أين كنا وأين أصبحنا؟
بغداد بين أمسٍ مُشرقٍ وحاضرٍ كئيب!!
صديق الگاردينيا الدائم
بغداد و الشعراء و الصور ذهب الزمان و ضوءه العطر!
يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس يغسل وجهك القمر!
بغداد هل مجد و رائعة ما كان منك إليهما سفر!
بغداد كانت رمزاً للعراق وللأمة العربية بل وللبشرية، رمزاً من رموز العلم والمعرفة على مرّ العصور، فماذا دهاها اليوم، حيث باتت مدينة الاشباح بفضل قادة أمورها، الذين همّهم الاكبر السرقة وليس في بالهم المواطن الفقير الذي باع اغلى ماعنده من اجل لقمة العيش!
العراق كان يوصفُ في سبعينات القرن الماضي بأنه افضل الدول العربية في التعليم والصحة ومنافساً للدول الاجنبية، من حيث الطب والهندسة والتكنولوجيا والتعليم والاعلام، وبرزت فيه اسماء لامعة في الهندسة والاعلام والطب والأدب، أمسى اليوم في المرتبة الأخيرة في كل شيء.. وصار العراق الاسوأ في الفساد وانعدام الأمن، والاكثر رعباً للمثقفين والكفاءات.. وبغداد صارت المدينة الأسوأ في الخدمات بكل أنواعها!
بلد بين امس جميل، وغد كئيب، اصبح رُكاماً مُدمراً بفضل الحروب، وماتسيطر عليه الاحزاب التي تدّعي الدين والدين منها براء، ومازالت تعيث في الارض فساداً تقتل باسم الدين وتذبح باسم الله.. وباتَ همّ العراقيين والبغداديين خصوصاً: هل سترجع بغداد الرشيد يوماً كما كانت؟.. أم ان "مدينة السلام" باتت حُلما للاجيال وروايات يتناقلوها؟
يتساءل المواطن البغدادي بحسرة وألم وهو يخاطب الدخلاء الذين سرقوا بغداد واغتصبوا فرحتها وابتسامتها:
في بغداد بالامس القريب، قبل ان تطأها اقدام الغزاة والطارئون، كانت فيها منتزهات وحدائق وساحات خضراء تشرح الصدر، تأوي اليها العائلات العراقية ببراءة وانشراح.. لكنها انعدمت اليوم وان وُجِدَت فهي ملاذ للمتسكعين والمنحرفين والشواذ..
احدى حفلات التخرج في الجامعة المستنصرية نهاية الستينات .... فرق كبير عن حفلات تخرج هذه الايام.
كان التعليم عندنا في ارقى واحسن مستوياته، متوفر للجميع فمن اراد التعليم الحكومي فهو مجاني وممتاز، ومن اراد التعليم الخاص فهناك مدارس اهلية راقية تنافس مدارس امريكا وبريطانيا وفرنسا. وكانت المناهج الدراسية على ارقى مايكون حتى أن مناهج اللغة الانكليزية تاتينا من جامعتي اوكسفود وكمبريدج!.
كانت السفرات المدرسية والجامعية للطلبة والطالبات تنظم بدقة ويشترك فيها الطلبة من الجنسين باخوة وود واحترام متبادل.
في بغداد كانت لدينا مطاعم فاخرة من كل الانواع توفر الوجبات الفاخرة باسعار معقولة وفي متناول المواطن البسيط.. فقد كان لدينا مطعماً أيطاليا وأخر فرنسيا وأخر صينياً .. وكان لدينا فرناً للصمون الفرنسي ومُعجنات سويسرية ..
أما عن مطاعم السمك المسكوف فحدّث ولا حرج.. ومقاهي أبو نؤاس تعج بالرواد من كل الفئات والأعمار وباسعار بسيطة..ويرتادها البغداديون من جميع انحاء بغداد.. فوسائط النقل متوفرة لتعيدهم الى دورهم حتى بعد منتصف الليل!
في بغداد كانت لدينا مسارح ترتادها العائلات المحترمة،
كان لدينا أكثر من مسرح، من مسرح الاوبرا بمئات الكراسي الفاخرة، ومسرح بغداد ومسرح الفن الحديث ومسرح الكرادة ومسرح ساحة الاحتفالات الكبرى و..و..و.. مسارح عديدة تغصّ بالعوائل الكريمة وبالناس المُحترمين!!! وكان أصغرها مسرح الستين كرسي ومسرح آخر مخصص للطفل!
كانت لدينا صالات سينما فاخرة: النصر والخيام والرشيد وبابل وروكسي وميامي وريكس و و و عشرات الصالات تشتغل ليل نهار وتعرض اروع واحدث الافلام من كل الانواع والمشارب، كان يرتادها الفقراء حيث هناك المواقع رخيصة الثمن وهناك الاماكن الفاخرة واللودجات لمن يريد.. حتى رئيس الجمهورية وعائلته كان يحضر مع الناس العاديين لمشاهدة فيلم عالمي حديث دون أن يُعكر صَفوَ وراحة المواطنين داخل صالة السينما..
كانت بغداد مُغطاة بشبكة من باصات النقل العام الرخيص، وباصات ذات الطابقين من أفخر الانواع، وبلغ عدد خطوط باصات المصلحة الـ 120 خطاً لجميع انحاء واحياء بغداد، وكان لكل باص سائق وجابي يرتديان زياً فاخراً، وكان هناك مفتش يدقق في تذاكر الركاب، وكان للباصات توقيت مُحكم حتى انك تستطيع ان تضبط ساعتك على موعد وصول الباص وحركته!!..
كان لدينا نوادي اجتماعية لا تستطيع ان تدخلها مساءاً الا بربطة عنق حفاظاً على الذوق العام.. وكانت الناس تلتزم بهذه الضوابط والتعليمات دون انزعاج.
كان طبيعياً ان تشاهد العديد من صباغي الاحذية في الشوارع والساحات، لأن الناس كانت تهتم بهندامها وقيافتها ومظهرها وان تكون أحذيتها لامعة!!
كان لدينا فيما مضى مقاه راقية يرتادها الجنسين، بادب واحترام.. ركنا لشرب القهوة الصباحية، واماكن للسمر، وللنقاش، وللقاء الاصدقاء.. كان لدينا مقاهٍ على غرار مقاهي باريس وروما ولندن وقريباً منه نادي للبولنغ، وليس بعيداً عنه مجموعة من السينمات.
كانت شركات السفر النقابات والجمعيات توفر فرص سفر للمواطنين باسعار زهيدة وباقساط مريحة للسفر الى مختلف انحاء العالم واتذكر ان نقابة المعلمين اول السبعينيات نظمت سفرة للمعلمين المنتمين اليها حول العالم بسعر الف دينار فقط وبالتقسيط وتضمنت سفرة لدول العالم من اليابان الى امريكا ..
كان في بغداد شوارع نظيفة زاهية لامعة، وعمال التنظيف يشتغلون منتصف الليل لتنظيف وادامة الشوارع..
كان لدينا في بغداد …مجمعا تسويقياً راقياً، قبل ان تعرف اي مدينة عربية مثل ذلك (إنه الأورزدي باك)، بطوابقه الثلاث تتوزع البضائع بتصنيف وعرض ممتع يجذب الزبون .. وفيه مقهى يطل على دجلة من أجمل أماكن الركون الى الهدوء والتأمل ….
كان العراق اول دولة بالشرق الاوسط في مجال التلفزيون وسبقت جميع الدول العربية، واليوم صرنا في مؤخرة الركب العربي للاسف!!
كانت الكتب تباع في بغداد بأرخص الاثمان، وكانت تردنا الصحف والمجلات من كل انحاء العالم، وكان بامكانك ان تشتري الكتاب او المجلة بعد شهر أو اكثر من تاريخ صدورها بعشرة فلوس ويدور بائع الكتب والمجلات بعربته الحاوية على أنواعها .. ففي بغداد كان الكل يقرأ… كان (ابو هوبي) يرحمه الله مع عربته الشهيرة التي يركنها قرب المقهى البرازيلي بالمربعة في شارع الرشيد، ويعرض كتاب للقراءة بخمسة فلوس وكتاب للشراء بعشرة فلوس، وفي الباب الشرقي كان باعة الكتب يفترشون الارصفة يعرضون كتبهم بارخص الاثمان، كان الناس في المقاهي يطالعون الصحف بالايجار بثمن بخس دون حاجة لشراء الصحيفة... كانت بغداد تقرأ ... اما اليوم فانها للاسف تنتحب!!!
إن الواقع الخدمي المزري الذي تعيشه بغداد، يحتاج رجالا يكونوا على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن يواجهوا الحقيقة الصعبة، التي لا مفر منها، ألا وهي أن بغداد ليست كما كانت بالأمس، ومن ثم فهي تحتاج الى إعادة التخطيط الحضري لجميع محلاتها، وتحديد المحلات التراثية، وإزالة التجاوزات على هذه المحلات، وكذلك إزالة التجاوزات على البنايات التراثية مثل البيوت الملكية في الأعظمية، وكذلك القصور التي طمست معالمها مثل قصر الزهور، كما تحتاج بغداد لإعادة تخطيط المركز التجاري والصناعي فيها،
فليس من المعقول أن يكون مثلما كان قبل خمسين عاما، فالمطلوب إيجاد مكان بديل للمركز التجاري، وكذلك الصناعي؛ على أن يكون خارج بغداد بمسافة معقولة للحد من ظاهرة الزحام فيها، وعدم تلويث هواء المدينة بالمخلفات التي تنبعث من المناطق الصناعية.
1077 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع