من ظرفاء بغداد .. هكذا عرفت حسين الفلفلي

          

   من ظرفاء بغداد .. هكذا عرفت حسين الفلفلي

    

اشتهرت بغداد بالظرف والظرافة منذ انشئت بامر ابي جعفر المنصور سنة 145 للهجرة.

وتحفل كتب التراث العربي بظرائف كثيرة عن رواد النكتة والاجوبة المفحمة والتعليقات الساخرة ممن عاشوا فيها.
وفي اواخر العهد العثماني برز عبد الله الخياط وفي النصف الاول من القرن العشرين تالق عبود الكرخي ونوري ثابت الشهير بحبزبوز.
وفي النصف الثاني لمع عدد من الظرفاء ممن لم تسجل اخبارهم ونوادرهم بينهم احد اصحاب المكتبات.
كان ( حسين محمود الفلفلي) صاحب مكتبة الزوراء في سوق السراي ببغداد من اظرف البغاددة وابرعهم نكتة والذعهم لساناً واطيبهم قلبا، واصعبهم تعاملا واكثرهم شراسة واشدهم بخلا.
ولو بعث الجاحظ لحضة بنصل متميز من كتابه الشهير البخلاء ولوان ابا حيان التوحيدي كتب له ان يحيا في القرن العشرين لوضع عنه كتابا كاملا!
تأسست مكتبة الزوراء سنة 1930 ولاتزال قائمة الى يومنا هذا بعد وفاة صاحبها في اوائل الثمانين، وتحتفظ هذه المكتبة بقائمة رسمية متواضعة ، بدائية، تمنح لمن يطلبها موشحة بتعريف نفسها بانها خاصة (لبيع الكتب القديمة والحديثة وعلى اختلاف انواعها مع تجليد الكتب والسجلات).
تنتهي هذه القائمة – الصغيرة الحجم بعبارة : الخلط والسهو مرجوع للطرفين!
كانت المكتبة مثالا للفوض الكتب والمطبوات فيها مدسة بلا تنظيم او ترتيب، وكان الغبار يعلوها وفيها مروحة كهربائية سقفية، الا انها معطلة غالبا.
ولا اذكر انني صادفتها تعمل، رغم الغيظ الخانق، فلقد كان صاحبها يستعمل مروحة يدوية، بدائية، ويمسح العرق المتصبب من جبينه بين دقيقة واخرى، واثناء ذلك يعمل بكل همة، ويعتمد على ذاكرته المتألقة في معرفة موقع الكتاب المطلوب، ويستخدم عصا خاصة في التقاط ما يطلب منه بسرعة مدهشة، وعندما كان يلاحظ انبهار احد باكداس الكتب والمطبوعات في مكتبته – كان يردد هذا البيت:
اجعلوا ان مت يوما كفني
ورق الكتب وقبري المكتبة
وعلى الرغم من ان صاحب المكتبة منح الكتب والمطبوعات المساحة الاكبر والاهم الا انه وضع كرسيا في زاوية لايعرفها سواه، وهذا الكرسي مخصص لبعض الضيوف المحظوظين، المهمين ممن يستفيد منهم، وعندما يفعل ذلك فانه مضطر لتقديم قدح شاي او حامض لهذا الضيف المعتبر كما يسميه.
وشكا لي – داود – صاحب مقهى سيار في احدى زوايا سوق السراي – ان ابا علي – هو اقل اصحاب السوق احتساء للشاي، اما المرطبات فذكر انه احتسى شيئا قليلا منها.. مرة كل خمس سنوات – مثلا!
ذلك ان الفلفلي المحني مرة ماراً في السوق، فناداني صائحا.. وعندما لبيت نداءه، قدم لي "كرسي الضيوف" قائلا بلهجة جادة..
- تعال، انتهز هذه الفرصة فلقد اصبت بنوبة كرم!!
واثمرت نوبة الكرم هذه عن قدح شاي، لا اكثر!!
ولمحني مرة اتفحص سرواله الذي يلازمه منذ سنوات طويلة، دون ان يحاول اقتناء بديل له رغم ثرائه قال:
- اتدري ممن اشتريت هذا السروال؟
كتمت ضحكة كبيرة فاجاب بنفسه:
- من نوح – عليه السلام!
جرب الرجل نشر الكتب لكنه هجر ذلك، بعد ان خسر مبالغ كثيرة – وفشل في مزاحمة دور النشر الاخرى التي كانت تبدي التسهيلات والمرونة في التعامل مع المؤلفين وفي توزيع الكتب ومن هذه الدور: مكتبة المثنى، اما الكتب التي نشرها فكانت منوعة منها ما كان يؤلفه اساتذة القانون او يجمعه بعض المحامين للقوانين والامور القضائية، وبينها مجموعة من الكتب المدرسية او الفنية.
سألته يوما عن اهم الكتب التي نشرها – وحققت نجاحا وارباحا فقال:
- اغاني حضيري ابو عزيز..
كانت هذه الاغاني قد حققت انتشار واسعا بدءاً من سنوات الاربعين، وقد عمد صاحبها نشر مجموعات من اغانيه في كتيبات مزينة بصورة حدثني – ابو علي – ان "ابا عزيز" كان من اكرم الناس، فقد كان يلبي طلبات الناس التي ترده الى اذاعة بغداد من داخل العراق وخارجه، وروى لي ان مطرب الريف الشهير كان يسر كثيرا برسائل الاعجاب التي ترد اليه من خارج العراق، وقد اطلعه مرة على رسائل وصلت اليه من عدة بلدان اوربية وشرقية بينها رسالة من مستشرق هولندي واخرى من الفنان نعيم بصري (ت 1971) – رئيس القسم الفني في اذاعة لندن – وهو شقيق الاستاذ مير بصري.
وذكر لي انه اثناء طبع احد كتيبات (حضيري) فوجئ بزيارة المغني له في داره طالبا منه وقف الطبع راجيا اضافة اغنية (عاين يا دكتور) الى الكتاب!.
ارتبط الفلفلي بعلاقات طيبة مع المع الشخصيات العراقية من رجال الادب والفكر والقانون والفن وهو يحتفظ بذكريات وانطباعات عن الكثيرين.
كان من زبائنيه ورواد مكتبته معروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبي وتوفيق وهبي وعباس العزاوي ويوسف عز الدين ومهدي مقلد واحمد حامد الصراف ومحمد القبانجي وعفيفة اسكندر.
كان الرصافي شديد العناية بالحصول على الكتب الممنوعة ويحرص على الظرف بالكتب التي تنتقد نظام الحكم في العراق وتصدر في بيروت ودمشق، وكان يدهش للكتب التي يؤلفها انكليز او غريبون وتتناول العراق وتصدر مترجمة بالعربية ويعجب لضيق صدور الحكام العراقيين، ومنعهم تلك الكتب وحرمانهم ابناء وطنهم من الاطلاع على الرأي الاخر.
وكان احد شيوخ العمارة مهووسا باقتناء اقصى ما يستطيع من الكتب الجنسية او التي لها صلة بالجنس، وقد اقتنى من الفلفلي عدة نسخ من كتاب محاضرات الادباء للراغب الاصبهاني، اقتطع الفصول التي تهمه ورمى بقية الكتاب في سلة المهملات، والطريف انه كان يهدي مجموعة من اصدقائه اشياء مما كان يقتنيه ويحثهم على مطالعتها.
وكان احمد حامد الطراف – المحامي والمجمعي المعروف – مهتما باقتناء نمط خاص من الكتب والمطبوعات الممنوعة وهو الخاص بالطوائف والاقليات الدينية او الاثنية كالبهائية والماسونية وما شابهها.
وكان الشيخ محمد رضا الشبيبي شديد الولع باقتناء المخطوطات وكتب الفلسفة والتاريخ الاسلامي.
اما الدكتور يوسف عز الدين – الاكاديمي والمجمعي البارز – فكان شديد الكلف بالظفر بالكتب التي تتناول العراق في العصور المتأخرة – خاصة العصر العثماني.
توفيق وهبي – الوزير والاكاديمي الشهير – كان من هواة جمع الكتب العربية والشرقية المطبوعة في اوروبا خلال القرنين الثامن عشر وما بعده، وكان سخيا خاصة عندما يتعلق الامر بكتب تتناول الاكراد وتاريخهم مما يصدر بمختلف اللغات في اوروبا او في الاتحاد السوفيتي السابق، وكان مهدي مقلد (المحامي والشاعر) يهوى اقتناء الكتب التي تحمل تواقيع مؤلفيها مع عبارات الاهداء!
وللشيخ امجد الزهاوي – مفتي العراق في عصره – تقاليد غريبة في اقتناء الكتب، فلقد كان يطبق الشروط الفقهية في الشراء، وعندما يضطر لدخول المكتبة كان يخلع حذاءه خوفا من مس اوراق فيها آيات قرآنية او ما اشبه ويعد الدكتور علي الوردي – احد ابز رواد مكتبة الزوراء، ويزعم الفلفلي انه لم يكن يستفيد ماديا من عالم الاجتماع البارز، فلقد كان هم هذا العالم اقتناء كراسات ومطبوعات لاقيمة مادية لها، لكنه يفيد منها في مؤلفاته الاجتماعية التي كانت تلقى رواجا كبيرا.
ومنهم صادق الملائكة – الاديب المعروف ويذكر انه اوصاه خيرا بابنته (نازك) وقد زارته فعلا ويذكر انها كانت في حدود العشرين من العمر وقد اقتنت عدة كتب تخص الموسيقى الغربية وحياة بتهوفن وغيره.
لم يدخل الفلفلي المدارس الحديثة، وغير انه امتلك ثقافة طيبة من خلال مطالعة الكتب والمطبوعات وهو في هذه الحالة يعتمد على نصائح اصدقائه من رواد المكتبة في اختيار ما يطالع، وكانت له طاقة فنية هائلة ، خاصة في تقليد الاخرين، وثمة شخصيات بغدادية كان يبدع في تقاليد كلامها ومحاكاتها وكان (محمود حلمي) صاحب المكتبة العصرية في مقدمة ضحاياه!
كان – ابو علي – من ابرع اهل بغداد في العفاط!
والعفط، كلمة فصيحة معناها اخراج الصوت بالشفتين.
يتوارث عوام بغداد هذه الحركة في السخرية والطنز منذ العصر العباسي، ومن يقرأ مؤلفات القاضي التنوخي وابي حيان التوحيدي يلحظ شدة اهتمام الناس بها في القرن الرابع للهجرة – العاشر الميلادي وقد تقلصت عناية البغاددة بهذا اللون من السخرية والعبث في العصر الحديث، وضمن عبود الشالجي المحامي (ت 1996) سفره المهم (موسوعة الكنايات البغدادية) – بيروت 1982 طرائف كثيرة عنها.
كان ابو علي يتباهي باجادته – بل يراهن انه افضل من يجيد العفاط في بغداد، ولطالما كان صوته يهز سوق السراي في التعرض لهذا وذاك وعندما كان يفعل ذلك يتراكض اصحاب المحلات او الناس لمعرفة المقصود بالسخرية.
حدثني "ابو علي حسين الفلفلي"  ان محمد عبد الوهاب المطرب والموسيقار الشهير (ت1991) هرب من بغداد بسبب عفاط بعضهم سخرية منه!
كان موسيقار الشرق قد زار بغداد في ربيع سنة 1932 تصاحبه فرقة موسيقية كبيرة على امل ان يقدم حفلات كثيرة للمعجبين بفنه من العراقيين وفي اولى الحفلات التي اقامها على مسرح احدى دور السينما في بغداد وسط ضجة اعلامية، مشرع بتقديم احدى اغنياته.
كان عبد الوهاب قد اعتاد تكرار عباراة – ياليل – لتسخين الجمهور في مستهل الحفلة ، لكنه بالغ في ذلك مما اثار استياء البعض وفوجئ الجميع بقيام احد ظرفاء بغداد من المتواجدين في نهاية الصالة بعفطة مدوية، لم يكترث لها المطرب بل واصل ترداد الغناء بنفس الطريقة، فما كان من البغدادي الا اطلاقها ثانية ثم ثالثة.. كانت النتيجة ان الغى عبد الوهاب حفلاته في بغداد وقطع رحلته وحجز عائدا الى القاهرة في اليوم التالي.

الكاتب:د.جليل العطية / المدى

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

922 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع