نوح من بيته الكائن كما ذكرنا في محلة السيمر باتجاه هدفها المقرر.وكان ذكاء شاكر قد قاده الى التخطيط لانطلاق طائرته وهبوطها في ملعب الخضيراوية التابع لمحلة السيمر عن طريق تحريفه لذيل الطائرة قليلا بعد ان رسم خارطة الطريق او خطة سير الطائرة من السيمر باتجاه منطقة الحكيمية لتحلق حول منطقة العشار وترجع بشكل دائري الى ان يستقر بها الامر في ملعب الخضيراوية. وكانت حساباته عند هبوطها يتمثل في نفاد كهرباء البطارية لعدم وجود داينمو يشحن البطارية . كانت تلك هي الفكرة العظيمة النابعة من عقلية علمية فذة .
هبوط اضطراري
للأسف الشديد حدث خلل فني في الطائرة بعد تحليقها بعد دقيقة من انطلاقها لتسقط في احد بساتين منطقة التحسينية القريبة من الموقع الحالي لمديرية الدفاع المدني مقابل بلدية البصرة تقريبا. وفور وقوعها سارع الاهالي للتجمهر حول الطائرة لمتابعة ذلك الحدث التاريخي . يقول المواطن عبد الحسن ابو صبيح ــ الذي كان شابا حينذاك ــ وهو يصف ذلك الحدث الفريد من نوعه :
" وصلت الى موقع سقوط الطائرة راكضا بلا وعي مني انما كان جري الشباب وراء الغريب من الأحداث فوجدت الجناح الأيمن قد انفصل عن جسم الطائرة بعد اصطدامه بأحد جذوع النخيل . وكانت مقدمة الطائرة تعانق ضفة نهر صغير من احد الفروع التي كانت ترضع حينها من نهر العشار المتجه الى البصرة القديمة والذي كان بدوره يرضع من النهر الكبير شط العرب . نظرت بداخلها فرأيت ان البطارية المربوطة جيدا قد تحركت قليلا من مكانها ، ولم يكن لذلك أي تأثير على مراوحها الاربعة لأنها لم تسقط بشكل عمودي . كان اختراعا سيمريا عراقيا مائة بالمائة ! ولو كان لدى شاكر نوح جهاز تحكم عن بعد ( ريموت ) لكانت النتيجة مختلفة تماما .وصل شاكر الى مكان سقوطها وقد اغرورقت عيناه بالدموع لكننا كنا نقرأ على قسمات وجهه اصرارا على معاودة الكرة . مضيفا : " بينما كنا مع الناس الواقفين للتفرج قام رجال السلطة بالقبض على شاكر نوح ربما لكونه احد المساهمين في حركة مايس 41 التي قادها رشيد عالي الكيلاني وربما كانت تلك السيرة من اسباب الغيظ الذي اصاب السلطة نحوه . والمحصلة ان ذلك المخترع الكبير سجن لسنة ونصف لأنه لم يأخذ اجازة عمل وتصنيع من الوزارة المسؤولة !
* مدير مكتب الكاردينيا في البصرة.
970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع