ذاكر ة المدينة/زيارة سرية الى قرية السبيليات
1/ مال الاثنان الى الصمت عدا حديث مقتضب بينهما بلغة لم تكن غريبة على السائق لكنه لم يعرف بالضبط ان كانت الفارسية او التركية /
2ــ / قام المهاجمان باطلاق النار على فريد بك وصاحبه متصرف لواء المنتفق فأردياهما قتيلين ومن ثم اسرعا بالفرار ذائبين في ازقة سوق الهنود الخلفية /
* نحن الان على مشارف الدكة المطلة على نهر العشار والقريبة من تمثال اسد بابل وبالضبط مقابل بنك الرافدين ، حيث توجد مجموعة من سيارات الاجرة . كان ذلك في احد ايام الخمسينات حين قدم شخصان فتى وفتاة لا يبدو من ملامحهما انهما من اهل المدينة . تقدم الفتى من احدى سيارات الاجرة وخاطب السائق بلغة عربية مكسرة ثم دفع الفتى بورقة ادرج فيها عنوانا باللغة العربية . اومأ السائق برأسه ليدلف الغريبان الى الداخل دون ان يتحدثا بالمزيد من الكلام .
انطلقت السيارة الى طريق ابي الخصيب المتعرج عبر بساتين النخيل المتمايلة السعفات مرورا بجسور صغيرة على الانهار.
سكت الاثنان عدا حديث مقتضب بينهما بلغة لم تكن غريبة على السائق لكنه لم يعرف بالضبط بأية لغة كانا .وبعد مضي مايقارب ثلث الساعة ابطأ سائق السيارة الاجرة سرعته منعطفا الى طريق ريفي معلنا وهو يلوح بيده :
ــ نحن الآن في السبيليات وسوف نصل القصر في خلال خمس دقائق ..
وماان تقضت الدقائق الخمس حتى وصل السائق بالقرب من قصر منيف تهدمت اركانه وغطت حشائش الحلفاء بعض حيطانه . عاد ليعلن :
ــ هذا هو قصر طالب باشا النقيب ..
لم ينبس الاثنان ببنت شفة بل اسرعت الفتاة بمغادرة السيارة والتوجه الى تلة مرتفعة نسبيا ووقفت تحملق في بقايا القصرالعتيد المتحولة الى اطلال . انفصلت الفتاة عن العالم الخارجي واستغرقت في لحظات تأمل نارية لجوانب القصر . بقيت على تلك الحال لبعض الوقت قبل ان ترتعد كتفاها مومئة للسائق ان يقفل راجعا الى العشار فامتثل السائق .
سر الزيارة
لنستمع للسائق وهو يكشف جانبا مما حجبه الصمت الذي اكتنف الزيارة ليسرد اصل الحكاية :
" ونحن في طريق العودة للعشار امسك الفضول بتلابيبي فسألت مرافق الفتاة الذي كان يتحدث باللغة العربية عن هوية الفتاة وسر الزيارة و لماذا استغرقت في الحملقة بقصر لم يعد قصرا بل تحول الى اطلال .
فشرع المرافق يروي الحكاية ذاكرا ان تلك الفتاة هي حفيدة القائد العسكري العثماني فريد بيك الذي اتهم طالب باشا النقيب باغتياله عام 1913 اثناء جولة سياحية قام بها برفقة بديع نور بك متصرف لواء المنتفق ( الناصرية ) حيث تربص اثنان من اتباع النقيب ــ وكانا من اهالي النجف ــ للاثنين وهما في سفرة نهرية بشط العرب على متن احد المراكب . وما ان عاد الاثنان من نزهتهما النهرية وتسلقا درجات المسناية النهرية حتى قام لمهاجمان باطلاق النار على فريد بك وصاحبه متصرف المنتفق فأردياهما قتيلين ومن ثم اسرعا بالفرار ذائبين في ازقة سوق الهنود الخلفية . كان ذلك الاغتيال حلقة من حلقات الصراع بين الاقطاب السياسيين في المنطقة عقب السقوط المدوي للامبراطورية العثمانية عام 1908 والتي احتفظت ببقايا نفوذ في العراق لعدد لاحق من السنوات ."
وواصل سائق سرة الخورة حكاية الاغتيال متحدثا على لسان مرافق الفتاة الذي قال انها شبت على خبر مقتل جدها على يد طالب النقيب ما اورثها حقدا على القاتل المفترض ما بعده حقد . وما مجيئها للبصرة الا بعد سماعها بدوال امارة طالب باشا النقيب ونفيه الى خارج ارض الرافدين وتدهور احواله من بعد ترف وعز . وان تلك الفتاة قد اقسمت على زيارة قصر النقيب في قرية السبيليات بأبي الخصيب من اجل التشفي بتبدل احواله وتحول قصره الذي كانت غرفه تغص بالضيوف والولائم وتعبق بالعطور والبخور الى كتلة هشة من الخرائب !
يقولون ان البغض ــ بصوره المتعددة أعمى شأنه شأن الحب . وغالبا ما يعمل القلب على تضليل الفرد وجعله اسيرا لفكرة مهيمنة مركزية . وتاريخ البشرية يغص بحكايات من هذا الصنف . وحين يمارس الحاقد فعل الانتقام ، فأن العقل في هذه الحالة يطل غائبا .
وخير مثال تلك الحفيدة التي التجأت الى قلبها لا الى عقلها من اجل تشكيل رد فعل مناسب للفعل نفسه .
بين العاطفة والعقل
عموما لست في صدد التشكيك بهوية قاتل فريد بك وصاحبه فذلك حديث آخر ذو شجون ، وإن كنا كمراقبين نرجح وجود طرف آخر غير طالب النقيب كان هدفها شق صفوف الكتل القومية والوطنية التي تبلورت اثر سقوط الامبراطورية العثمانية .
فالانكليز كانوا في الساحة وعرب الشيخ خزعل كانوا لوحدهم قطبا يشار له بالبنان ناهيك عن الشركات والوكالات التجارية التي لعبت اداوارا شتى في تعزيز اشكال النفوذ الهولندي والبرتغالي والانكليزي والعثماني المتصارعة فيما بينها .
وربما لو ان تلك الحفيدة التركية حكمت عقلها لما توجهت الى قصر النقيب المقوض بل الى ساحة التحرير المحاذية حاليا لغرفة تجارة البصرة وكنيسة السبتيين . كانت هنا مقبرة ممتدة بين بدايات شارع تموز غربا مرورا بحديقة الشعب المقابلة لغرفة التجارة تتوسط ثلاث مناطق هي الكزارة والسعودية والمناوي . وفي ركنها المقابل لقاعة مرحبا سابقا كان يوجد مرقد ولي صالح اسمه ( رضوان ابن علي ) شهده كاتب السطور شخصيا ابان طفولته . وكان ذلك الضريح ركنا شماليا للمقبرة التي دفن فيها القتيلان القائد العسكري فريد بك وبديع نوري بك . ولو رجحت تلك الفتاة عقلها لزارت موقع المقبرة تبركا بقبر ابيها المدفون في تلك المقبرة حسب رواية الشيخ عبد القادرباش اعيان في كتابه ( موسوعة تاريخ البصرة ) هناك فلعل تلك الزيارة المقترحة تطفيء غليلها وتجعلها اقرب الى الفكرة التي اوردها القرآن وهو يقول : كل من عليها فان !
559 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع