بيروت/ فندق نورماندي
من حقيبة الزمن أيام وذكريات بيروت .... يا ..... بيروت ( 4 )
بقلم: عبدالوهاب عبدالستار الجواري
ما زلت أعيش ذكرياتي عن لبنان وأجد أن لها حقا لتدوينها وأمتاع قاريء ( الگاردينيا ) بقرائتها..
ففي يوم من ايام شهر رمضان وان بدمشق الشام مستغرقا بعملي جاءني هاتف من بيروت واذا به الاخ الغالي ( ابا سعد ) محمد علي الحسون عليه رحمات الله مستفسرا ومبديا اشواقه للقاء بعد انقطاع طويل وقائلا سوف آتي لرؤيتك , ولما كنت على علم باوضاعه الصحية اجبته أنا قادم اليك ..
وفي صبيحة الجمعه يوم العطلة توجهت الى بيروت برفقة احد سواق السفاره .. وكان لقاء محبة واخوة حيث مكثت النهار الى جانبه ولما حل المساء قفلت راجعا الى دمشق .. وكان هذا بعد غياب عن بيروت أستمر لاكثر من ثلاثين عاما .. ولم يتخلل هذه الزيارة أي تحرك سوى نزولي من داره الى الشارع المجاور لتفقده وتذكر ايامي به ..
وكانت فرصة لاختبار صدق العلاقات مع من عايشتهم لسنوات من ابناء لبنان فكان وجودي بينهم وبهذه الصورة المفاجئه مبعث سرور لامثيل له فأهل مصبغة ( مكوى ) (بنكوين) تلقوني بترحاب كبير وهم يهللون ويرحبون ويستفسرون عن احوالنا .. ولما اطل ( وديع )صاحب صالون الحلاقة النسائيه المقابل لدارنا السابق وعرف بوجودي غمرني بقبلاته .....
ولما توجهت الى محل البقاله القريب وجدت صاحبه ( أميل شلح ) مشغولا مع بعض زبائنه ولما فرغ منهم سألني عما أطلبه فأجبته .. وهل تعرف هذا الشخص الذي يقف قبالتك .. فرنى الي بنظرة فاحصه وقال الوجه ليس بغريب .. قلت أنا فلان فأنطلق نحوي مرحبا بصدق ومحبة وهو يردد .. والله زمان يا ابو عمر .. وهكذا تتوارد علي الخواطر .. فماذا انسى من ايام لبنان وأهل لبنان ..
مكثت في بيروت خمس سنين سكنت خلالها احدى شقق بناية (شبارو) في احد الفروع المتفرعة عن شارع (استراليا) كما نوهت في حلقة سابقه .. وكان يقع تحت الشق محل لكوي الملابس ( بنكوين) ويقابله محل لتصليح الادوات الكهربائيه لصاحبه جورج وبالقرب منه محل الحلاقة الخاص بالسيدات وفوق هذين المحلين تسكن عائلة لبنانية بيروتية معروفة من على الصعيدين الاجتماعي والسياسي ( آل بيضون ) اذ ان صهرهم هو مدير مكتب رئيس الوزراء اللبناني( عبدالرحمن الشيخه ) وزوجته هي سيدة المجتمع اللبناني السيده ( دلال ) وكانت صورها تملاء صفحات النشاطات الاجتماعيه التي تغطيها الصحافة اللبنانيه .. وكان عبدالرحمن الشيخه صاحب مكانة في الاوساط البيروتيه لكونه مديرا مزمنا في رئاسة الوزارة اللبنانيه فكان بيته لايخلو من الزوار...
وصادف ان صاهرت العائله المطرب المصري المعروف ( محرم فؤاد ) الذي كانت زوجته تقيم في بيروت بنفس البناية التي سكنها اهلها وكان لمحرم ولد أسمه (طارق) بنفس عمر ولدي عمر لذلك نشأت بينهما صداقة وكانا يلعبان سوية ..
وكان يسكن معنا احد موظفي السفارة السعوديه .. وذات يوم التقينا عند مدخل البنايه فقال لي لك سلام من ( فائز الضاري ) فتصورت ان المقصود هو ابن الشيخ سليمان الضاري زميلنا في الدراسة الابتدائيه الا ان الامر لم يكن كذلك فقد كان صاحب السلام ( فائز ضاري الرشيد ) زميل آخر في الدراسة الابتدائيه افترقنا بعد اكمالها ولم نلتقي الافي بيروت .. هو يعمل بالسفارة السعوديه وانا اعمل بالسفارة العراقيه.. فهو بحكم كونه من عائلة نجدية الاصول غادر العراق وحصل على الجنسية السعوديه وانتسب للسلك الدبلوماسي السعودي ..
وبعد هذا اللقاء التقينا مرة اخرى في مكان آخر هو ( اسلام آباد ) فبعيد وصولي الى هناك تلقيت نداء هاتفيا فأذا به هو فائز يسألني مذا تفعل هنا وأنا أسأله وانت ماذا تفعل هنا .. وقضينا سنوات جميلة في اسلام آباد ومن ثم تفرق الشمل الامن اتصالات واستفسارات تصلني وتصله عن طريق المتبقين من عائلته في العراق..
ولي من ذكريات العمل في بيروت رصيد كبير ولحسن الحظ ما زالت الذاكره بفضل من الله كما يقولون (شغاله) ......... فقد عاصرت اربعة سفراء لكل منهم مزاجه ومشربه وكان لهذا التنوع آثاره السلبية احيانا والايجابية احيانا ولابد من الاعتراف ان الغالبية منهم كانوا على مستوى الشعور بالمسؤلية المناطة بهم .. وبحكم ان بيروت ايام زمان كانت موقعا مهما وساحة لعرض وجهات نظر الاطراف العربية المختلفه وكان العراق يعتبرها ساحة خلفيه معتمدا بذلك على علاقاته مع بعض الاطراف اللبنانيه ورجالات السياسه الذين ارتبطوا بسياسات العراق العربيه والاقليميه ..
وكذلك الصحافة اللبنانيه التي كانت مرآة تعكس مصالح الانظمة العربيه الا النادر منها وبالذات صحيفة ( النهار ) التي اختط لها عميدها يومئذ الصحافي والسياسي اللبناني غسان تويني , طريقا مختلفا عن باقي زميلاتها , تميز بالاستقلاليه والطرح المتوازن .. وما اقوله ليس مجرد كلام بل هو نتيجة تجربة شخصيه .. اذ طلب مني ذات يوم مدير مكتب وكالة الانباء العراقيه في بيروت بذلك الوقت وكان رحمه الله صديقا شخصيا ومن ابناء منطقتنا في الكرخ فكان يمون علي بحكم هذه الصلات فطلب مني التوسط مع الصحفي العامل بجريدة النهار عبدالكريم ابو النصر , لمعرفته بعلاقتي الشخصيه مع ابو النصر ورجاني ان افاتح ابو النصر لنشر موضوع يعرض وجهة نظر العراق في مسألة لا اتذكرها للاسف وذلك لقاء مقابل مادي يدفع لجريدة النهار .. فكان جواب الاستاذ ابو النصر ان النهار لاتقبل مثل هكذا عروض وهي على استعداد للنشر اذا ما وجدت ان الموضوع لا يتعارض وسياستها .. وقد جعل غسان تويني من النهار جريدة لايستغني أي سياسي أو دبلوماسي عن الاطلاع على ما فيها من اخبار خاصه وتعليقات وتحليلات وسوف يأتي الوقت للحديث عن ذلك بشكل مفصل في مناسبة اخرى ..
وكنت بحكم كون بيروت ممرا لموفدي العراق من الوزراء وغيرهم أكلف من قبل السفير لاستقبالهم وتوديعهم لعدم تمكن السفير من القيام بهذه المهمة الى جانب برنامج عمله المزدحم .. وهكذا اتيحت لي فرصة معرفة الكثير منهم حيث كنت اتولى ايصالهم الى الفنادق بسيارتي الخاصه وهو ما يفسح المجال لتبادل الاحاديث الخاصه والعامه ... والى جانب هؤلاء ثمة من يقصد بيروت لاسباب خاصه وقد لايكون من رجال الدولة بل من السياسيين الذين على علاقة بالدولة ...
وهكذا شاءت الصدف أن أكون بأستقبال السيد ( جلال الطالباني ) وهو قادم من بغداد لقضاء شهر العسل مع زوجته السيده ( هيرو ابراهيم احمد ) ... وبعد ان استكملنا اجراءات الدخول في مطار بيروت اخذتهم الى فندق (فيدرال) القريب من بيتي ومن منطقة الروشه..
وبعد عقود من السنيين التقى احد الاصدقاء بالرئيس الطالباني وذكره بالحادثة الا انه لم يتذكرها وكانت ذاكرة السيده ( هيرو ) أقوى فأبلغت الصديق انها تتذكر ذلك جيدا وتتذكر شكل الشاب الذي استقبلهم واوصلهم الى الفندق , فاجابها الصديق ان ذلك الشاب غدا اليوم ممن غطى رؤوسهم الشيب ..
ومن الذكريات التي مازالت في الذاكره مسألة زواج الفنانه العراقيه ( هيفاء حسين ) من احد ابناء بيروت , فكانت الاجراءات المتبعه ان تستفسر وزارة الخارجيه اللبنانيه من سفارتنا في مثل هذه الحالة ان كان لديها مانع من اتمام الزواج وكنا تجنبا للوقوع في مأزق لاتحمد عقباه نشترط قيام ولي امر الفتاة العراقيه بمراجعتنا وابداء عدم الممانعه .. وعند مراجعة ( هيفاء) متعها الله بالصحة والعافيه طلبت منها ان يواصلني ولي امرها فافادتني ان هذا الشرط لايتوفر عندها .. فلم أستطع البت بطلبها الا بعد وقت حيث وجدنا منفذا لتلبية طلبها ..
وفي احد الايام وكالعاده كنا نذهب للمطار اما مودعين او مستقبلين كنت واقفا بالقرب من المكان المخصص لمكتب الخطوط الجويه العراقيه في مطار بيروت جاءت الفنانة العراقية المعروفة بخفة دمها وبغداديتها المتأصلة في سلوكها ( احلام وهبي ) متوجهة الى بغداد وهي تحمل حقائبها للتأكد من كون وزنها مطابقا للمسموح به الا ان الكشف اظهر تجاوز وزن حقائبها ما هو مسموح به وطالبها المسؤول عن الوزن بدفع مايترتب على ذلك . فما كان منها الا والتفت الي متحدثة ببغدادية لاتشوبها شائبة وقالت ..( أف..... ) بأسلوب بغدادي يقطر خفة دم واريحية لاتتوافر الالمن عاش وتربى باحضان بغداد الخير .. فضحكنا وتمت تسوية الامر بما يرضيها ..
وكانت الفنانة احلام أسبغ الله عليها ثياب الصحة والعافيه تسكن بالقرب من منزلي في شارع ( استراليا) مع ابنتها التي كانت تعمل مضيفة في طيران الشرق الاوسط اللبناني وفي نفس البناية التي كان يسكنها الشخص الثاني بسفارتنا يومذاك السفير فيما بعد الدكتور وهبي القرغولي متعه الله بالصحة والعافيه..
ولا تبرح الذاكرة أيام خلت رغم انقضاء فترة زمنية ليست بالقليلة لحلاوتها .. ففي شارع ( المارتنيز ) ببيروت يقع الفندق المسمى بأسم الشارع والذي يملك الوجيه الموصللي والبغدادي ( حسن توحله ) اسهما فيه وكان يقيم فيه عندما يزور بيروت التي كان شبه مقيم فيها .. وكنت والصديق حسام العويناتي نذهب في بداية السهرة الى مقهى المارتنيز حيث يلقانا العم ابو نبيل رحمه الله بترحابه المعهود ويكون ذلك اشارة للنادل الذي يقوم بما يتوجب عليه ازائنا وبشكل متميز اكراما للعم ابو نبيل ومعارفه..
وفي ملهى صغير بشارع المارتنيز سمعت لاول مرة اغنية الفنان الكبير( ياس خضر ) ( أعزاز ) فما ان دلفنا لداخل ذلك الملهى في احدى الليالي الا وسمعت المقدمة الموسيقية لهذه الاغنيه ترقص عليها راقصة قيل لي فيما بعد انها عراقيه
وتكر الذكريات فأتذكر زيارات الاستاذ ( عبود الشالجي ) الذي كان مقيما بصورة دائمة في (بحمدون ) صيفا وشتاء تجنبا للضوضاء وفي احدى زياراته حمل لي معه مجلدات كتاب كان قد اكمل تحقيقه وطبعه وعلى ما اذكر كان كتاب ( الامتاع والمؤانسه) ..
واتاحت بيروت لي معرفة الوراق الاشهر المرحوم ( قاسم محمد الرجب ) فكنا نلتقي على كاسة شاي في مقهى ( الستراند )بالحمرا كلما كان بزيارة لبيروت حيث يمتلك بيتا في بحمدون وقبل وفاته رحمه الله التقينا كالعاده مساء احد الايام ولم يكن يشكو من شيء ولم الحظ عليه عوارض مرض او تعب .. وقد أمدني جزاه الله خيرا في الدارين بالكثير من الكتب التي كانت تطبع في بيروت فلا انسى هذا الفضل ما حييت ولا انسى طيب اخلاقه ومعشره رغم تفاوت العمر بيننا .. ومرد هذه العلاقة ماربطتني بنجله الاخ محمد من صداقة عززتها زياراته المتكررة لبيروت ..
وممن كنت التقيهم وبصورة مستمرة اولاد الشيخ ( فنر الفيصل ) المرحوم ( خوام ) واخوته فارس وخالد وابن عمومتهم الشيخ عجيل احمد العجيل وعيسى محمد فخري الجميل وشقيقه عماد وليث الخضيري ومجيد الدهان
وكنت اتردد بأستمرار على مطعم (بغداد) القريب من داري ومن الروشة لصاحبه المرحوم جورج الذي كان يمدنا بالاكلات العراقيه التي نفتقدها وكانت ليالي المطعم تزينها الفرقه الغجريه باغانيها وكانت هذه الفرقة تضم الاب وابنتيه اللتان اشتهرت احداهما فيما بعد وقد نسيت للاسف اسمها الا انني اتذكر اسم ابيها الذي اشتهرت به وهو ( توفيق )..
وكان يسكن البناية التي يقع اسفلها مطعم بغداد المرحوم المحامي (عبدالطيف العمر) وكان ابا وليد رحمه الله وعائلته الكريمه يغمروننا بلطفهم ومحبتهم ودعواتهم لنا لاسيما وان الاخت ام وليد لبنانيه تجيد طبخ الاكلات اللبنانيه التي لم نكن نجيدها ..
وأختم بالدعاء للبنان وأهله بالخير ودوام الامن والسعادة لهم جميعا لاءنهم أهل لكل خير ..
عبدالوهاب عبدالستار الجواري
في العاشر من ايلول 2012
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع