ذاكرة البصرة - زيارة الى قصر طالب باشا النقيب
كتابة وعدسة : محمد سهيل احمد
مستلات
1 ــ تحت تلك المظلة كان يمر مائة ضيف وضيف :ملوك وأمراء وموسرون ورجال سياسة انكليز وعثمانيون وعراقيون ليدلفوا الى الداخل حيث تقام مآدب أسطورية
2ــ يلاحظ الزائر وبشكل جلي الإهمال الذي اعترى قصور آل النقيب بينما كان حريا بهم ان يحظوا بعناية الدولة وان يتحولوا الى متاحف توثق لفترات ومنعطفات في تاريخ العراق الحديث .
كان صباحا حزيرانيا حارا الى حد ما ، تخفف من حرارته غلالة غبارية صنعتها ريح شديدة الاندفاع . كان الصديق اسماعيل حسين في انتظاري عند مدخل بلدة السبيليات ، وهي من اعمال قضاء ابي الخصيب بالبصرة، ايفاء لموعد أخلفته شهورا لظروف شتى كان في مطلعها عدم توفر وسيلة نقل وكاميرا، وها انا انجح في توفير الوسيلتين . كان هدفي تسليط الضوء على ما تبقى من قصر سكنته في زمن ما شخصية عراقية متمثلة بشخص طالب باشا النقيب ، وهي شخصية أسهمت لسنوات في رسم سياسة البصرة وما جاورها من أقاليم ان لم تكن قد أسهمت في رسم سياسة ما قبل الملكية وما بعدها ورشحت لتكون ملكا على العراق لولا ظروف وملابسات تاريخية معروفة .
توغلت بنا السيارة في طريق ريفي تتوسطه بيوت اغلبها قديم الطراز ولكن تجمعها ميزتان : البساطة والهدوء .
كانت الرؤية ، رغم الغبار جيدة ، ونحن نمر بالمزيد من البيوت القروية الطراز مقتربين من القصر الذي سيتبين ان المسافة بينه وبين النهر الكبير ، نهر شط العرب لا تتجاوز المائة مترا .
لوح إسماعيل بذراعه سائلا إياي ان انعطف يسارا ففعلت فإذا بنا قبالة المدخل الأمامي للقصر الذي تبرز فوق مدخله الرئيس مظلة من الخشب النفيس عمل الزمن على أبادته حتى غدا هشيما من ألواح متهرئة مقامة على عمودين منجورين من خشب الساج . تحت تلك المظلة كان يمر مائة ضيف وضيف : ملوك وأمراء وموسرون ورجال سياسة انكليز وعثمانيون وعراقيون ليدلفوا الى الداخل حيث تقام مآدب أسطورية تضم كل ما لذ وطاب من الطعام والشراب تقدم الى من رسموا الخارطة القادمة لدولة لن يتاح لها يوما ان تذوق معنى الاستقرار !
سيرة حافلة
يلاحظ الزائر وبشكل جلي مدى الإهمال الذي اعترى قصور آل النقيب بينما كان حريا بهم ان يحظوا بعناية الدولة وان يتحولوا الى متاحف توثق لفترات ومنعطفات في تاريخ العراق الحديث .
ليس المقصود من هذا الاستطلاع دراسة شخصية رجل رشح يوما لعرش العراق ، كما فعلت الدراسات التي سعت لتشويه سمعته والأخرى التي دافعت عنه دفاعا لا يخلو من عواطف ذاتية . وليس لدينا النية في اقتفاء اثر الدراسات التي بذلت جهودا مضنية لإنصافه. فالمعروف ان طالب باشا النقيب، بحكم طموحه الشخصي ، قد كسب عددا كبيرا من الصداقات بالقدر الذي جوبه بعدد كبير من الأعداء والحاقدين لاسباب شتى بعضها ربما يكون صحيحا ، وبعضها يخلو من الصحة كالأهزوجة الشعبية الشهيرة : " ثلث الله وثلثين الطالب وثلث الله يطالب بي طالب ! " وهي الأهزوجة التي دحضها الدكتور علي الوردي مشيرا الى انها تخص أحد شيوخ الإقطاع في الكوت وليس السيد طالب النقيب .
وعلى الرغم من ان سيرة الباشا أضحت معروفة للقاصي والداني ولكننا ارتأينا ايراد بضعة سطور يمكن ان تنير الشاشة بأكملها ..
اذ تقول المصادر ان السيد طالب السيد رجب بن محمد بن سعيد السيد طالب درويش الرفاعي ولد عام 1871 في البصرة ، درس القانون وتعلم اللغات الفارسية والتركية والانكليزية والهندية . وكان واحدا من أربعة نواب عن البصرة في مجلس المبعوثان العثماني. أسس حزب الحرية والائتلاف والجمعية الإصلاحية ، ودعا الى كيان عربي موحد كما قاد اول حملة ضد شركة بيت ( لنج ) البريطانية و افترح انشاء شركة عراقية للملاحة وبارك مشروع قطار برلين ـ بغداد . كما نادى بالثورة على الانگليز .
عرف عنه قوته وبأسه وقدرته على مواجهة المواقف الصعبة ، ثم تولى وزارة الداخلية في اول حكومة عراقية مؤقتة (حكومة الگيلاني)، وعرف بشدته ومناوأته للحكمين العثماني والبريطاني مما اكسبه عددا كبيرا من الأعداء من الجانبين .
ولكن الخط البياني المتصاعد لطالب النقيب بدأ بالهبوط تدريجياً ، بعد تعيين ( برسي كوكس ) حاكماً سياسياً للعراق ، حيث أسندت الى الباشا وزارة الداخلية في الحكومة العراقية المؤقتة ،
بعد ان عين البريطانيون الامير فيصل بن الحسين ملكاً للعراق وفق مقررات مؤتمر القاهرة 1921 م ، وقد عارض طالب النقيب ذلك وهدد السلطة بالتمرد معتمداً على رؤساء العشائر العراقية ، مما حدا ببريطانيا الى انهاء دوره السياسي فأرسل منفياً خارج العراق الى المانيا بمدينة ( ميونخ ) وقيل مدينة ( زيورخ ) في سويسرا حتى وفاته عام 1929 ونقل جثمانه الى مدينة البصرة حيث دفن في مقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير .
في حضرة مجد غابر
وكي لا يبلغ بنا الشطط أقصى مداه ، نعود الى قصر الباشا : نحن الآن في ركن من أركان القصر الذي تزيد مساحته عن عشرين ألف مترا ، ولهذا اصبح في امكاننا استشراف ضلعيه ؛ الجنوبي الأطول بشبابيكه وآجره المفتت البائد وبابه العريض الخفيض المدجج بغليظ المسامير والذي يتألف في الحقيقة من بابين أصغرهما مندمج مع الأكبر فيهما . والشمالي الأكثر عزلة والأكثر إحاطة بالأشجار والأدغال .
اما عن ذلك الباب فكان في مدخله صبي راح يتأملنا ونحن نسدد عدسة الكاميرا نحو شبابيكه وشناشيله وشرفاته الصامتة المهلهلة ، فما ابلغها من صور لغة وموعظة! اذ ذاك أيقظنا من تأملاتنا رجل اندفع نحوي متلهفا ، فحاذرته ظنا مني بأنه يستنكر علينا اقتحام القصر والقيام بتصويره . لكن الرجل دعانا للدخول فدخلنا عبر ذلك الباب الجانبي المزدوج الواطئ ، والذي أخبرنا بأنه باب خدم السيد طالب.تسربت الينا ونحن ندخل غرفة واسعة مشحونة بالظلال رائحة الخشب العتيق . قبل الدخول لغرفة الاستقبال ألقيت نظرة على باحة الحوش : غرف تحتانية وفوقانية وشرفات مهشمة تطل على تلك الباحة التي تتوسطها حديقة رباعية الشكل وحشية النبات . غادرنا القصر بأسرع ما يمكن منتقلين الى منطقة اخرى حيث قصر اخيه السيد هاشم النقيب الذي لا يقل اتساعا وخرابا عن قصر اخيه السيد طالب .
وعندما وصلنا الى المكان الجديد وشرعنا بتصوير قصر السيد هاشم ، اندفع نحونا رجل ناهز الخمسين من عمره كما بدا ، هاتفا بنا :
من انتم ؟ ! .
وبعد ان اطمأن الينا قام بمرافقنا في الجولة التصويرية حول بيت السيد هاشم قائلا ان اسرة صاحب البيت تقيم حاليا في امريكا . وافرادها يزورون القصر بين الفينة والفينة ويرفضون رفضا باتا عرضه للبيع. ولو وجدت لجنة متابعة للقصور التراثية لحولته الى متحف يضم آثارا ذات صلة بالجنوب ممثلا .
قد يتفق او يختلف اثنان حول شخصية طالب باشا النقيب ومصداقية الأحداث التي قيل انه اسهم في صنعها او انها أسهمت في صنعه ، الا انهما لابد وأن يتفقا على أمر واحد اكيد :
ان طالب النقيب كان عراقيا !
993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع