ذكريات عن تأسيس اذاعة وتلفزيون العراق
بدأت اول محطة اذاعية ذات هوية عراقية في عام 1935 او عام 1936، وكانت تديرها الحكومة. وتقدم المصادر العراقية ومصادر اليونسكو تواريخ متضاربة عن ذلك الحدث. وكانت هذه المحطة متوسطة الموجة وذات قوة واطئة، حظيت بتسهيلات تقنية متوسطة، وقدمت جدول محدد من البرامج، واديرت تحت رعاية (ادارة البريد والبرق)،
الا انها كانت تدار فعليا بواسطة لجنة حكومية ضمت ممثلا عن وزارة التربية.
وتوفرت ببعض الاموال لسد نفقات هذه المحطة من الضريبة المفروضة على بيع مستقبلات الاذاعة (الراديو)، مع ذلك كان الحصول على الاموال الكافية قد شكل معضلات خطيرة واجهت المحطة.
الحادثة الاكثر غرابة في البرنامج الاذاعي العراقي حدثت في عهد الملك غازي (1933 – 1939)، الذي تولى الحكم بعد وفاة والده الملك فيصل الاول (1921 – 1933). وكان غازي، الذي تأثر على نحو ظاهري بين المقاييس الغربية والعربية، مهتما بالمشاريع التقنية. وعاش حياة متهورة على المستوى الشخصي. اما سياسيا فكان معاديا للبريطانيين ومناصرا للالمان على الاقل على مستوى الاذاعة. وبعد تأسيس محطة الاذاعة الحكومية، بدأ غازي بتأسيس محطته الخاصة التي كانت تبث من القصر الملكي وكان غازي المذيح الوحيد فيها. وكانت هذه المحطة تبث وفقا لرغبة صاحبها ومعروفة بكونها احدى الاذاعات الموالية للنازيين بموضوعاتها الاخبارية التي كان الالمان يقومون ببعضها. وتوقفت هذه المحطة الملكية بعد وفاة الملك غازي في نيسان من عام 1939.
في عام 1939، كانت الاذاعة الحكومية تبث برامج لحوالي خمس ساعات يوميا، خمسة عشر دقيقة منها باللغة الكردية، وشكل ذلك البداية لخدمة الاقلية الكردية، التي تعيش اكثريتها في القسم الشمالي في البلاد. وفي عام 1945، توسعت خدمات الاذاعة الحكومية بمساعدة المستشارين والتقنيين البريطانيين. وعلى الرغم من استمرار بث البرامج العربية حوالي خمس ساعات يوميا، زاد بث البرامج الكردية من خمسة عشرة دقيقة الى ساعة.
بين نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة عام 1958، حدث القليل من التطورات النسبية في الاذاعة العراقية. ولم تكن الاسرة المالكة والزعماء مدركين على نحو واضح للتغييرات السياسية التي حدثت على مستوى العالم العربي. فكانوا جاهلين وغير مبالين بالاضطراب الواسع في العراق، وفشلوا في زيادة البرامج الاذاعية او بناء المرسلات التي يمكن ان توفر بث البرامج الاذاعية الوطنية لجميع المواطنين. وعندما ادرك بعض الزعماء الافتقار الى خدمات بث اذاعية فعلية كان الوقت متأخرا جدا لتصحيح الوضع، فلم يتم الاستيراد السريع لاستديوهات البث والمرسلات وابراج الارسال وتنصيبها.
فمنذ قيامها بثورة 23 تموز عام 1952، وانجزت مصر بنشاط ما اهمله العراق. ففي الكراسة التي نشرها جمال عبد الناصر عام 1955 (تحرير مصر: فلسفة الثورة) اشار الى ان مصر يجب ان تعمل ضد الاستعمار وحدد مناطق معينة يجب ان تؤثر فيها مصر، اطلق على هذه المناطق اسم (دوائر): الدائرة العربية الاكثر اهمية.. وهي التي ترتبط بها على نحو وثيق، والدائرة الثانية هي القارة الافريقية تقع فيها مصر حيث وصف ناصر الصراع بين البيض والسود، والدائرة الثالثة التي تحدد بالقارات والمحيطات... هي ارض اخواننا في العقيدة، الدائرة الاسلامية.
وكان العراق ضمن الحلقتين الاولى والثالثة، وكانت الظروف هناك وفي بلدان عربية مختارة ملائمة لاستغلالها من خلال واحد او اكثر من برامج ناصر الاذاعية. وخلال السنوات الثلاثة التي سبقت ثورة 1958، كانت هناك حرب اذاعية بين مصر والعراق. ووفقا لعوامل عديدة مثل قوة الارسال والملاك المتفوق والتصميم الشفاف، كان المصريون متفوقين. وكان عبد الناصر معاديا للملكية ورأى بان العراق، في ظل حكم نوري السعيد، موال للبريطانيين. فنوري السعيد مساند لحلف بغداد الذي انضم العراق اليه، وهو الحلف الذي اعتقد عبدالناصر انه محاولة اخرى للدول غير العربية للتأثير في سياسة الشرق الاوسط. شن معلق الاذاعة المصرية احمد سعيد هجوما من خلال”اذاعة صوت العرب". والمقتطفات الاتية من برامج احمد سعيد الكاملة لهذا الخطاب العربي الشعبي للمعلق بل انها تقدم امثلة لهجوم الاذاعة العصرية.
"انت يا اخي تعرف الرجل تعرف كيف زور الانتخابات وكيف زيف ارادة الشعب. وتعرف كيف فرض النواب على البرلمان – النواب الممثلين له ولاسياده المستعمرين، الذين لا يمثلون الشعب او يعملون من اجل العراقيين. وانت يا اخي تعرف نور السعيد، تعرف هذا الرجل – انه لا يستطيع الا ان يخدم المستعمرين. وهو يحاول ايضا ان يخدم كل من ينهب واولئك الذين يعادون اخواننا في العراق. انت يا اخي تعرف هذا العدو نوري السعيد.. ان قلوب الشعب في العراق مفعمة بمشاعر انتقامية ضد حكم نوري السعيد والاستعمار البريطاني.. ان ابادة جواسيس الاستعمار هو الخطوة الاولى نحو انهاء الاستعمار نفسه. فمصر تحررت بهذه الطريقة، وبالطريقة نفسها سيتحرر العراق.
"اخي في العراق، انت ابتعدت فعليا عن قذارة وبذاءة نوري السعيد – حافظ على ابتعادك عن مؤامراته وحكمه.. فليست هناك قوة على وجه الارض ستكون قادرة في المستقبل، عندما ستحرر نفسك من نوري السعيد وجواسيسه، ان تلزمك باي قرار اتخذه نوري السعيد".
وقبل اسبوع من ثورة 1958 شكر احمد سعيد الله، خلال برنامجه بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة في صوت العرب، يفجرون الثورة – المفرحة التي اندلعت في كل بفعة من ارض العرب، التي ادى (صوت العرب) دورا بارزا فيها اعترف به العدو. وكانت هناك على الاقل حزمة سرية مصرية تسللت الى العراق، اطلق عليها اسم (اذاعة العراق الحر)، وهي المحطة التي اقتربت من (اذاعة القاهرة) و(صوت العرب) في الدعوة للثورة. وقد انتبه نوري السعيد على نحو كاف للبرامج المصرية لاتخاذ اجراءات مضادة، لكن ذلك جاء متاخرا جدا. وناشد رئيس الوزراء الحكومة الامريكية للمساعدة في بناء مرسلات: طلب نوري السعيد مرسلات ذات موجة طويلة ومتوسطة”في غضون ايام، او اسابيع قليلة في ابعد تقدير”لانه اشار ان امكانيات الارسال العراقية لا تجاري تلك التي تستخدمها مصر”وربما لم تكن الدرجة التي ساهمت بها البرامج المصرية في ثورة 14 تموز 1958 معروفة للثورة العراقية. وهناك شك قليل بان المواطنين العراقيين استمعوا الى هذه البرامج واستقبلوا ما كان يقوله احمد سعيد. وبعد الثورة، تسلم مدير (صوت العرب) ورئيس المذيعين احمد سعيد رسالة من العراق احتوت على تذكار تثمينا لدعم الاذاعة المصرية الذي قدمته للثورة – كان في مغلف الرسالة قطعة من اصبح رئيس الوزراء السابق نوري السعيد.
الاذاعة العراقية بعد الثورة:
ادركت حكومة عبد الكريم قاسم بعد الثورة اهمية البرامج المصرية وحقيقة ان العراق لم يكن مجهزا بمعدات الارسال اشارة داخلية فاعلة للمواطنين او الوصول الى الدول المجاورة باشارة اذاعية. وقد اصدر عبد الكريم قاسم تعليماته للحصول على امكانيات ارسال واسعة من الاتحاد، السوفيتي، وهو البلد الذي اصبح متحالفا معه، ولا سيما في المسائل العسكرية. وفي عام 1961، وعلى نحو مرافق اللاحتفال بالعام الثالث لثورة 958، خصص قاسم ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار لشراء معدات الارسال. هذه المعدات اشرت دخول الراق الى نادي العالم العربي للمرسلات ذات القوة العالية واصبح العراق مساويا لمصرفي قوة الارسال.
بعد ثورة 1958، ظهر الكثير من الاصدارات وازدادت النشاطات الثقافية، واتسعت البرامج الاذاعية الى خمسة عشر ساعة يوميا واصبحت البرامج ثورية ومعادية للامبريالية في طبيعتها. وحتما فان هذه الحرية ادت الى الفوضى والصراع بين الصحف والاحزاب السياسية. فاغلق قاسم غالبة صحف المعارضة وظلت فقط الصحف التي تدعمه. وحول الاذاعة والتلفزيون الى اداوات لحكومته وشخصه واختار المذيعين الذين يناصرونه وسجن اولئك الذين لا تفقون مع سياسته. واصبحت الاذاعة والتلفزيون مكرسان لقاسم وكانت خطبه والاخبار الاخرى تشكل غالبية ساعات الارسال. وتم تسجيل وبث الاغاني التي تمجده فقط في الاذاعة. وخلال السنوات الخمسة التي قضاها قاسم في الحكم استخدم الاعلام على نحو واسع لاغراضه الخاصة.
اتبع الزعماء الذين جاءوا بعد قاسم، باسلوب لا يختلف عن بقية الزعماء العرب، سياسة تطوير استغلال الاذاعة محليا واقليميا ودوليا، فعند الثورة، اصبح الاعلام المرئيس والمسموع يدار مباشرة من (وزارة الاعلام).
وتم التوسع في بناء مرسلات عالية القوة وليس التوسع في استوديوهات الانتاج الاذاعي وتجهيزاتها. وكانت الاستوديوهات الاذاعية، الواقعة في بغداد في مبنى يضم بناية التلفزيون، كافية لانتاج المادة الاذاعية التي كانت تبث لاهداف متنوعة. بعض المعدات، مثل السيطرة السمعية وصلت في عقد الخمسينيات، لكن بعضه الاخر، مثل المايكروفونات ومسجلات الاشرطة السمعية الامريكية Ampex كانت جديدة.
الكاتب/محمد علي كريم - مذيع راحل
مجلة العاملون في النفط 1972
1139 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع