مقاهي بغداد في العشرينيات.. جولة ذكريات في مقاهي شارع الرشيد ومقاهي المحلات الشهيرة
أولا: قهاوي عگيل:
گهاوي(لايقال مقاهي) في سوق حماده، وهي اربعة قهاوي متجاوره يرتادها افراد عشيرة العكيل في جانب الكرخ، حيث يسكنون ابتداء من سوق حماده باتجاه (خانات الأباعر) الى (العنازيه) الى (الشيخ معروف)، ثم من منطقة سوق الجديد، التي تبدأ من دكان الحجي احمد العطار حتى قهاوي عكيل، مرورا بجامع عطا وطرف باروده والدهدوانه، والحصانه.
وعكيل يمتهنون التجاره والنقل الى خارج العراق بواسطة الجمال. كما يلتقي في هذه المقاهي قسم من تجار الخيول التي تصدر الى الهند لتركض في ساحة السباق في مدينة بونا الهنديه قرب بومابي. وقد اتخذ النجدي الخبير بالانساب عبد العزيز الصقير هذه المقهى مقرا له حين بدأ بأرسال العراقين الى نجد يوم كثرت أموال السعوديه واحتاجت الى شباب وموظفين من أصل نجدي، وكان عبد العزيز يختارهم ويشجعهم. فذهب الكثير منهم الى السعوديه وتسلموا الوظائف الكبيره، وكان منهم وزراء وسفراء وموظفين في أعلى الدرجات، امثال ابن الرواف، وابن الكحيمي، وابن حجيلان، وابن زين، وابن اوبن الخليل، وغيرهم. فلسنا في باب تعدادهم.
ثانيا: قهوة العكامه، او قهوة حسون:
لأن حسون كان يديرها قبل انتقاله الى قهوة البيروتي التي تقع على الجهه الجنوبيه من الجسر. وكانت قهوة العكامه (مرافقي القوافل وأدلائها) تنقسم قسمين، الكبير منها في البدايه وهي العامه. والصغيره في النهايه. وكان فيها أربع نخلات ويضع اشجار من الدفلاء , وكانت غير مسقفه وتطل على نهر دجله مباشرة، وكان يرتادها الأدباء والفضلاء من اهالي الكرخ، وأذكر منهم عبد الله القصاب، ومحمود عزة عبد السلام، وأحمد البغدادي , محمود مصطفى الخليل , وداود العجيل , ورشيد الهاشمي , وتوفيق الفكيكي , وملا نجم البصير , وسعيد جوجه ’ ويظهر ان كياسه ولطف القهوجي حسون هو الذي حلب الشهره الى المقهى.
ثالثا: قهوة البيروتي:
هو ابراهيم البيروتي الكرخي. وهذا المقهى أكثر سعه من قهوة حسون أذ تمتد الى منتصف سوق خانات الصوف والجلود والدهن مثل خان حمودي الوادي , وخان بيت الهندي , وخان الفنهراوي , وكان مدخل قهوة البيروتي الكبير العريض ملتقى الضرفاء من الكرخ , مثل ملا عبود الكرخي، الفهنراوي، حمودي الوادي , , وتوفيق الخانجي , وغيرهم من التجار اصحاب الخانات التي لم تكن تسمى خانات بل كانت تسمى (أسياف) لكبر مساحتها وتنوع البضائع فيها. وأشتهرت قهوة البيروتي كذالك بالنركيله التي يشرف على تحضيرها وتعميرها الأسطى علوان النركليجي. وكانت زوايا القهوه الخلفيه مخصصه الى لاعبي القمار وعلى رأسهم ابراهيم البيروتي نفسه , وهذا هو الذي اساء الى سمعة المقهى وانصرف الناس عنها ولم ينجح البيروتي في قهوه اخرى غيرها.
مقاهي الرصافة
أما في جانب الرصافة , فأشهر المقاهي هي
أولا: قهوة الشط الفوقانيه والتحتانيه:
وهي ملتقى تجار المنطقه وأصحاب المصالح في كمرك بغداد على الرصيف بناية المستنصريه ومراجعي البواخر النهريه والمسافرين والقادمين من والى البصره في مراكب بيت لنج ومراكب بيت الخضيري. هذا في التحتانيه.
أما الفوقانيه , فيلتقي فيها القادمون من الكرخ ومن شارع البنك صباحا للتمتع بمنظر نهر دجله وبالهواء البارد المنعش الذي يهب عليها من الجهه الشماليه والغربيه , أذ تبقى مقبوله وبارده طيلة ايام الصيف.وفي ركن منعزل منها كان يلتقي جماعه من الادباء والفقهاء البغداديين صباحا , ومنهم: عبد الوهاب ملوكي وأخوه يحيى وابراهيم الدروبي , والملا رشيد فقيه جامع الباشيشي , والشاعر سيد موسى , وأحمد البغدادي , والشيخ عيسى البندنجي , والسيد محمود الأطرقجي , وعبد الجبار طبره , ولم يتركوا هذا المقهى الى اليوم الذي انفجرت فيه قنبله صغيره في ركنهم من القهوه أيام تسقيط اليهود في أواخر الاربعينات. وفي الشتاء ليلا وعلى الاخص في أيام رمضان كانت قهوة الشط الفوقانيه تستدعي للغناء فيها الجالغي البغدادي المكون من القارئ اليهودي يوسف حوريش وتختة الموسيقى المكون من عزوري وجماعته.
ثانيا قهوة موشي:
وتقع في شارع السموأل (شارع البنك) على مرتفع من الا رض يصعد أليها بسلم من خمس درجات , وكانت مجمعا للتجار اليهود وبعض المسلمين , ومركزا للبورصه وأسعار السوق المحليه والعالميه , ومركزا مهما للدلالين , يقابلها في الجانب الثاني من الشارع قهوة رضا , وقهوة السيد محمد , وهما مركز تجمع التجار المسلمين بزعامة كامل الخضيري , وعبد الودود , وشاكر الضاحي , وبقية تجار الحبوب والجلود. ويعبر اليها يوميا التاجر المعروف توفيق الخانجي لقضاء صباحية جميله مع اصدقائه من بيت الخضيري , والشيخلي , وأسكنر استيفان ورفاقه. والى الشمال من هذه القهاوي وبجوار خان (ألأورطمة) (خان مرجان) تقع قهوة القيصريه في سوق القيصريه الذي تباع فيه الكواني وخيوط السوتلي. وكانت مقرا للقصخون أيام رمضان , أو أحد قراء المقام الذين يجلبهم العزاوي والشيخلي مستأجر القهوه.
ثالثا: قهوة الفسلان:
وتقع في ساحة الكيلاني في بداية طريق محلة التسابيل , وكان فيها بعض النخلات. وسبب شهرتها ان أحسن انواع الدبس في بغداد كان يباع فيها , وأشهر البياعين كان حسين حوار ابو علي الذي كان مستأجرا لقهوة المشهوره على نهر دجله في أول شارع أبي نواس , وكان رئيس عماله في المقهى أسمه حسين ابو علي ايضا , واشتهر هذا بأنه يحمل على يد واحده اثني عشر استكانا من الشاي للزبائن بدون ان يقع استكان واحد.
رابعا: قهوة هوبي:
وكانت بالقرب من موقف سيارات جسر السنك حاليا , وهي واسعه جدا , وفيها جناح لبيع الاخشاب , وكان هوبي مستأجر القهوه يجلس في مدخلها لابسا طربوشه الاحمر , وكان يغني في المقهى في بعض الأحيان قارئ المقام المشهور رشيد القندرجي مع الجالغي البغدادي. وكان رشيد يرتدي الطربوش والزبون والجاكيت. ثم انتقل هوبي الى الصالحيه وأستأجر حديقه كبيره بالقرب من سوق النجارين بالصالحيه في الحال الحاضر وارسى قهوته بين اشجار البرتقال والنخيل والرمان , فكانت قهوة صيفيه تشبه مقاهي دمشق ودمر وزحله في أشجارها فقط, وليس في مياهها وبرودة هوائها.
خامسا قهوة ناصر طوبيا:
وكانت في الصالحيه ايضا , بالقرب من جسر مود وكانت خاصه للطلاب فقط , فلا يرتادها غيرهم , عدا بعض اليهود والمسيحيين يوم الاحد والسبت , عند انتهاء نزهتهم على جسر مود , الذي كان منتزها في هذين اليومين غادين ورائحين الى وقت الغروب بأبهى وأحلى ملابسهم وزينتهم.وكانت قهوة الحسين حوار ابوعلي في شارع أبي نواس , وقهوة هوبي في الصالحيه وقهوة ناصر طوبيا مركزا وتحت احتكار (رزاقه) بائع الكبه , وجلوب بائع الصميط , ولا يجسر أحد من الباعة على ولوج هذه القهاوي والبيع فيها , وأظن انهم كانو يدفعون ما قسم الله لصاحب المقهى لقاء هذا الاحتكار.
أما صالح الجابي , فقط فتح مقهاه على شاطئ دجله , تحت جسر مود (بناية دائرة الري), وجعلها لاول مره في تاريخ العراق مقهى لبيع اوراق الدنبله (البنكو). وكان يفتح المقهى عصرا فقط. أما الجوائز فلم تكن نقدا , بل كانت عينيه , مثل الجوارب , والمناديل , والأمشاط , وحمالات البنطلون والجواريب (الآسقيات). وكان الاقبال على الدنبله كبيرا , فهو شئ جديد في عالم المقاهي.
وبعد المقهى فتح دكانا للحلاقه بجوار السينما الوطني في سيد سلطان علي. وفتح عدة فروع سماها صالون حلاقة الجابي. وصالح هذا رجل عصامي متشبث , وكان يجبي الاشتركات الشهريه والتبرعات لمدرسة التفيض الأهليه , فسمي صالح الجابي.
سادسا: قهوة حسن صفو , وقهوة عزاوي:
وهما في محلة الميدان بجوار سوق هرج الكبير , وسبب شهرتها هو احتوائها على مغنى ومرقص , وسميت اخيرا (تياترو). وكنا ونحن شباب مراهق نعبر من جانب الكرخ الى الرصافه في شهر رمضان جماعات , لاتقل الجماعه عن سبعة أشخاص , ذلك أن دخول مراهق واحد الى التياترو يوجب الشك والريبه ولايقبله صاحب المحل. أما دخول الجماعه فكان مقبولا. وكان السهر في شهر رمضان مقبولا عند أهالينا. وحين نعبر الجسر فأننا نرى في جانب الرصافه أشياء لانراها في الكرخ ولم نسمع عنها او نتصورها , فكانت جوله أستطلاعيه وجوله معرفه أكثر مما هي جولة للأنس والطرب , فندرس فيها طرقات وأزقة ومعالم جانب الرصافه.
وهناك عامل اخر لذهابنا , هو خوفنا من الاعتداء علينا , لأن صبيان وشباب كل محله يحذرون من دخول شباب محلة اخرى ويعتبرونه اعتداء عليهم. لذا كنا نحتمي من هذا الاعتداء المنتظر.
ووصلنا يوما في أحدى جولاتنا اليليه الرمضانيه الى أوتيل الهلال بالميدان , حيث كانت بدريه السواس ترقص وتغني هي وبقية المغنياة العراقيات أمثال:
سلطانه يوسف , وبدريه أم نور , ورحلوا , وسليمه باشا , ومديحه سعيد , وليلو بنت نومة. وفي الميدان قهوه مشهورة , هي قهوة خليفه التي تحتل نصف ساحة الميدان في أيام الصيف , وخليفة هذا هو من أشقياء محلة الميدان. ولذلك لم يكن مراقبو البلدية يتحرشون به او يمنعوه من احتلال الساحه. وقريب من قهوة خليفه كانت قهوة السيد بكر , وهي مركز تجمع صم بكم ومجمع هواة تربية البلابل.
سابعا: قهوة عارف آغا:
وتقع على شارع الرشيد , وهي من جملة أملاك عائلة عارف آغا المشهوره.
وكان بيتهم كبير خلف المقهى تماما. وكان كبيرهم حياً , وهو آصف عارف آغا. وفي البيت هذا اسطبل كبير للخليل , وقد دعينا اليه مرات , ذلك ان ابنه كان تلميذا معنا في مدرسة التفيض الأهلية , وكان يدعنا بمناسبات كثيره , وحين اعترض السيد حسن العاني مدير المدرسه على كثرة هذا الولائم للتلاميذ , أوضح له الاب ان هذه الولائم لطلاب الصف نفسه والمدرسه نفسها , رغبة منهم ابعاد ابنه عن اللعب ومعاشرة اولاد السوء من المحله وتحاشيا لما ينتج من ذلك , ثم أولَم للمدير والمعلمين وقسم من التلاميذ وليمه كبرى في مزرعته القريبه من بغداد.
وصارت قهوة عارف آغا مقرا للصحفيين والمعلمين، خصوصا في أول الثلاثينيات , حين صدر قانون الذيل لتطهير موظفي الدولة , وبموجبه فصل عدد كبير من المعلمين. فأتخذ أكثرهم هذا المقهى مقرا لهم.
ومن اهم روادها نوري ثابت صاحب جريدة (حبزبوز) , والصحفيون: يحيى عارف , وعادل عوني, ويونس بحري , والغلامي , والفكه المشهور ناصر عوني , وشفيق سلمان, وغيرهم من أفضل المعلمين والأدباء.
ثامنا: قهوة حسن عجمي:
وهي من أنظف المقاهي في بغداد , وتقع في الحيدر خانه بجوار مدرسة شماش اليهوديه من جهة الجنوب ودكان أزباله بائع الدوندرمه من جهة الشمال (ازبالة مشهور كشهرة حسن عجمي). وكانت أرض المقهى تغسل يوميا , والوجاغ محل عمل الشاي ممتلئ بأنواع السماورات الروسيه الأصليه (المسكوف) , أي الواردة من موسكو , حيث كل الناس يسمون الروس (مسكوف). وعلى الوجاغ ذلك انواع القواري شكلا وحجما. اما أغطية القنفات في الصيف ’ والزوالي في الشتاء , فكانت تنظف يوميا , ولاعجب , فان حسن عجمي نفسه أنيقا في ملبسه ومحترما في تصرفاته , وكان يقتطع زاوية المقهى أيام الصيف للتلاميذ , ليذاكروا دروسهم ويمنع لعب الطاوله أو الصياح قرب التلاميذ , حتى ينتهوا من مذاكرتهم. ومن اسباب شهرة المقهى ايضا الشاي اللذيذ والذي تبين بعد التحقيق , ان حسن عجمي كان يضع قطعه صغيره جدا من الترياك تحت غطاء القوري أثناء التخدير , وذاللك هو الذي يعطي الشاي مذاقه المتميز .
ومن الظواهر المتميزه في هذه المقهى وجود القزم الايراني (شفتالو) وطاسة الماء بيده والتظاهر بالغباء والضراط حسب الطلب.
تاسعا: قهوة الشابندر:
بالقرب من المحاكم ومقابل القشلة , وكانت محطا لكافة مراجعي وحكام ودوائر الدوله , فهي مزدحمه بالزبائن الذين يشربون النركيله بانتظار فتح الدوائر الحكوميه , أو انتظار قرار المحاكم المختلفه , أو قول الموظفين للمراجعين (روح تعال بعد ساعه ). وبجوار قهوة الشابندر دكان لبيع القرطاسيه وورق العرائض والطوابع الماليه يعود لرجل من بيت الاحمدي. كما كان هناك دكان للطباعه يعود لرؤوف الأعمى , كما كان يسمى وهو من جانب الكرخ , وكان بصره كليلا ومن الصعوبه ان يقرأ , رغم العوينات , لذلك , فهو يقرأبعين واحدة , ثم يدير وجهه ليقرأ بالعين العين الثانيه , ريثما تستريح العين الاولى من العناء. وبجوار المقهى مصوران بالماكنة القديمه لتصوير من يحتاج الى صور في مراجعته للدوائر. وعلى الحائط في محل المصور قطعه من القماش الاسود فيها مختلف التصاوير لاظهار خلفية من يريد التصوير فأما غابه مليئه بالوحوش , او في زورق او مركب بخاري كبير. ولا بد ان يمسك بيده مسبحه كهرب ومسدس خشبي باليد الاخرى , لاضهار كونه من الاشقياء وكرسيين للجلوس , ريثما ينتهي المصور من غسل الصور بعد رؤية (العكس) , اي الصور السلبيه , والتأكد ان عملية التصوير كانت ناجحه. وفي المساء كانت قهوة الشابندر محلا لانتظار (المايخانة) المجاوره للمقهى والتي تفتح بعد أذان المغرب ,او بأنتظار (القصخون) , او قارئ المقام العراقي وجوقة الموسيقى في بعض ايام السنه.
عاشراً:
وفي الباب الشرقي والبتاوين , قهوتان مشهورتان , هما: قهوة كزار وقهوة العبد , قهوة كزار أقدم قهاوي الباب الشرقي , وكانت محلا للنزهة والراحة. أما قهوة العبد , فكانت مقابل بستان الخس , بمكان سينما سندباد حاليا , وهي موجوده من زمن الاتراك ومشهوره بأنها خارج منطقة نفوذ الجندرمة في العهد العثماني.
وكانت ملجأ الأشقياء والفارين من القتله واللصوص. لذلك فان روادها كان يرجعون الى بغداد قبل غروب الشمس , بعد ان يشربوا عرقهم ويأكلون مزتهم من الخس من بستان الخس. وكانت قهوة مشجره تخترقها ساقيه بساتين البتاوين , لذلك اعتبرت هذه الاشجار حماية ضد طائرات القوه الجويه البريطانيه عند هجومها على بغداد في ثورة مايس 1941. وهناك مقهى صغير في شرع أبي نواس , هو مقهى الحجي رشيد الذي يرتاده شاربو العرق فقط , لان الحجي رشيد صاحب المقهى مدمن على العرق ليلا ونهارا.
مستل من (بغداد في العشرينيات)
المصدر: المدى
الكاتب:عباس بغدادي
1024 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع