أحاديث من ذاكرة كركوك ... رشيد و الممثل (غريغوري بك)
كانت الحياة الاجتماعية في كركوك أواسط الخمسينيات من القرن الفائت ، بسيطة كبساطة أهلها ، وكانت أماكن الترفيه فيها قليلة جدا أن لم نقل معدومة ، حيث لا تعدو عن بضعة مقاهٍ شعبية مبثوثة بين الحواري والمحلات على جانبي المدينة ، ومثلها بضعة أندية ليلية ، يرتادها الموظفون والكسبة وأرباب الحرف ..
وكان المكان الترفيهي الاكثر شهرة في كركوك ، هو بلاشك (صالة سينما غازي) التي أفتتحت نهاية الاربعينيات ، وكانت تقوم على الضفة الغربية لنهر ( خاصه صو) ..
في صالة سينما غازي ، وتحديدا في صالتها الصيفية ، تبدأ حكايتنا لهذا اليوم ، وبطلها الشاب العشريني ( رشيد ) ابن قلعة كركوك ،وفتاها الغيور، وشقيها الشجاع الذي كان يذود عن حمى المحلة ، ويتصدى لمن يحاول المساس بأحد من ساكنيها ، كان رشيد محبوباّ من قبل ابناء القلعة ، لمواقفه الأنسانية الرائعة ، أذ كان يجير الملهوف ، ويذود عن المظلوم ، أريحياّ ، مقداماّ ، يهابه الكثير من شقاوات وقته ، لشدة بأسه ، وقوته العضلية ...
ذات ليل تموزي حار ، كان رشيد يمر في شارع أطلس ، عائدا الى بيته مع شلة من أصدقائه ، بعدما أحتسى ما طاب له من كؤوس الخمرة المحلية المسماة ( عرق الهبهب ) في حانة (ابو غازي ) التي كان مرتادوها من الكسبة وذوي الدخل المحدود ..
أثارت صيحات جمهور سينما غازي ، وهم يتابعون احد أفلام الكابوي ، أنتباه ( رشيد ) فقرر أن يدخل الصالة ليعرف ما يدور فيها ..
أخذ مكانه في الصالة المظلمة ، وراح يتابع مجريات الفلم ، وبطل الفلم الممثل الامريكي ( غريغوري بك ) يبدو في لقطة وهو يخوض غمار معركة حامية الوطيس مع مجموعة من رعاة البقر ، ويرديهم كلهم ، قتلى ، واحدا تلو الاخر ، ولم يكتفي بطل الفلم بكل ذلك العدد من القتلى ، بل تمادى أكثر فأكثر ، وراح يطلق نيران بندقيته ذات اليمين وذات الشمال ، دون أن يجرؤ أحد على التصدي له ، وأيقافه عند حده ..!!
ويبدو أن صاحبنا ( رشيد ) وقد لعبت الخمرة في رأسه ، وفار الدم في عروقه ، استهجن هذا الفعل الظالم الذي قام به بطل الفلم ، وقتله أناسا ابرياء .!!
لذا أنتفض من مكانه كالبرق ، وصاح بصوت عال سمعه كل من كان في الصالة : وووولك .... هي أدبسز عبالك احنا نسوان گاعدين كدامك ، وانته تكتل بالناس!!!
وسحب رشيد مسدسه ( أبو البكرة ) وأمطر شاشة السينما بوابل من الرصاص ، أنتقاما للقتلى الذين سقطوا صرعى رصاصات ( غريغوري بك ) ...!!!!
ساد الهرج والمرج ، بين رواد الصالة الذين راحوا يتدافعون للخروج من المأزق الذي أثارته رصاصات رشيد ، ثم ما لبث أن حضرت الشرطة ، وأقتادته ، وأصدقائه المخمورين الى مركز الشرطة ( السراي ) تمهيدا لتقديمه الى القاضي لينال جزاء ما أقترف من أخلال بالأمن ..
في صباح اليوم التالي ، كانت حادثة أطلاق النار تلك ، مدار حديث على كل لسان وشفة ، والناس يتداولون في مجالسهم بشيء من التعجب والسخرية ، ما قام به رشيد في صالة السينما ، وكيف أنه أطلق النار على الشاشة ، ليقتل الممثل ( غريغوري بك ) ظنا منه أن ما قام به حقيقة ، وليس تمثيل ....!
أكتفت المحكمة التي عرض عليها ( رشيد ) بتغريمه مبلغ سبعة عشر دينار ، تعويضا للخسائر المادية التي احدثتها الرصاصات في شاشة السينما ، بعد تدخل العديد من وجهاء المدينة ، وتنازل صاحب السينما عن حقه في القضية ...!!
اليوم ، وبعد مرور سبعة عقود من الزمن على تلك الحادثة الغريبة ، وبعد أن أزيلت بناية سينما غازي منذ ما يقرب من خمسين سنة ، مازالت قصة الشقي ( رشيد ) وأطلاقه النار في سينما غازي ، تذكر بين العامة في كركوك ، كأغرب حادثة شهدتها صالات السينما!!!
906 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع