(( شخبطات من أوراقنا ومخيلتنا عن دور السينما في بغداد والتي أضمحلت لكن ذكراها لا تزال حاضرة ))

شخبطات من أوراقنا ومخيلتنا عن دور السينما في بغداد والتي أضمحلت لكن ذكراها لا تزال حاضرة 

               

               

 في مقهى جميل له أطلالة على بحيرة خالد في الشارقة يدعى مقهى برلين وبجنبه مجمع الماسة لصالات عرض الأفلام، تعودنا الجلوس مع بعض الأصدقاء من الذين أغتربوا عن العراق بصورة غير طوعية، فالمقهى يظل ملتقى الحوار في شتى المجالات السياسية والثقافية والأجتماعية،

ومع أحتساء القهوة يتحول هاجس المكان الى مصادر خصبة من الذكريات، ذكريات جميلة تتوق لها النفس، وعندما نرى صالات العرض مزدحمة بالرواد من أعمار الصبا للجنسين والمراهقين منهم تبرز لنا ذكريات  معاصرتنا للعصر الذهبي لدور السينما البغدادية ،وما شجعني للكتابة كان بتشجيع من صديق عزيز له مدونة تحضى  بكثرة قراء مواضيعها الشيقة والجيدة ومنها على وجه الخصوص النشاطات الثقافية والتراثية والفنية والأجتماعية للعراق، ومن خلال الأستذكار مع أصدقائنا وأضافة الى ما كتبه البعض عن دور السينما البغدادية وأثرها في حياتهم ووفق تجاربهم الحلوة والمرة، فأن الحديث عنها يبرز عظمة تألقها وعنوان ثقافتها وأنعكاس ذلك لنمو الوعي السينمائي في حينه لتكون أستذكاراً لما عايشته المجتمعات البغدادية وكيف تفاعلت معه.
مما لاشك فيه أن فترة الطفولة والصبا هي الأكثر التصاقاً بالمخيلة وهي تختزن الكثير من الأحداث والمشاهدات نحاول أن نسترجع شذرات من تلكم الذكريات عن صالات ودور السينما في بغداد في أيام الزمن الجميل ولكننا يجب أن نتطرق عن بداياتها.
  

كان أول عرض سينمائي في بغداد ليلة 26 تموز1909 في دار الشفاء بجانب الكرخ والذي وصفوه بالألعاب الخيالية( السينما توكراف) ثم أنشأت سينما بلوكي سنة 1911 وسط البستان الملاصق للعبخانة في الهواء الطلق، بعدها سينما سنترال سنة 1920 في حافظ القاضي والتي أصابها بعد مدة حريق كبير دمرها وأنهاها، و سينما الوطني  في منطقة الميدان محلة الصابونجية سنة 1927،

  

شيدت في الثلاثينات سينما الزوراء في المربعة والرشيد الشتوي والصيفي في شارع الرشيد والذي أخذ هذا الشارع رونقه وجماليته نتيجة البناءات الجميلة، أقدم أسماعيل شريف بتشيد سينما الحمراء والتي أحترقت هي الأخرى بعد عدة سنوات، كما أنه أنشأ فيما بعد سينما الأعظمية والبيضاء في بغداد الجديدة، وفي الثلاثينات أستمر البنيان الجميل في شارع الرشيد، فشيدت سينما الهلال وفيها جناح خاص للسيدات والتي شهدت أفتتاح أول حفلات مطربة العرب أم كلثوم سنة 1932 وبعدها المطرب محمد عبد الوهاب، وشيدت عائلتي المسيح والسوداني مجمع سينما روكسي ذات الجمال المعماري والنقوش الجميلة حيث بناها الأسطوات العراقيين وعند المدخل نصب تمثالان لآله الجمال،

                   

وفي سنة 1937 بنيت سينما غازي في الباب الشرقي من قبل (بيت عيزر)، والتي أمتازت بفخامتها وروعتها المعمارية  وأفتتحت بالفلم العالمي (ذهب مع الريح) ، وفي الأربعينات أصبح الباب الشرقي المكان المتميز من حيث الأبهة والجمال فأنشأمجمع لدور السينما فأصبحت سينما تاج الصيفي وديانا الشتوي مكاناً مكتظاً بمشاهدي الأفلام من سكنة بغداد والمحافضات وكذلك السلك الدبلوماسي،

   

وفي الخمسينات بنيت سينما الخيام في نهاية شارع الرشيد من قبل أسكندر سطيفان وكانت أحسن سينما وأجملها في منطقة الشرق الأوسط ، فيها على الجانبين لوحتا عمر الخيام المتحركة والمستوردة من أيطاليا والمقاعد المتحركة والمستوردة من أمريكا،

             

وكان الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء الوحيد الذي أرتاد السينما لمشاهدة فلم(أم الهند) وكان ذلك في سنة 1959 وقد أشترى مرافقه تذكرة اللوج وبقى لمشاهدة الفلم بالرغم من أن طول الفلم هو ثلاث ساعات، كما كانت عائلة الرئيس عبد السلام عارف من الذين يرتادون سينما الخيام بأنتظام، كما كانت الفنانات المشهورات عفيفة أسكندر وأحلام وهبي وهيفاء حسين من رواد السينما أيضاً،

               

والجدير بالذكر أن فلم أم الهند قد أبكى كل من شاهده من العراقيين واستمر عرضه لشهور في سينمات بغداد والمحافضات العراقية، وكان مفتاح دخول الأفلام الهندية الى العراق، وفي الصالحية أفتتحت سينما فيصل وفي الجهة المقابلة بنى الدكتور يوسف القاضي سينما ريجنت، ثم بنى قدري الأرضروملي سينما الأرضروملي في علاوي الحلة والتي تحول أسمها الى سينما بغداد، وفي الستينات وبعد أن أزدهر شارع السعدون وأصبح شارع الثقافة والتجارة والسياحة بنيت سينما النصر سنة 1961، وغنى على مسرحها المطرب عبد الحليم حافظ والمطربة صباح وكانت مقاعدها تسع 1200 شخص، وغرناطة والسندباد وسميراميس وبابل وأطلس وكل منها بمواصفات جمالية معمارية وفنية تمتلك كل أسباب الراحة والتقنية لعرض الأفلام أو التحول الى مسارح عند الحاجة وكانت هذه الصالات معها سينما الخيام تخصص الساعة التاسعة والنصف للعوائل.
أصبحت دور السينما في بغداد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من الوجاهة وذوق مؤسسيها وهم من رجال الأعمال والمشهود بتذوقهم للفن السينمائي وروعة ما كانوايعرضون، وكانوا بحق رجالات لهم الفضل بوصول السينمات الى عصرها الذهبي، بعد أن وصلت الى مايسمى بواحة ومحطة الثقافة.
     
كنا نذهب ونحن أطفال الى سينما الأعظمية القريبة من سكنانا،وكم كان ممتعاً مشاهدة بطل الفلم والذي نطلق عليه مصطلح (الولد)، وحلم كل واحد منا بأنه مثل بطل الفلم وأحياناً نقلدتسريحة شعر البطل وتقمص طريقة مشيه وحركاته ،وفي كثير من الأوقات نشتري صورهم،لقد شاهدنا في تلك الفترة روبن هود وهرقل وشين والمصارعون العشرة وأفلام الكاوبوي والتي نطلق عليها أفلام العصابة وفلاش كوردن والسندباد البحري، ونجلس في الطابق الأرضي أبو الأربعين ونشاهد الفلم ونحن نقول أن بطل الفلم لا يموت، أحياناً نشتري الشامية وأحيانا نصف صمونة بالعمبة وكنا ندخلها يوم الخميس أو الجمعة.

   

في فترة الصبا والمراهقة وبوجود دور السينما في مناطق راقية، شكلت معلماً حضارياً وثقافياً ولكونها صالات درجة  اولى وذات التكييف الحار في الشتاء والبارد في الصيف وذات المقاعد المريحة وأماكن للعائلات تدعى المقصورات (اللوج) ولكونها ملاذاً لكثير من العوائل البغدادية للأستمتاع والمشاهدة للأفلام التي فيها قيم فنية ومحورية تدور حولها الأفلام المختارة، كنا نصل الى السينما قبل ساعة من العرض مرتدين ألبستنا الحديثة وترتيب شعرنا مثل الممثلين، نشاهد الصور الكبيرة والصور المعلقة في مداخلها في اللوحات الزجاجية التي تظهر صور مقاطع الأفلام مع لقطات للأثارة، وكنا ننتظر خروج الناس من السينما والبنات والنساء تفوح منهم الروائح العطرة مرتدين الملابس الأنيقة، والقسم منهم يرتدون موديلات ما يرتديه الممثلات الغربيات والعربيات.

    


كان هناك أغراءات من خلال الدعايات والترويج في الأعلانات من خلال الصحف واللوحات الكبيرة التي تتوسط السينما فيها صور الأبطال من الرجال والنساء مما يشجع الرغبة لأرتياد السينمات، وكان في زمننا نوعان من الجمهور، جمهور ذواق جداً من خلال الأهتمام والأحترام لفن السينما والأفلام ويتصرف بشكل حضاري وهم عادة من رواد دور السينما الراقية، وجمهور يفتقر الى اللياقة وحسن التصرف وبعيداً عن الذوق الفني وهم الذين يتصرفون بشكل غير لائق داخل صالات العرض لسينمات الدرجة الثانية وخصوصاً في الباب الشرقي وجزء من شارع الرشيد، حيث تسمع الكلام أثناء العرض مع الصافرات والعياط،هذه الممارسات  لا تشمل كل سينمات الدرجة الثانية ،فسينما الأعظمية والبيضاء وبغداد ظلت محافظة على جمهورها لأن تلك السينمات كانت تختص بأهالي المنطقة وعوائلها أضافة الى قوة أداراتها وصرامتهم، كما أنها بالقرب من بيوت تلك المناطق.
                            

في زمننا كانت السينمات فيها نكهات أفلامها فكنا نعرف أسماء السينمات التي تعرض الأفلام الهندية والتي تصاعد أنتشارها بسبب تركيزها على الحب والأثارة والتشويق المطعمة بالموسيقى والغناء ولهدا أحبتها أكثر الأسر العراقية فقصصها مسلية وحزينة وشيقة فيها تشابه من حيث العادات والتقاليد الأجتماعية وأساليب العيش وحتى مشاكلها وتطلعاتها مما يجعل المتفرج يعيش ويسبح في عالم الخيال ويحلم مع أبطال الفلم،والسينمات التي تعرض الأفلام العربية والتي فيها جزء يشبه ما تطرحه السينما الهندية، والسينمات التي تعرض الأفلام الغربية والأمريكية ذات الأثارة والخيال والتأريخ وصراع بين قوى الشر والخير والبوليسيات والتجسس والحروب، وكان الفلم يتجدد أسبوعياً وعادة يوم الأثنين وفي بعض الأحيان يتجدد عرضه نتيجة الأقبال المتزايد عليه.

      

أصبحت دور السينما في نهاية الستينات والسبعينات متلألأة بجودة أفلامها المختارة مع أزدياد جمهورها وملاذاً لكثير من الأسر البغدادية، كنت مع زملاء لي أثناء فترة الدراسة في الكلية  ندخل مجاناً لسينما الخيام لوجود زميل لنا يملك عمه جورج أسطيفان السينما وكذلك سينما بابل بأن مالكها عبد الرزاق نوري الجراح أخ أصدقائنا،

            

فشاهدنا أجود الأفلام لجمس بوند وهتشكوك ورجل وأمرأة والفخ وأفلام مارلين مونرو وجمس دين وروبرت متشم وشامي وراج كابور وغيرها،وأستمر هوسنا وحبنا لمشاهدة الأفلام المختارة  بعد التخرج والى الآن.

   
ومع جودة ونوعيات السينمات أقدمت النوادي الأجتماعية على تخصيص يوم في الأسبوع لعرض الأفلام المختارة لعوائل وضيوف المنتسبين لها،ويتذكر زملاؤنا الجيولوجيين كيف كنا نستأجر أفلاماً عربية وتأريخية نأخذها معنا في العمل الحقلي الذي كان يطول لمدة شهرين في مناطق الصحراء في الغرب والجنوب  ومنطقة الشمال قرب القرى النائية عند الحدود مع تركيا وأيران، حيث تتوفر لدينا في شركة المعادن آلة عرض روسية للأفلام، فيتجمع يوميا في المساء من يسكن في المناطق القريبة من مخيمنا فيستمتعون مع عوائلهم لمشاهدة الأفلام التي نادراً ما عرفوا عنها لطبيعة معيشتهم خارج المدن والقرى وكنا نفتخر بأيصال هذا المجهود لهم.

   

في سنة1979 وأثناء زيارتنا لبومباي الهند إحدى أكبر المدن الهندية والتي تشتهر بصناعة الأفلام، دعانا قنصل العراق لمشاهدة أحد الأفلام الهندية  في سينما جميلة ورائعة كأنها تحفة من داخلها وخارجها مؤطرة بلوحات تعكس جمال الهند، وفي نفس الشارع توجد أكثر من مئة سينما،وأن عدد السينمات في عموم الهند هو عشرة آلاف،وكانت مليئة بالمشاهدين وبين لنا بأن الهند تنتج ما يقارب ألف فلم سنوياً وأن رواد المشاهدة بالملايين لأن أصول شعبهم متنوع بثقافته وفنه الممزوج بالغناء والموسيقى،فقيرهم وغنيهم مهووس بالسينما.


   
في بداية الثمانينات بدأ عصر صالات ودور السينما في بغداد بالأفول التدريجي وأخذت تفقد بريقها ومجدها وضعف الأقبال مما أدى الى قلة وارداتها وبقيت على قدمها بدون أدامة وتطوير، ومن الأسباب المهمة لهذا الأفول هو تطور التلفزيون تكنولوجياً وبدء عصر الفيديو،وأن الموزعون أبتعدوا عن مواكبة  تطورات الزمن وبدأو بالتفتيش عن أفلام رديئة  وبعيدة عن مقص الرقيب، مما أبعد اغلب العوائل بعدم أرتيادها للسينمات مكتفية بما تشاهده في التلفزيون أو في النوادي الأجتماعية، وتوالت السنيين فتحولت معظم دور السينما الى صالات شاحبة ولا أكتراث لها،لقد غابت عن شارع السعدون والرشيد والأعظمية والكرخ وبغداد الجديدة دور السينما، فسينما السندباد أختفت وتحولت الى محلات تجارية،فسينما أطلس وبابل تحولت الى مخازن ومجمعات تجارية، ويقال بقت سينمتين يرتادها متسكعي الشوارع يتابعون أفلام قديمة ومخلة بكافة الآداب ومن نسخ (السيدي) غير الأصيلة مما يجعل عرض الفلم مهتزاً، أصبحت بغداد من دون سينما وأختفت الصالات التي كانت تعبر عن ماض هام وجميل من تأريخ بغداد وأختفت بعض من واحاتها الثقافية.

   
يبقى محظوظ من جمع ملصقات الأفلام أيام زمان لأنها تعتبر ثروة ثقافية وفنية والتي غابت عن وجهات السينما ومداخلها اليوم، لأنها كانت تمثل الصورة والرسم بألوانها الجذابة وصور الممثلين والممثلات وخصوصاً صورة البطل( الولد) حيث يمكن عمل معرضاً يعكس ما كانت تعرضه سينمات بغداد في ذلك الزمن الجميل ، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

              
                           

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

727 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع